مقاربة نقدية في اقصوصة :”من يوميات خوسيه بن محمد ” للكاتب “عادل الباهي” بعنوان ” في التبئير السردي للأقصوصة”
وردت الأقصىوصة في شكل يومية من يوميات خوسيه بن محمد البطليوسي كما صرح الكاتب
“عادل الباهي” في نهاية نصه
إن القارئ للاقصوصة قد يصاب بنوع من الحيرة تتصل اساسا بمنهجية تناولها والأدوات التي بها تقع دراستها الدراسة النقدية المستجيبة للأهداف المضبوطة لها في مستوى جمالية التلقي شكلا ومضمونا برؤية قرائية تعتمد على مفهوم “التبئير.” Focalisation وهو مصطلح يعتبر من مقومات السرد باعتباره كما حدده العديد من النقاد “ينصب في حصر مدى الرؤية لدى الشخص الراوي داخل القصة من خلال مجموعة من المعلومات المحددة فقط وقد تم اللجوء إلى لفظ التبئير لتوصيف هذا المعنى نظرا إلى أن طبيعة السرد في هذه الحالة تتم من خلال بؤرة محددة تحصر إطار رؤية الراوي” كما بين كل من “روبيرت وارين” و”كلينت بروكس ”
وان نحن انطلقنا من جنس الكتابة الذي اعتمده الكاتب وهو اليوميات
فإننا لا بد من تحديد نوعية الخطاب السردي الذي منه نتبين المقومات القصصية في النص المتمثلة في الخط السردي من حيث خطيته او عدم خطيته في مستوى الأحداث ثم الشخصيات لا سيما الشخصية الحكائية والعلاقة بينها وبين الراوي ومدى علمه بالأحداث وهنا تكمن الرؤية السردية كاستراتيجية منها يتحدد موقع الراوي ونتبين هذا الأمر منذ وضع البداية الذي يعرفنا بالشخصية الأساسية بطريقة الغائب حيث نجد شخصية تبدو مهزوزة نفسيا تعيش انكسارا وتأزما “يأوي إلى فراشه على الساعة العاشرة ليلا وينهض منه في الخامسة صباحا دون أن يغمض له جفن” ولا شك في أن هذه البداية المتوترة تدفعنا إلى رغبة ملحة في تعقب بقية الحكاية لندرك أن الرجل يعاني من أزمة هوية او وجود وهو الذي يقارن بين الأمس البعيد عن اليوم المشابه له مع فرق بسيط إذ تعبر عنه تلك الشعيرات البيضاء التي غزت رأسه ولحيته كما قال
هذا النوع من الرؤية السردية التي انطلق منها الكاتب تؤكد ان الراوي والشخصية الحكائية يتحركان في نفس الفضاء الزماني والمكاني في خطين متوازيين يطفو عليهما ضميرا المتكلم والغائب في سرد الوقائع في إطارها التاريخي الواقعي المتصل بما عاناه الموريسكيون عندما وقع تهجيرهم من الأندلس وما فرض عليهم من نمط جديد في المعيشة ولذلك صار “الوليد بن محمد البطليوسي” الغريب مجبرا وقد وجد نفسه منبتا وهو الذي نزع كل شيء يشده إلى أرضه دينه عرضه لغته ” إنه ذلك الذي أصبح بقدرة الزمان الغدار” خوسيه فريديريكو دي مانويلا” وهو اسم من ثقافة جديدة لم يستطع ان يتقبل ما يعيشه من طمس لهويته
بوضعية جدبدة هيأ لها كما قال ما ناسبه من ثياب عافها بدنه لو قدر على الكلام”
وقد حدد الناقد “توماشفسكي” هذه الرؤية السردية في علاقة بما سماه “السرد الذاتي ” باعتبار ان الراوي عبر يومياته يستعرض الوقائع التي عاشها عبر التذكر للماضي بكل أزماته التي تلقي بظلالها على الحاضر المرير وهنا يترك السارد الحيز السردي باعتباره الشاهد على الأحداث حتى وان كان ذلك بضمير الغائب لذلك تركه يعبر عن مكنونات نفسه بكل ما ازماتها ليعبر قائلا :”أما الروح فمن كثرة الخيبات فلم يعد لها حيلة فاختارت الصمت تسليما لا راحة وسكينة”
هكذا يجد الإنسان نفسه وقد صار مفعولا به في واقع جديد مفروض، عليه وهو ذلك الذي “في يوم وليلة وبعد أربعين سنة من وجوده على هذه الدنيا أصبح يلبس برنيطة وسروالا ضيقا شبيها بتبان النساء، الداخلي بدل شملته الصماء الواسعة الفخمة وعمامته التي تزينها ريشة بني امية” ويستمر عرض تلك الوقائع التي حفرت جروحات وندوبا في ذاكرة منهكة كما حدثه شيخه الذي، تتلمذ عليه في تحديد تاريخي دقيق من سنة 1430،م حين قرر ان يترك بيته الذي بناه حجرا حجرا في ضواحي بطليوس ليهاجر إلى مصير مجهول”
