قصة قصيرة
عندما كان الحبُ مُكلِفاً
بعد أن تضمخت (فَطُّومَه) الخَيَّاطة مساءً بالحناء و المَحَلَبْ ،
هيأت نفسها صباحاً في الوقت المناسب ، بعد أن دخلت الحمام و استحمّت، ثم ارتدت أجمل ملابسها و قرِّطَت شحمتي إذنيها بقرط كانت تخفيه عن أهلها ،خصصته للقاء الحبيب .
تشوّفت بالمرآة ،ثم رشت تحت ردائها قليلا جدا من عطر (اللاّوَنْطا)(1) ، حتى لا يفكر اخوها بما يجلب الشك ، وغادرت إلى السوق لشراء ما تحتاجه لماكنة الخياطة . ومن ثم تعرج على بيت الحبيب .
قبل ان تصل، كانت قد احتاطت لكي لا يرصدها الواشون و النمامون ، فمرقت على عجل مُحَجَّبَة . وطرقت النافذة برفق أولاً ثم الباب . إذ اتفقت مع حبيبها على هذي الطريقة لكي يأتيها على عجل و يختليان .
صَدَمَتها المفاجأة حين التقته ، وسألته و هي تلطم خديها هامسة بذهول :
ـ ما هذا أبو الجود ؟ من الذي جعل وجهك بهذي الحال؟ سود الله وجهي و وجه موتاي.
قال لها هامساً :
ـ إششششش لا يسمعوك ، فهم لا يعلمون . أخوك من فعل هذا :(2.(
استفسرت :
ـ على يا مال؟
ـ على كلٍ .. أنا أحتار كيف أواجه أهلي بهذا الوجه. من حسن الحظ انك جئت . لابد و انك .. سمعت . لولا مجيئك هذا لهَدَّمت البيت هذه الليلة ، على رأس اخوك الزعطوط (*).
قالت (فطومه) مستفسرة :
ـ ماذا فعلتَ حتى يفعل بك هذا؟ أنا لا أدري . أقسم بعينيك لا ادري .
استعرض لها الحادث :
ـ شوفي فاطمة.. شوفي هذه الكدمة بجبهتي ؟ و هذه الثانية بأنفي ، و هذه بعيني و هذه وهذه ؟ كلهن من ضرباته. بلعتهن كلهن ، و سيطرت على أعصابي .
قالت فطومه :
ـ سوده عليّ . و الله لا أعلم . قل لي : ما هو السبب ؟ هل فقد عقله ؟هو حاس إنك تحبني .
ـ أكيد فاطمة ، أكيد . و أنا طول هذا الليل ، قسما بعزة الخالق . قسما بنظرات عينيك ما نمت . أفكر بعينيك و غمزاتهما ، أكثر مما أفكر بالضربات . لولاك ، يشهد الله لكنت قد عملتها مذبحه . و بلّطت الشارع بلحمه و دمه .
خلعت فطومه شالها ، واقتربت منه ووضعت رأسها على كتفه :
ـ فاطمة . شَمَّتُك تردّ الروح .المفروض فاطمة لا تضعي (لاونطا) ، أريد أن اشم ريحة جسدك بلا عطر .
ـ سودة عليّ . جودي، أخوي يغار من جمالك و هندامك .
ـ يجوز .. لأني على طول ألمّع و اخرج .
ـ سودة عليّ حبيبي جودي .هو مجنون و يعرفك مسكين وفقيرو بائعها بيضاء.
ـ لا فاطمة لا أرجوك .أنا لا مسكين و لا فقير . أنا سبع ما أخاف بس من ربّي ، ولكن خيالك وقف امام عيني .
ـ فدوة لعينك .
ـ أول البارحة فاطمة .. الصبح قبل الحادثة .. طلعت .. رحت على صديقي علاوي ابن جميله الذي يسكن بشارعكم ، وبعد الترحيب و الاحترام سألني :
ـ أمر؟ خدمة أخي؟ محتاج شيء ؟
قلت له :
ـ أشكرك اخي . أنت و النعم منك ما تقصر . فقط اريد المسجل أسمع به أغاني .
راح الولد ، وأتى بالمسجل ، و اعطاني أشرطة غناء ل (وحيده خليل) و زهور حسين و قال :
ـ محتاج شيء بعد اخي ؟
قلت له :
ـ لا اخي . و النعم منّك ، انت تاج رأسي .
أخذت المسجل ، و أتيت للبيت ، و بقيت افكر بأخيك لأني أخاف أن يدَبِّر لي مؤامرة .
طَلّعت تسجيل مال اغنية ( كل ما امر ع الدرب عيني على الباب ) ، و قلت : سوف البس ملابسي الزينة و أرش عليها عطر كليوباترا ، و امر على باب فاطمة و آنا فاتح المسجل بصوت عالٍ ، على هذه الاْغنية حتى انتِ تسمعين و تطلعين رأسك من فتحة الباب و أشوفك .
لأن (ورير) ماكنة الخياطة لا يسمح لك أن تسمعين .
على كل حال .. العشق فار رأسي فرّ. . أرجوك حبيبتي لا تزعلين .
أخذت سكين المطبخ . سكين حادة تبتر رقبة البعير ، و طرفها طالع من جيب دشداشتي ، حتى لا يحدث لي مكروه لأني مقدم على مغامرة خطيرة . يعني ـ فِدْوَه فاطمة دعيني اريح قلبي أمامك ـ .
ـ تكلم حبيبي جودي . تِفْداك روح فَطُّومَه .
ـ الله يسلم روحك حبيبتي على كلٍ ..
