مختارات ..
=-=-=-=-=-=
الفضيلة (Virtue ) ..
بمفهومها الثابت و المتبدل ..
د.علي أحمد جديد
يمكن الإجماع على تعريف (الفضيلة) بأنها الخلق الطيب .. والخلق هو “التعوّد بالإرادة” ، لأنه إذا اعتادت الإرادة شيئاً طيباً صارت هذه العادة (فضيلة) . والإنسان الفاضل هو ذو الخلق الطيب الذي تعوّد اختيار ما تأمر به الأخلاق ، وبذلك يمكن التفريق بين الفضيلة وبين الواجب بوضوح ، إذ أن (الفضيلة) صفة نفسية تلتزم الأخلاق ، بينما يكون الواجب عملاً خارجياً يستوجب القيام به وتأديته ضمن شروطه المحدَّدة . وعلى هذا يكون الواجب عملاً مشروطاً وتكون الفضيلة سلوكاً أخلاقياً .
ويمكن ان تكون (الفضيلة) هي العمل نفسه وحتى من “فضائل الأعمال” ، ولكن ذلك لا يشمل كل عمل أخلاقي وإنما يشمل الأعمال العظيمة التي يستحق فاعلها الثناء والشكر والمديح .
وتختلف قيمة الفضائل لدى الأمم اختلافاً كبيراً ، ولكل أمّة قائمة تتضمن الفضائل تختلف عند أمّة أخرى ، لأن ترتيب الفضائل في كل أمّة يتبع مركزها الإجتماعي والظروف المحيطة بها ، وترتيب الفضائل في الأمّة المحكومة غير الترتيب في الأمّة المتسلطة .. والأمّة المهددة بالحروب تكون الشجاعة لديها أهم فضيلة ، بينما ترى الأمّة الآمنة المطمئنة في العدل خير فضيلة .
كما يختلف مفهوم الفضيلة باختلاف العصور ، فما كان معروفاً عن الشجاعة عند الاغريق هو غيره اليوم لدى الدولة اليونانية الحديثة ، فقد كانت فضيلة
شجاعتهم تعني الصبر على تحمل الآلام الجسمية ، ولكنها اليوم تشمل تعبير الإنسان عن رأيه بكل حرية دون خشية من حوله .
وكذلك هو العدل الذي تطور مفهومه بتطورات الأمم في حالتها العقلية والإجتماعية وأيضاً الإحسان إلى الفرد بالتصدق عليه الذي كان من أهم الفضائل في القرون الوسطى وصار موضع نقدٍ وازدراء في العصور الحديثة ، لأنه لا تمييز فيه بين المستحِق للإحسان وبين غير المستحِق تمييزاً يمكن الوثوق أو الاقتناع به ، لأنه يثبط من همّة مُتلَقي الاحسان إليه ويقعد به عن العمل . وقد استحدث المحسنون إنشاء جمعيات للإحسان تجمع التبرعات من الأفراد لتتولى إداراتها الإنفاق على المعوزين بعد دراسة حالاتهم والتعرّف إلى حقيقة فقرهم الذي يدّعون . ولا تكتفي هذه الجمعيات بإعطاء المال إلى المحتاجين ، بل باتت تسعى لإيجاد العمل لمن لا عمل له ، وتنقذ أولاد البائسين من آبائهم حتى لا ينشأوا نشأتهم .. وأوجدت المدراس الصناعية ، لتعلمهم العلوم العملية والحِرَفية حتى لا يكونوا عالة على المجتمعات . وقد اهتمت الأمم بإنشاء الجمعيات ، ومنعت إحسان الفرد للفرد ، في الوقت الذي تحضُّ على إحسان الفرد للجمعيات حصراً .
وذلك ما غيّر من مفاهيم الفضائل ، بعد التدخل فيها وتهذيبها لتناسب العقل الحديث والتقدم المدني والاجتماعي الذي يطرأ على كل أمّةٍ من الأمم .
كما تختلف أيضاً قيمة الفضائل باختلاف حالة الأفراد الاجتماعية وأعمالهم ، ففضيلة الكرم – مثلاَ – بالنسبة للفقير ليست بذات الأهمية بالنسبة للغني ، ولا الفضائل الضرورية للمسن التي تشكل الضرورة القصوى بالنسبة للشاب ، ولا يمكن ترتيب فضائل المرأة كترتيب فضائل الرجل ، ولا فضائل التاجر هي نفسها فضائل العالِم والباحث … وهكذا .
ومن الصعوبة على الأعراف الأخلاقية باختلافها التعمق في التفصيلات ، وبيان الإختلافات الدقيقة بين الأشخاص والتي يترتب عليها اختلافٌ في قيمة الفضائل .