إنها المأساة التي فرضها بطش جنود ايزابيلا وأخبار مجازرهم بطليوس بعد أن نكلوا بعائلة زوجته في طليطلة في ذلك العام انطلقت حملة التهجير”
اتراه التوثيق لفظاعات شنيعة عاشها الموريسكيون بكل ما تعرضوا إليه من تنكيل عصابات من المستوطنين لنهب المسلمين بتحريض، من اليزابيلا لذلك اختار أن يهاجر غربا إلى عدوة البرتغال وهو الذي يتقن القشتالية جيدا وهو ما يسر عليه الاستقرار في لشبونة
هكذا حدثه شيخه الذي، قد يكون سعى إلى التخفيف من مأساته التي لن يمحوها واقعه الراهن في حياته الجديدة وقد عود نفسه ان يخاطب نفسه بخوسيه وليس، الوليد وعود نفسه ان يترك لغته العربية ليستعمل القشتالية خاصة وان عيون حاكم البرتغال لا تقل خطورة عن عيون إليزابيث
ان رحلة “خوسيه بن محمد البطليوسي” في الواقع الجديد هي رحلة كل من عاش هذه التجربة المريرة في عملية طمس، للهوية الحضارية بكل سماتها ومعالمها المؤسسة لها ليجد نفسه يدين بدين اخر وعادات أخرى يحاول اقناع نفسه بما علمه شيخه “أن الأديان من مصدر واحد وإن النصارى إخوان المسلمين ” مع أنه لم يكن يتوقع وهو الصبي، ان تدينه سيصبح تهمة وان ما تعلمه حرفا وطوعا سيغدو، ممارسة وكرها ” هكذا تنغلق الاقصوصة بتساؤل يحمل ما يحمل من حيرة ممضة بكل ما فيها من سعي للبحث عن الحقيقة لها ابعادها الفلسفية والحضارية في مجالها العقائدي :”أهل تكون تلك التعاليم غالطة أم إن تلك المبادئ تتغير عندما يكون الهلال او الصليب في أعلى الهيكل؟ ”
وينغلق النص بتوتر آخر يتخذ بعدا فكريا فكان عودا على بدء لتتبدى لنا الشخصية الرئيسية ذاتا تعيش أزمة حادة وجوديا وانسانيا وعقائديا واجتماعيا عبر مونولوج سيطر عليها عبر كل المراحل وهي بصدد تمثل الحاضر او الأمس بالمقارنة بالواقع الراهن او الحاضر في إنشاء لاستمرارية في الذاكرة الفردية من خلال معاناة الشخصية الرئيسية عندما تجبر على أن تحمل اسما مركبا شكل له يحيل على حضارتين فهو مزيج من عقيدتين الإسلام والمسيحية “خوسيه بن محمد البطليوسي” ذلك الذي هاجر غصبا عنه إلى مصير مجهول كل ذلك ورد في علاقة بالذاكرة الجماعية عبر صور ساهمت في تشكيلها بكل خلفياتها التاريخية متلبسة بالخيال السردي يتجلى معه الوعي الإنساني بالقضايا الشائكة لا سيما ما واجهه المسلمون من عمليات تنكيل بهم ومن حيف النصارى وجبروتهم في أسلوب فني قدم من خلاله السارد معلومات ربما قد تكون أقل مما تعلمه الشخصيات والتي يراها
“جيرار جينت” :”انها مفرطة في مضمون بصري يقترح مفهومه ما يسمى بالتبئير” وهو المفهوم الذي اهتم به “تودوروف” في مؤلفه “الأدب والدلالة” إذ حدده في عناصر معينة كالزمن والمظهر وآليات السرد حيث يتقاطع القص الموضوعي الذي ينتجه ضمير المتكلم subjectif بالقص الذاتي من خلال الصوت الداخلي للشخصية الساردة من جهة في علاقته بضمير الغائب objectif الذي ينهض به الراوي من جهة أخرى عبر مجموعة من التقنيات المتنوعة في سرد الأحداث بكل تجلياتها وتأثيرها المباشر على الواقع المغاير للماضي دون محاولة اختراقه او التمرد عليه قصد التأصيل لكتابة قصصية تستمد مادتها من التاريخ وبناء جسر لعلاقة متينة بين السرد والتاريخ بسبب اتصالها بالخبر مع أن كل ذلك لا يمنعنا من ان نؤكد على عنصر التخييل فقد يكون الحدث واحدا ولكن تختلف طريقة سرده في النص الإبداعي القصصي ومن هنا كانت خصوصية هذا النوع من السرد وكان لا بد من التمييز بين السرد التاريخي والسرد القصصي في يوميات خوسيه بن محمد البطليوسي ” للكاتب” عادل الباهي
(الدكتورة الناقدة مفيدة الجلاصي)
الأقصوصة
