” ذكرى ”
قصة قصيرة
كان وجهها ساكناً وشفتيها مضمومتين في صمت عميق ، يرقد جسدها بلا حراك فوق السرير في يوم شتوي غائم ، جعلت الوقت يبدو وكأن الليل يوشك أن يحل واللون الرمادي ينذر ببرودة قاسية ، زوجها مات في الحرب ، تقيم مع أطفالها عند أمها يتقافز حولها أطفالها الثلاثة يتحدثون ، ويتشاجرون ويتصايحون . لا تحرك ساكناً ، احساسها الدائم بألم شديد في ركبتها ، اعترضت طريق عينها مرآة معلقة علي أحد الجدران أزعجها اللون الأبيض الذي اكتسي به شعرها وتلك التجاعيد التي ملأت صفحة وجهها . اللوحة المعلقة علي جدران الغرفة باهتة ، الجزء الأسفل من جدار الغرفة منتفخاً وقد تعرت الغرفة من قشر الطلاء ز الضوء شاحب ، أرفف الدولاب القديم مكسورة ، ملابس غير مرتبة ، مرآة التسريحة مشروخة ، كتب متناثرة ، تود لو رتبتها ولكن بين الرغبة والفعل أسوار وقيود . الجدة بمعطفها الأسود وطرحتها السوداء الملفوفة بعناية حول وجهها الأبيض ، تجلس علي كنبة في الصالة ، تنظر إلي أمها العجوز ومستقبل أطفالها في حسرة ، الأولاد ينقصهم تربية ، لا تملك سوي أن تتعاطف معهم ، تنسكب السنوات أمامها ويعدو العمر ، تتتابع الصور أمام عينها ، شريط سينمائي دون ترتيب قديم ، يتشاجر الأولاد ، لا تتحرك ، لا تهدأ الضجة ، من المنزل طوال النهار ، تتقافز إليها “ذكري” ذات السنوات الخمس بشعرها البني ، صوت الجدة يعلو :
– تعالي أضفرلك شعرك يا “ذكري” .
– لأ أمي اللي هتضفرلي .
تلجأ الجدة للمناورة .. سأحضر لك الحلوي ..
– معي حلوي ، لا أريد .
نظرت إلي عينيها الحلوة الصادقة البريئة .
– إزيك يا ذكري يا حبيبتي ..
– الحمد لله ..
– ماما هتلعبي معايا ..
– هألعب .. أنتي بتحبيني ( تضمها إلي صدرها في قوة وحنان )
– بأحبك جداً جداً جداً .
– قد إيه ؟ “غازلتها بيديها الحانيتين نظرت إلي وجهها السمح المضيء ”
– قد الدولاب والصالة والشارع والثلاجة والسما والدنيا.
لقد حاولت “ذكري” دون قصد مداعبتها ومحاولة جذبها من مسحة حزنها وذكرياتها تستغرقها نوبة ضحك طويلة ممزوجة بدموع تغرد “ذكري” بضحكتها العذبة لا تحمل للحياة هماً وللعمر اعتباراً … تحاول أن تعبث بفصوص خاتم أمها في حين تحاول الأم جاهدة احتباس دموعها التي تتزاحم دوماً كلما تذكرت .. أنها تملك قلباً ولا تملك مالاً .. تملك بداية … ولا تملك نهاية
ا.د وجيه جرجس
كاتب وقاص وأديب
وعضو اتحاد كتاب مصر







Discussion about this post