في مثل هذا اليوم 30 ابريل1665م..
صمويل پپيس دون أول إشارته المرجعية عن الطاعون العظيم في لندن. “توجد مخاوف كبيرة من الأمراض هنا في المدينة، ويقال أن اثنين أو ثلاثة منازل بالفعل مغلقة. فليحفظنا الله جميعاً”. يواصل كتابة المدخلات في مذكراته على مدار العام، لتوثيق الظروف الرهيبة في المدينة حيث مات الآلاف، إلى أن أدى برد الشتاء إلى تقليل عدد البراغيث التي نشرت المرض. وكتب عن هذا المرض في يومياته خلال الفترة من 1660 إلى 16 مايو 1669، “تبدأ أعراض الطاعون مثل أعراض البرد السيئ. يلي ذلك ارتفاع في درجة الحرارة، مع ظهور القيء وتورم أسود مؤلم، يطلق عليه اسم الورم الدبلي، يظهر في الفخذ وتحت الإبط.” كما كتب عن حريق لندن الكبير 1666.
صموئل پپيس Samuel Pepys (عاش 1633 – 1703) مؤلف إنگليزي، اشتهر بكتابه «يوميات» Diary، الذي يعطي صورة حيّة عن المجتمع اللندني بعد إعادة الملكية إلى إنجلترة بتولي الملك تشارلز الثاني العرش عام 1660.
ولد في لندن لأبوين من منبت متواضع، ودرس في جامعة كمبردج، مستفيداً من منحة دراسية وتخرج فيها عام 1660، وترك لها فيما بعد مجموعة كبيرة من الكتب والمخطوطات. صار بيبس موظفاً في مكتب جورج داوننگ في عام 1659 (الذي سُمِّي شارع داوننغ ستريت Downing Street باسمه). ومع تولي الملك تشارلز الثاني السلطة، عين بيبس في وظيفة مرموقة في البحرية الإنكليزية، فراح يشغل وقت فراغه في تعلم الكثير من العلوم البحرية والحسابات وبناء السفن. آتت هذه المهارات أكلها في الحرب الهولندية الثانية (1665-1667) بين هولندا وإنكلترة وإبان حريق لندن الكبير عام 1666. وفي عام 1673 في منتصف الحرب الهولندية الثالثة (1672-1674)، عُيِّن بيبس أميناً عاماً لوزارة البحرية، وصار عضواً في البرلمان مسؤولاً عن جميع الأمور المتعلقة بها. وفي السنوات الست التالية انخرط بيبس في تنفيذ إصلاحات إدارية نوعية لم يسبق لها مثيل في تاريخ البحرية الإنگليزية. وفي المدَّة ما بين عام 1684و1689 كان بيبس أحد أبرز رجال إنگلترة.[1]
تقاعد بيبس عام 1689 بعد أن ضاعف عدد سفن الأسطول الحربي الإنگليزي وأسلحته، وأرسى تقليداً إدارياً راسخاً في البحرية يعتمد على النظام والدقة والانضباط، مما دفع أحدهم إلى وصفه بأنه الرجل الذي طوّق بريطانية بالسفن. وأمضى بيبس الأربعة عشر عاماً الأخيرة من حياته منكباً على القراءة وعلى جمع معلومات تتعلق بتاريخ البحرية. وصف جون إڤلين، شخصية بيبس بأنه كان محبوباً، مضيافاً، كريماً، خبيراً بأمور كثيرة، محترفاً في الموسيقى وعاشقاً للمسرح والفنون وراعياً كبيراً للعلماء.