بقي على حالته تلك ثلاثين يوما بالتمام و الكمال. يأوي إلى فراشه على الساعة العاشرة ليلا و ينهض منه في الخامسة صباحا دون أن يغمض له جفن. ما أبعد الأمس عن اليوم و ما أشبهه به. هو نفسه هو مع فرق بسيط تعبر عنه تلك الشعيرات البيضاء التي غزت رأسه و لحيته. الهيكل العظمي نفسه، اللحم و الشحم في نفس المواضع لكنها بساطة غريبة، غير مفهومة، تافهة إلى حد، قاتلة في جوهرها. كيف يكون نفسه، و هو الذي نزع كل شيء يشده إلى أرضه، دينه، عرضه، لغته… الوليد بن محمد البطليوسي أصبح بقدرة الزمان الغدار خوسيه فريديريكو دي مانويلا. اسم من ثقافة جديدة هيأ له ما ناسبه من ثياب عافها بدنه لو قدر على الكلام. أما الروح فمن كثرة الخيبات فلم يعد لها حيلة فاختارت الصمت تسليما لا راحة و سكينة . في يوم و ليلة و بعد أربعين سنة من وجوده على هذه الدنيا، أصبح يلبس برنيطة و سروالا ضيقا شبيها بتبان النساء الداخلي بدل شملته الصماء الواسعة الفخمة و عمامته التي تزينها ريشة بني أمية. اربعون سنة من وجوده يلفها قرون من وجود عائلة بني هود التي ينسب إليها كما حدثه عن ذلك شيخه الذي تتلمذ عليه و كان عارفا بكل أنساب العرب في شبه الجزيرة. في العام 1430 م قرر ان يترك بيته الذي بناه حجرا حجرا في ضواحي بطليوس ليهاجر إلى مصير مجهول.. ترك كل جيرانه بيوتهم هربا من بطش جنود إيزابيلا و قد وصلت أخبار مجازرهم بطليوس بعد أن نكلوا بعائلة زوجته في طليطلة. في ذلك العام انطلقت حملة التهجير… تفرق الجماعة ، قصد الجميع مرفأ قرطاجنة وفق معاهدة الخزي التي سطرتها اليزابيث.. قالت فيها بلغة خبيثة “يوجه غير المسيحيين من مملكة قشتالة و اراغون إلى قرطاجنة إذا رفضوا احترام أعراف المملكة ليرحلوا إلى مواطنهم الأصلية في بلاد المسلمين”. كان يعرف ان الموت محقق في ذلك المسار فإن لم يكن من بطليوس من غرب الجزيرة إلى قرطاجنة في شرقها و قد حرضت اليزابيلا عصابات من المستوطنين على الطريق لنهب المسلمين سيكون محققا في بحر لا يرحم. هاجر الجميع شرقا و اختار هو أن يهاجر غربا إلى عدوة البرتغال.. الطريق أكثر امانا لمن تعود الدرب… بين ليلة و ضحاها محت قرونا و قرونا أصبح خوسيه النساج…كان يتقن القشتالية جيدا و هو ما يسر عليه الاستقرار في لشبونة… ناسبته الظروف فقد كان مسيحيو إسبانيا من منطقته الغربية بل ومن برشلونة و سرقسطة يذهبون إلى البرتغال و هي التي بدأت تنفتح على العالم ببحرها الواسع الذي قد تكون وراءه قارات جديدة.. هكذا حدثه شيخه و هو يعرض عليه خرائط جلبها من عدوة المغرب… ثلاثون يوما لم يغمض له جفن، و هو يفكر في حياته الجديدة، عود نفسه ان يخاطب نفسه بخوسيه و ليس الوليد و عود نفسه ان يقصر استعماله على القشتالية دون عربية قد تودي بحياته و حياة عائلته… درب نفسه على حياة جديدة فعيون حاكم البرتغال لا تقل خطورة عن عيون اليزابث… اتفق مع سمسار في حيه الجديد على أن يجد له دارا في ريف سلمنقة (salamanca) القرية التي سماها ملك البرتغال إرضاء لاليزابيت بعد أن أعطته فرجها, سيوثثها بخنازير و قبو فيه شراب على عادة الروم و يذهب في منتصف النهار إلى الكنيسة عند سماع الناقوس و يقف جاثما بركتبيه امام المذبح و يبدل الله بالرب و الصلاة على محمد ببركة عيسى و الشهادتين بالاقانيم الثلاثة.. علمه شيخه ان الاديان من مصدر واحد و ان النصارى اخوان المسلمين و لكن لم يكن يتوقع وهو الصبي يومها ان تدينه ستصبح تهمة و ان ما تعلمه حرفا وطوعا سيغدو ممارسة و كرها…!هل تكون تلك التعاليم غالطة ام ان تلك المبادئ تتغير عندما يكون الهلال أو الصليب في اعلى الهيكل.. (من يوميات خوسيه بن محمد البطليوسي)، عادل الباهي.
Discussion about this post