وكل مايمكن قوله أن الناس جميعاً — مهما اختلفوا — مطالبون بفضائل عامة من صدق وعدل ونحوهما ويجب أن يتصفوا بها ، وأنهم على اختلاف طبقاتهم ودرجاتهم يستوون في شيء واحد ، وهو أن كلاً منهم مطالب بأن تكون فضائله تناسب حالته وأن تتفق مع مركزه الإجتماعي وعمله الذى يؤديه ، مهما اختلف تطبيق ذلك .
ويمكن أن تكون الفضائل أكثر شمولية ، كالأمانة التي تدخل في مفهوم العدل .. والقناعة التي تدخل تحت مظلة العِفّة .
وفي مذهب سقراط” فإنه يرى أن “لا فضيلة إلا المعرفة” ، ويرى بذلك أن معرفة الإنسان للخير وللشر تكفي وحدها لعمل الخير وتجنب الشر ، وأن إقدام الإنسان على الشر ليس له من سبب إلا الجهل بنتائجه ، ولو علم الإنسان نتائج الشر علماً جازماً وصحيحاً لما أقدم عليه ، لأن كل الشرور ناشئة من الجهل . وكذلك لو علم المرء أين الخير لعمله حتماً ، وعلل ذلك بأن كل فرد بطبيعته وبفطرته الإنسانية يقصد الخير لنفسه ويكره لها الشر ، ومن المحال أن يفعل ما يضرها وهو عالم بضرره . وما يصدر عن إنسان من الخطأ إنما منشأُه الجهل بما يعقب العمل من نتائج أو الشك فيها ، وعلاج الشرير تعليمه بمعرفة نتائج الأعمال السيئة التي تصدر عنه تعلماً صحيحاً . ولتعويد فردٍ ما الخير وجعله مصدراً للفضيلة تجب معرفته بنتائج الأعمال الحسنة .
وكثيراً ما يعلم الفرد الخير ويتجنبه ، ويعلم الشر فيأتيه ، وبذلك تكون معرفة الخير غير كافية في الحَملِ على فعله ، بل لا بد أن تنضم إلى المعرفة إرادة قوية تتيح للفرد عمل ما يعرف من العلم .
ولكن في رأي “سقراط” أنه ليست هناك في الحقيقة إلا فضيلة واحدة وهي “المعرفة” أو مايمكن تسميتها “الحكمة” ، وماغيرها من الفضائل كالشجاعة والعِفّة والعدل إلا مظهرٌ من مظاهر المعرفة وصادرٌ عنها .
ويرى (أفلاطون) أن في الإنسان قوتين اثنتين إذا اعتدلتا نشأت عنهما الفضائل ، وهما :
* – القوة العاقلة ، والتي إذا إعتدلت نشأت عنها فضيلة الحكمة .
* – القوة الغضبية ، وهي التي إذا إعتدلت نشأت عنها الشجاعة .
بينما يقول (سبينوزا) عن”الفضيلة” بأنها القدرة والاستطاعة على كيفية التصرف والفعل ، ويقصد بذلك “القدرة” أي قدرة الفرد على ذاته ، لأنه كلما ازداد الإنسان سعياً وراء ما فيه الفائدة من أجل العيش والبقاء ازدادت متعته بالفضيلة ، وبذل أضعاف الجهد للمحافظة على بقاء النفس ، وذلك هو الأصل الوحيد للفضيلة .
وقد أجمعت الفلسفات على فهم الفضيلة بعمق ، وعلى بيان فوائدها لتعمَّ الفرد والمجتمع ، وبيان علاقتها الوطيدة بالقيم الأساسية والأصيلة الثلاث :
(الحق والخير والجمال)
بأبهى صورها و فوائدها .
وإن الفضيلة سمة لا تتغير ، وحقيقة لا تتبدل ، لأن الصدق لا تتحول في معناه المنافع ولا تؤثر فيه المغريات ، والوفاء هو نفسه الوفاء مهما اختلفت صوره وظروفه .
وكذلك العدل والعفو والإحسان ، كل هذه من الفضائل المستقرة والثابتة ، لا تغيّرها الظروف .
أما اليوم فقد كان لتأثير الماديات على الفكر الفلسفي ، ولسيطرة العصبيات الجنسية ، والنعرات المذهبية والعرقية ، الدور الكبير في تغيير وتبديل المفهوم العلمي والحقيقي لمصطلح (الفضيلة) وصارت لها أسماء ومعاني مغايرة ، فباتت :
– “القوة” فضيلة بدل الرحمة ..
– و”الظلم” فضيلة في محل العدل ..
– و”الاستعباد” فضيلة مُثلى بدل الحرية والاختيار .
Discussion about this post