كان أبوه خياطاً (ترزياً) في لندن، وكان أبناً صغيراً لأحد الملاك اتجه إلى العمل والتجارة لأن الابن الأكبر ورث الضيعة طبقاً للقانون. ودخل صمويل كمبردج على منحة، وحصل على درجتي الليسانس والأستاذية، ولم تسجل له أية عقوبة، إلا تأنيب علني “لأنه شوهد يوماً يحتسى الخمر بشكل مخز”، ومرة أخرى لأنه كتب قصة “الحب خداع” التي أعدمها فيما بعد. وفي سن الثانية والعشرين (1655) تزوج من اليزابيث سان ميشيل ابنة أحد الهيجونوت. وفي 1658 أجريت له عملية “الحصاة في الكلى” ونجحت العملية وظل يحتفل بذكرى نجاحها سنوياً بعد ذلك، تعبيراً عن الحمد والشكر، كما يظهر من السنوات المسجلة في مذكراته. [2]
وكانت هناك صلة قرابة بعيدة تربطه بسير إدوارد مونتاجو، فعين پپيس سكرتيراً له، 1660 ورافقه صمويل في الأسطول الذي قاده لإحضار شارل الثاني من المنفى. وقبل أن ينصرم هذا العام عين پپيس كاتباً للعمليات في إدارة البحرية. فثابر على دراسة الشئون البحرية بالقدر الذي سمح له به مطاردته للنساء. ومذ كان رؤساؤه منكبين أيضاً على هذه الرياضة القديمة، فأنه سرعان ما أصبح أكثر دراية بتفاصيل البحرية من أميري البحر كليهما (مونتاجو ودوق يورك) إلى حد أنهما اعتمدا على معلوماته. وفي أثناء الحرب مع هولندا (1665-1667) نجح نجاحاً مشهوداً في تموين الأسطول، وعند تفشي الطاعون لزم عمله في الوقت الذي فر فيه معظم موظفي الحكومة. وفي 1668 حين حمل البرلمان على إدارة الأسطول، وكل إلى پپيس أمر الدفاع عنها، وبفضل خطابه الذي استمر ثلاث ساعات في مجلس العموم برأت إدارة الأسطول تبرئة لا تستحقها. وبعد ذلك كتب پپيس لدوق يورك ثلاث مذكرات عرض فيها وجوه النقص والخلل في هيئة البحرية، وقد لعبت هذه المذكرات الثلاث دوراً في إصلاح الأسطول. وبذل پپيس جهداً جباراً، وكان يصحو من نومه عادة في الرابعة صباحاً. ولكنه وجد أنه كان يستعين على راتبه الذي يبلغ 350 جنيهاً في العام، بالهدايا والعمولات والمنح التي يمكن أن يسمى بعضها رشوة، ولكنها كانت في هاتيك الأيام اللطيفة تعتبر زيادات إضافية مشروعة. وكان رئيسه لورد مونتاجو نفسه قد أوضح له “أنه ليس مرتب أية وظيفة هو الذي يجعل شاغلها غنياً، ولكن فرصة الحصول على الأموال وهو يشغلها.
پپيس وليدي باتن؛ رسم من القرن التاسع عشر لحادث ورد في يوميات 1665.
وكل ما ارتكب پپيس من أخطاء مدون بصراحة خالصة تامة نسبياً. وليس واضحاً أمام أعيننا السبب الذي من أجله احتفظ بها بمثل هذه الأمانة إنه أخفاها في حذر وعناية طوال حياته، ودونها بطريقة الاختزال الخاصة به، مستخدماً 314 حرفاً مختلفاً، ولم يضع ترتيباً خاصاً لنشرها بعد وفاته. وواضح أنه وجد لذة ومتعة فأستعرض أنشطته اليومية والاضطرابات في أعضاء جسمه وشجاراته الزوجية، ومغازلاته وعبثه، وعلاقاته النسائية الشائنة. إنه – إذا أعاد قراءة هذا السجل – بينه وبين نفسه – لابد أن يشعر بما نشعر به نحن من رضا خفي إذا نظرنا لأنفسنا في المرآة. وهو يروى لنا كيف أنه جعل زوجته تحلق له شعره “فوجدت في رأسي وجسمي نحو عشرين قملة” وهذا في اعتقادي، أكثر مما وجدت في هذه السنوات العشرين. وتعلم أن يحب زوجته، ولكن بعد مشاجرات كثيرة، تميز في بعضها غيظاً، وكثيراً، على حد قوله، ما أساء معاملتها، وفي إحدى المرات “جذبها من أنفها”. وفي مرة أخرى “لطمتها على عينها اليسرى لطمة جعلت البائسة المسكينة تصرخ من شدة الألم، ولكنها اهتاجت وحاولت أن تعضني وتخدشني بأظافرها، ولكني تظاهرت بالخجل مما فعلت حتى أمسكت هي عن العويل” ووضع على عينها ضمادة، وانصرف للقاء إحدى خليلاته. وعاد إلى البيت لتناول العشاء، ثم غادره، حيث لقي “زوجة باجول، فصحبتها إلى إحدى حانات الجعة، وهناك لاطفتها كثيراً، ثم افترقت عنها إلى امرأة أخرى حاولت أن أعانقها وأقبلها، ولكنها لم ترغب في شيء من هذا، مما ضايقني كثيراً”.
