قصة قصيرة للنقد
خازن الجنان
.
على تلك الصخرة الملساء أضع رأسي متوسّدا كفي حتى أغرق في سبات عميق، تلقفني الشمس المسكونة بالأحلام والأمنيات تدثرني بدفئها الربيعي منتظرة معي وعود الأجداد… يَرِنُّ الجوّال كعادته مصلصلا، أستيقظ مذعورا،
– من المتصل، ألو ألو….؟!
لم انتبه إلى المنبّه، نظرت في قائمة المتصلين تراءى لي، اسم غريب، فركت عيني جيّدا أعدت التحديق، تثبّت،إنه والدي.
– اعدت الاتصال، أجابني صوت غليظ أجشّ، مرحبا،ماذا تريد؟
– لا شيء فقط، رغبت بسماع صوتك الحبيب و الظفر ببعض نصائحك الثمينة، والدي معي؛ أليس كذلك؟!
– آسف والدك نائم الآن أتترك رسالة أبلغلها إياه؟ أنا خازن الجنان و راعي الأحلام.
– لا شكرا، لكنه اتصل بي منذ دقائق هل عاد إلى نومه بهذه السرعة، أرجوك تثبَّت من الأمر، حاول أن لا تزعجه، فقط قل له إبنك يقرئك السلام، و إن أبدى رغبة في التواصل معي سأعيدها ، رنّة واحدة،لن أملّ الانتظار.
قلتها وفي نفسي شوق كبير يضطرم مثل أتون فوّار، لهفتي لا تقاس بالأسحار لكنني أتجلّد ولا أنهار في حضرة والدي كي لا يقول آدم كعادته مهذار، سأجعله يفخر بي، لن أدعه يلمح دموعي هذه المرة.
لم انتظر طويلا كما وعدت الخازن فعاودت الاتصال، أجاب مستغربا، قل لي بربّ العزة ما الذي بينكما حتى يُشِعّ كل هذا النور المتدفّق من محيّاه حالما سمع اسمك؟
– إنني الأثير لديه، يحبني حب الأب والابن والأخ والصديق و الرفيق. آه، يازمن الغدر ، تأخذه ولم أوف بوعدي له بعد. لم نبن معا بيتا في الجنة لم نصلّ في مسجد الأخيار. لم…..
قاطعني مخاطبي :
– لقد ترك لك رسالة حميمة ” أنا ممتنّ لك ، وصلتني المؤونة والفوانيس و الحليّ والكساء و الدثار وقد أغدقت على كل الأهل والأجوار، زادك الله من فضله ابني البارّ “.
انقطع الخط ولم أعاود الاتصال مجدّدا ، غفوت للحظات ثم قمت مذعورا ، سأكون سخيًّا هذه المرة مع أهلي وأجواري لن أدّخر جهدا، لم يعد لي مال، رحت أجدّد الدعاء في صلاتي وقيامي أرتجي الرضاء.
كل من يراني كان يدعو لوالدي الرحمة والمغفرة، على غير عادتي استيقظت باكرا قبل بزوغ الشمس، ذلك الشعاع النوراني يغسل عيني ينير دربي حتى إذا ما اشتقت للتواصل معه وسماع صوته اضبط المنبّه على ساعة مخصوصة فأجد صدري ينشرح و العصافير تردّد صداه و الفراشات تحلّق فوق رأسي، و فرسي العربي الأصيل يصهل عاليا مبشّرا بالرحيل.
طال الركض لساعات وساعات وهو يركض و يركض ازداد نبضي و ارتعدت الأرض من حولي حتى لاح لي فجر جميل ينير الديجور ويفتح لي باب الأمل الموصود ويشفي جرحي المكلوم، في المهد والدي يبتسم بثغره الجميل يلثم صدر الأرض فتفيض من لبنها الخضرة و الخيرات و ينمو البلح العراقي و يعبق الياسمين الشامي فتجري مياه دجلة والفرات و يغمر القدس زهروحنون ،تتطاير فوقه عرائس المروج والولدان المخلدون و حمائم النصر القريب. ..
كان صوت الداية يبشّرني بملاك جميل . أبكي حتى تخنقني العبرات، أتركه وحيدا وأعود إلى حضن والدي قريرا حالما انتهيت من تحرير ذاتي من جبنها المسكون ، لفظني القبر خارجا” لازلت لم تعبأ بكل المهام، واصل بحنكة وتدبير ، كل الرسائل استنفذتها ، حان أوان التنفيذ ” .
طال نومي واشتقت إلى مرأى فقيدي ، ومرأى الديار أعددت جواز سفري و حقائبي وقررت العودة إلى حلبة الصراع، في طريقي إلى المطار علمت نبأ إلغاء كل السفرات طيلة فترة الحظر. فجمعت الحطب وأشعلت نيرانا أضاءت كل الحقائق، وها أنني أفهم أكثر اللعبة و أخشى العودة إلى زمن القحط و النكران . رن ثانية فلملمت شتاتي و اكتسيت حلة البياض، جمّعت كل أعمالي بصحائفي الصفراء ثم غادرت عين الشمس إلى غياهب الجب كانت خطواتي متعثّرة وقد أخذت تتباعد بحثا عن السيارة في الصحراء.
فجأة ينفتح باب كبير على مصراعيه يخرج منه اثنان يمسكان بي يفتشان أمتعتي ثم يقرآن صحائفي، وأنا ارتعد متقصيا تفاصيل ما يرتسم على الوجهين، أحدهما يطوي ما بين يديه مزهوّا بينما يستوقفه الآخر بعض الأمور كي يستضيء بفهمه الثاقب، لم أكن أعلم أنني سأنجو وقتئذ و يسمح لي بالعبور، ظللت ألهث و ألهث حتى اقتربت مني يد سقتني عذب الماء حتى الارتواء . أهزّ بصري بخشوع فتزهر الصحاري من حولي وتتدلّى الأعناب، أبحث عن والدي علني أراه فأدعوه للاستطعام لم أجده لكن بلغني صدى صوته:
واصل، واصل إلى الأمام فأنت في الطريق السوي نحو الخلود.
لامست الشعاع و تصاعدت روحي مع الأثير لأجدني بينكم في الواحة استظل بظلال الهداية والأماني. أحمد الله لم يكن كابوسا بل تأويل لمرايا العقل منعكس على جدران الذات. لا زال النعش مرفوعا بين الأذرع الصلبة و لم توارى جثته التراب وأراني أفقد صوابي فما بال من فقد راعيه منذ عهود، استفق يا آدم مشوارك طويل و قطيعك قد تجاسر، نارك ستبرد بعد أخذ ثأرك من الطغاة. صوت تلك الصخرة الملساء زادني صلابة توقفت عن الغثيان أمسكت رأسي بكلتا يدي، ضغطت بقوة على صدغي و صحت عاليا، أبتـــــاه.
تجمّعت من حولي كل الوحوش ترغب في نهشي، استضعفتني في البداية لكن حالما أوقدت جذوة الإيباء تشتتوا من حولي كجرذان صيف قاحل.
أمطرت السماء دون رعود فتحلقت أذرع طويلة تريد حملي على الأعناق عاليا حيث تحلق الصقور. رفعت بصري رأيت قلعة يربض فيها الفرسان يقودهم مجد العربيّ ملامحه كانت تشبه ملامح أبي وجدي و أخي.
على صوت المؤذّن استعدت وعيي واستعذت من الشيطان، اتراها البشرى بقرب الخلاص، كانت ليلة مريرة دون أبي.
سيدة بن جازية تونس
Discussion about this post