وقد يبعث على العجب والدهشة أن يكون للرجل مثل هذه الطاقة الحيوية، فاستبدل العشيقة كل بضعة شهور، وطارد النساء حتى صددنه عنهن بالدبابيس. واعترف بأنه “وقع في أسر الجمال إلى حد غريب”. وقال “كنت استمع في كنيسة وستمنستر إلى عظة، وقضيت الوقت (سامحني الله) محدقاً النظر في مسز بتلر” وكان يتطلع في شغف خاص ولهف جارف مما يكاد يكون خيانة عظمى – إلى ليدي كاسلمين (عشيقة الملك)، ومذ وقع نظر عليها في قصر هويتهول “استغرق في النظر إليها”. ولكنه قنع بثيابها المرصوصة في صف واحد، وفي هذا يقول “وكان من الخير لي أن أتطلع إلى هذه الثياب”، فلما “عدت إلى البيت وتناولت العشاء وآويت إلى الفراش، تخيلت أني أغازل مسز ستيوارت (ليدي كاسلمين وأعبث معها. في نشوة غامرة من السرور”. ولكن نفسه لم تهف إلى فاتنات البلاط فحسب. فقد مرت ببابه يوماً مسز ديانا، إحدى جاراته، فجذبها “إلى البيت وصعدت بها الطابق الأعلى، وبقيت ألهو وأعبث معها فترة طويلة”. وأخذ مسز لين إلى لامبث (أحد أقسام لندن) “وبعد أن سئمت رفقتها “صممت” على إلا أعود لمثل هذا ما حييت” وضبطته زوجته ذات مرة يعانق فتاة، فهددت بالانفصال عنه، فهدأ من روعها بالوعود والإيمان. وانطلق إلى آخر عشيقاته. ذلك أنه أغوى وصيفة زوجته – ديبورا ويللت – وكان يحب أن تمشط ديبورا له شعره، ولكن زوجته انقضت عليها أثناء مغامراته مع ديبورا. فعاد يقسم ويعد يتعهد من جديد، وطردت الوصيفة، وأخذ پپيس يتردد عليها وكأن زيارتها جزء من عمله اليومي.
وظلت رغبته الجنسية على حدتها حتى حين ضعف بصرة. إن عادة القراءة والكتابة في ضوء الشمعة بدأت تضعف بصره في 1664. ولكن في سنوات العسرة التي تلت ذلك، بذل في العمل جهداً شاقاً بصفة خاصة، على الرغم من تفاقم علته. وفي 31 مايو دون آخر ما سجل في مذكراته:
“وهكذا ينتهي ما أشك في قدرتي على المضي فيه إطلاقاً بنور عيني، ألا وهو تدوير مذكراتي. ومهما تكن النتيجة فليس لي ألا أن أتجلد وأحتمل. ومن ثم اعتزمت أن يدونه من حولي بطريقتهم في الكتابة العادية، ولذلك ينبغي أن أقنع بألا يسجل إلا ما هو صالح لأن يعرفوه ويعرفه العالم أجمع. وإذا كان هناك شيء – وهو ليس بالكثير، بعد أن ولت كل خليلاتي مع ديبورا، وقعد بي ضعف بصري عن الاستمتاع بأية ملذات أو مسرات – فلا بد أن أحاول أن احتفظ في كتابي بهامش، أضيف فيه، هنا وهناك، بعض الملاحظات بخط يدي، بطريقة الاختزال. وهكذا أروض نفسي على هذه الطريقة التي لا تقل مرارة عن أن أراني محمولاً إلى القبر الذي يتولى الله العلي العظيم إعدادي له، ولكل المتاعب والمشاق التي لا بد أن تنتابني عندما أفقد نور عيني. صمويل پپيس”.
وتبقى له من عمره يعد ذلك أربعة وثلاثون عاماً. وظل يتعهد في عناية بالغة ما بقى له من نور عينيه، ولم يعم بصره تماماً قط ومنحه الدوق والملك إجازة طويلة انقطع فيها عن العمل، عاد بعدها إليه. وفي 1673 عين سكرتيراً لإمارة البحر، وفي نفس الوقت تحولت زوجته إلى الكاثوليكية. ولما وقعت مؤامرة البابا على إنجلترا اعتقل پپيس وأودع سجن لندن (22 مايو 1679) للاشتباه في أن له ضلعاً في مقتل جودفري. ثم دحض الاتهام وأخلى سبيله بعد تسعة أشهر قضاها بين جدران المعتقل. وبقي بعيداً عن الوظيفة حتى 1684، حيث أعيد سكرتيراً لإمارة البحر كما كان، واستأنف العمل على إصلاح البحرية. ولما أصبح رئيسه (دوق يورك) ملكاً على إنجلترا – جيمس الثاني – كان پپيس في واقع الأمر على رأس إدارة القوات البحرية، ولكن عندما هرب الملك جيمس إلى فرنسا، أعيد پپيس إلى السجن ثم أفرج عنه وعاش أعوامه الأربعة عشر الأخيرة من عمره متقاعداً عن العمل وكأنه “مرشد البحرية العجوز”. ووافته المنية في 26 مايو 1703، وقد بلغ السبعين، مكللاً بالإجلال والاحترام، مطهراً من الذنوب والآثام.
وكم كان في هذا الرجل من خلال محمودة. لقد عرفنا حبه للموسيقى كما أنه تابع الحركة العلمية، وكان ضليعاً في الفيزياء. وأصبح عضواً في “الجمعية الملكية” وانتخب رئيساً لها في 1684 وكان مزهواً برجولته، وكان يقبل الرشوة، وضرب خادمه حتى جرح ذراعه وقسا في معاملة زوجته، وكان فاسقاً بكل ما في هذه الكلمة من معنى، ولكن كم كان له في الملوك والأدواق من أسوة أخزى وأقبح في مجال الدعارة والفجور، ومن منا يمكن أن يتمتع بسمعة طيبة لا تشوبها شائبة إذا ترك مثل هذه المذكرات الأمينة؟
يعد كتاب «يوميات» العمل الأكثر شهرة بين أعماله، شرع في كتابته وهو في السابعة والعشرين من عمره، وظل مواظباً على كتابتها حتى بلوغه السادسة والثلاثين، إذ اعتراه ضعف في النظر بسبب صدمته بوفاة زوجته. كتب بيبس يومياته بنظام توماس شيلتون Thomas Shelton في الاختزال وأبقى الأسماء بالكتابة العادية، وهي تحوي بين دفتيها نحو مليون وربع مليون كلمة. ليست هذه اليوميات مجرد سجل عادي لأفكار كاتبها وأفعاله، بل هي عمل أدبي راق يكشف في كل صفحة مقدرة كبيرة على اختيار الأساسيات والتفاصيل التي تعبر عن نبض الحياة في المجتمع اللندني في فترة كتابتها.
الطاعون الكبير أو العظيم (1665-1666) كان آخر طاعون دبلي حدث في مملكة إنجلترا (والتي كانت جزء من المملكة المتحدة في العصر الحالي). حدث ذلك في بعد عدة قرون من زمن الوباء الثاني، الممتد من أوبئة الطاعون الدبلي المتقطعة التي بدأت في أوروبا عام 1347، في السنة الأولى من الموت الأسود تفشي ووتحول إلى أشكالا أخرى مثل الطاعون الرئوي، واستمر حتى 1750.
وكان عنيفًا خلال شهري أغسطس وسبتمبر بوجه خاص. تُوفي خلال أسبوع واحد 7,165 شخصًا بالطاعون.وكان العدد الإجمالي للوفيات حوالي 100,000 شخص، أو ما يقرب من 25% من سكان لندن. ويعود سبب هذا الطاعون إلى بكتيريا اليرسينية الطاعونية، والتي تنتقل بالعادة عن طريق لدغة براغيث الفئران المصابة. وكان بصفة عامة غير قابل للشِّفاء، وتأثيراته مرعبة، وأعراضه حُمَّى مع قشعريرة وتَوَرُّم الغدد الليمفاوية، وجنون حتمي، ثم وفاة. ولم يعرف النَّاس سببًا للمرض أو كيفية التَّحكم في مساره السريع.
دُفن ضحايا الطاعون في حفر كبيرة، وكان كثير من الرجال والنساء يقفزون داخل هذه الحفر ليُدفنوا أحياءً بدلاً من مواجهة آلام المرض. وهرب كثيرون خارج لندن. ولكن الوباء انتهى تمامًا بصورة مؤكَّدة بمجيء الجو البارد في أكتوبر من العام نفسه.
كان الطاعون مرضًا متوطنًا في لندن في القرن السابع عشر. كان المرض يثور كل فترة على شكل أوبئة كبيرة. كان هناك 30,000 وفاة ناجمة عن الطاعون في عام 1603، و35,000 وفاة في عام 1625، و10,000 وفاة في عام 1636، بالإضافة إلى أعداد أقل في السنوات الأخرى.
خلال شتاء عام 1664، ظهر مذنب كبير في السماء، وكان سكان لندن خائفين ويتساءلون ما الحدث الشرير الذي ينبئ به. كانت لندن في ذلك الوقت تتألف من مدينة تبلغ مساحتها 445 فدانًا محاطة بسور المدينة والذي بُنِي أساسًا لإبعاد العصابات المداهمة. كانت هناك بوابات في لودغيت، ونيوغيت، وألدرزغيت، وكريبلغيت، ومورغيت، وبيشوبسغيت، وفي الجنوب يقبع نهر التمز وجسر لندن. في الأحياء الفقيرة من المدينة، كان من المستحيل الحفاظ على النظافة في الشقق والعلّيات المكتظة. لم يكن هناك صرف صحي، وكانت المصارف المفتوحة تتدفق بمحاذاة مركز الشوارع المتعرجة. كانت الحصى زلقة وعليها روث حيوانات، وقمامة، وفضلات ملقاة من المنازل، موحلة ومليئة بالذباب في فصل الصيف وغارقة في مياه الصرف الصحي في فصل الشتاء. وظفت شركة المدينة «جرافات» لإزالة أسوأ القذارة، وكانت تُنقَل إلى تلال خارج أسوار المدينة حيث كانت تتراكم وتتابع التحلل. كانت الرائحة الكريهة شديدة وكان الناس يتجولون وهم يضغطون على أنوفهم بمنديل أو بأكاليل ورود.
كانت بعض احتياجات المدينة الضرورية مثل الفحم تصل عبر البارجة، لكن معظمها كان يأتي عبر الطرقات. كانت العربات والمركبات والخيول وممرات المشاة مكتظة معًا، وكانت المداخل في السور تشكل اختناقات يصعب التقدم من خلالها. كان جسر لندن ذو الأقواس التسعة عشر أكثر ازدحامًا. كان الأغنياء يستخدمون تكسي لندن والمِحفّات للوصول إلى وجهاتهم دون أن تمسهم القذارة. كان الفقراء يمشون، وقد ترشهم المركبات ذات العجلات وتغمرهم الفضلات الملقاة والمياه الساقطة من الأسطح المتدلية. كان الخطر الآخر هو الاختناق بالدخان الأسود المتصاعد من المصانع التي تصنع الصابون، ومصانع الجعة، ومصاهر الحديد، ومن نحو 15,000 منزل يحرق الفحم.
خارج أسوار المدينة، نشأت ضواحٍ لتوفير منازل للحرفيين والتجار الذين توافدوا إلى المدينة المكتظة مسبقًا. كانت هذه مدن صفيح ذات أكواخ خشبية لا يوجد فيها صرف صحي. حاولت الحكومة السيطرة على هذا التطور، لكنها فشلت وعاش هنا أكثر من ربع مليون شخص. استولى مهاجرون آخرون على منازل فاخرة في البلدة أخلاها الفرسان (المقاتلون) الذين فروا من البلاد خلال الكومنولث الإنجليزي وحولوها إلى مساكن فيها أُسَر مختلفة في كل غرفة. سرعان ما خُرِّبت هذه الخصائص وأصبحت أحياء فقيرة موبوءة بالفئران.
نظّم اللورد العمدة وأعضاء مجلس المدينة والمستشارون العموميون إدارةَ مدينة لندن، ولكن لم تكن جميع المناطق المأهولة التي تشكل لندن بشكل عام جزءًا من المدينة بشكل قانوني. كان هناك داخل المدينة وخارج حدودها قطاعات، وهي مناطق ذات أحجام متفاوتة مُنِحت تاريخيًا حقوق الحكم الذاتي. ارتبط كثيرون بالمؤسسات الدينية، وعندما أُلغيت في سياق عمليات حل الأديرة، نُقِلت حقوقها التاريخية مع ملكيتها إلى المالكين الجدد. كانت المدينة المسورة محاطة بحلقة من القطاعات التي أصبحت تحت سلطتها والتي تُسمى في الوقت الحاضر «المدينة والقطاعات»، لكنها كانت محاطة بضواحي أخرى ذات إدارات مختلفة. كانت وستمنستر مدينة مستقلة لها قطاعاتها الخاصة، رغم انضمامها إلى لندن خلال التنمية الحضرية. كان برج لندن قطاعًا مستقلة كما كانت القطاعات الأخرى. أصبحت المناطق الواقعة شمال النهر التي لم تكن جزءًا من إحدى هذه الإدارات خاضعة لسلطة مقاطعة ميدلسكس، وأصبحت المناطق جنوب النهر خاضعة لسلطة مقاطعة سري.
في ذلك الوقت، كان الطاعون الدبلي مرضًا مثيرًا للذعر، ولكن لم يُفهَم سببه. ألقى السذج اللوم على انبثاقات من الأرض، أو «الفيضانات الطاعونية»، أو الطقس غير المعتاد، أو المرض في الماشية، أو السلوك غير الطبيعي للحيوانات أو زيادة في أعداد الشامات، أو الضفادع، أو الفئران، أو الذباب. لم يُحدد ألكسندر يرسين العامل المسبب، وهو اليرسينيا الطاعونية، حتى عام 1894، ولم تصبح طرق انتقال الجرثومة عن طريق براغيث الجرذان معروفة حتى ذلك الوقت. رغم أن الطاعون العظيم في لندن لطالما اعتُقد أنه طاعون دبلي تسببه اليرسينيا الطاعونية، لم يُثبت ذلك بشكل نهائي إلا من خلال تحليل الحمض النووي في عام 2016.
تسجيل الوفيات:
من أجل الحكم على شدة الوباء، من المهم في البداية معرفة عدد السكان الذين حدث بينهم. لم يكن هناك تعداد رسمي للسكان في تلك الفترة، ويعود أهم تعداد حالي لأعمال جون جرونت (1620 – 1674)، الذي كان أحد أوائل الزملاء في الجمعية الملكية وأحد أوائل علماء السكان في تطبيق مقاربة علمية على مجموعة الإحصاءات. في عام 1662، قدّر جرونت أن 384,000 شخص عاشوا في مدينة لندن، والقطاعات، ووستمنستر، والأبرشيات الخارجية، بناء على الأرقام الموجودة في قوائم الوفيات التي كانت تُنشَر كل عام في العاصمة. شكلت هذه الدوائر المختلفة ذات الإدارات المختلفة حدود لندن المعترف بها رسميًا. في عام 1665، نقّح تقديره إلى «ما لا يتجاوز 460,000 نسمة». وضع معاصرون آخرون رقمًا أعلى (على سبيل المثال، اقترح السفير الفرنسي 600,000)، ولكن دون أساس رياضي لدعم تقديراتهم. كانت ثاني أكبر مدينة في المملكة نوريتش التي يبلغ عدد سكانها 30,000 نسمة.
لم يكن هناك واجب لأي شخص في السلطة للإبلاغ عن وفاة ما. عوضًا عن ذلك، عيّنت كل أبرشية اثنين أو أكثر من «الباحثين عن الموتى» الذين تمثّل واجبهم بتفتيش الجثث وتحديد سبب الوفاة. كان من حق الباحث أن يتقاضى رسومًا صغيرة من الأقارب عن كل حالة وفاة يبلغون عنها، ومن ثم كانت الرعية عادة تعين شخصًا في المنصب يكون بحاجة ويتلقى دعمًا من الأبرشية. يعني ذلك أن الباحثين كانوا عادة من النساء المسنات والأميات، وقد لا يعرفن سوى القليل عن تحديد الأمراض، وكنّ منفتحات على عدم الأمانة.!!
Discussion about this post