قلت :
ـ اذا كلمني أي إنسان أطّعنه بالسكين ، وأجعل مصارينه يطيحن بالأرض، و الذي يريد يصير خلّي يصير .
نشقت فَطُّومه :
ـ يا ..يا .. يا.. (أبو الجود) صدق ، كذب ؟ أنت تريد تقتل اخوي ؟؟؟
ـ لا فاطمة .. قابل أنا ناسي باعتباره أخو فاطمة ؟ أصلاً أنا ما واضعه في بالي ، فقط للدفاع عن نفسي منه و من غيره؟ اعذريني فاطمة ، كلامي لا على التعيين :
قبل ان أصل و أعكس بشارعكم . فتحت المسجل على كل قوته حتى تسمعين ، لأن ماكنة خياطتك ، كما فلت (وريرها) عالِ و ما تسمعين ، ليس في بالي ، لا أخوك و لا غيره ـ لا و الله ـ بس اريد أسمِّع حبيبة الروح و القلب (فاطمة) . كلام الحق ما فيه زعِّل . و صعّدت اغنية : (كل ما امر ع الدرب عيني على الباب ) .
على كلٍ .. لِفِتْ ـ حبيبتي ـ بشارعكم ، و إذا بأخيك يّكتّف ذراعيه على صدره .. و واضع رجلا على رجل ، و واقف متكئ على كتف بابكم و سيگارته بفمه . على طريقة اشقياء بغداد؟ نسخة طبق الأصل .
دخَلت بالشارع و انا رافع راسي لعنان السماء ، و قلبي يدق بآذاني . ووجهي يتغامز ، مثل ما تقولين من العزم و لس غير، لأن مثل ما يقولون :أنا يجوز قادم على معركة فاصلة . و بسبب الغرام الذي لاعب لعبته برأسي و بهذا السبب ، بقي رأسي يهتز . بحيث الذي يراني يقول : هذا ليش رأسه يرعص ؟ هو ليس يرعص(4) خوفاً .. فقط من الحب و العزم . و الله يا ليت تلك الساعة ما حدثت . كل هذي و عينيك فاطمة كأنهما يغمزان لي ، او يترجيان أن اصير عاقل و اتصرف بحكمة .
المهم حبيبتي.. على كلٍ ـ (أخاف يجي واحد فاطمة و ينشلك مني ، و أبقى أنا أجر بالحسرات و الآهات؟ أنتحر و حق الكعبة ـ )؟
ـ لا أبو الجود . انا لو إلك .. لو للقبر ، و حق عيناك .
ـ على كلٍ آنا سويت نفسي ما أشوفه . تجاهلته وبقيت امشي براق الحائط المقابل ، حتى ابتعد عن شرَّه و ما أضربه سكين. يعني الحب ما يخليني اشوف حتى دربي .
على كلٍ..
و الله وصلت باب صديقي ابن جميلة كأنما أدقّه .. بعد دقيقتين
رجعت بنفس الطريق . و إذا بأخيك الافندي مع احترامي لك .. وقف واضعاً يديه على خاصرتيه بنصف الشارع .
صحت : يا ربي سترك و منعك .. طلعها سلامات يا إلهي، حتى لا اضرب الولد بالسكين .
المهم على كل حال، يعني في تلك اللحظة فاطمة .. لو تذبحيني ما تجدين بيّ نقطة دم . لا خوفا .. لا والله .. و حق عينك (فاطمة) و الكعبة الشريفة. كل هذي من أجل عين حبيبتي الحلوة المائعة مثل الزبد فاطمة الخياطة .
***
الشارع فارغ . لو تلقين الإبرة بالقاع تصيح شِكْ . ولا صوت ، ولا نفس و لا بشر . فقط امرأة عجوز قاعدة على مسافة قليلة عن بيتكم كأنما ألله هداها أن تجلس و الناس تغط بالنوم.
وصلت قبال أخيك ، و إذا به يصيح بي :
ـ ها ولك ؟
أنا أيضا أردت أتكفى شرّه و أقطع دابر النزاع ، فقلت له كلاما ودياً، و بروح حضارية :
ـ ها اخي عضيدي .. كيف الأحوال؟
اول ما مسك بإذنيّ ملّصهما ملصاً .
قال :
ـ من الذي أتى بك لشارعنا ؟
بعدين .. مسكني من زيقي و الصفعات و الكلاّت اشتغلت . و مثل ما تشوفين .. لا ظلت عندي اذن و لا خشم و لا عين و لا جبهة ، و اخذني الدم . جزاء الله خير الجزاء العجوز التي كانت جالسة في باب بيتها . جاءت تركض، و هي تصيح على أخيك :
ـ ولك كافي قتلت ابن الناس ؟
اخذ مسجل ابن جميلة من يدي ، و ضربه بالحائط . و خلف الله على العجوز وقفت النزاع . و تحملت كل هذا مثل ما تشوفين من اجلك .
على كل ..
تذكرت مجنون ليلى : لما يكتب اسم ليلى على الرمال . و انا اكتب اسمك بالدم النازف من وجهي و اذناي و خشمي على التبليط.
ظلت العجوز تدفعني . و لكني .. صعدت الغيرة براسي .، و سحبت سكين المطبخ من جيبي ، و بقيت ادفع المرأة بصدري حتى تبتعد عني و أفوت عليه بالسكين ، لكن المرأة خلّت صدرها قدام صدري . و استثقلتها أن أخلي صدري على صدرها . ما تقبل الغيرة العربية ، لأن حرام او عيب .. و صحت عليه :
ـ إلاّ اذبحك .. لو ما هاذي بنت الحلال . كان ذبحتك من الوريد الى الوريد .
على كلٍ ..
بس جزاء الله العجوز كل الخير .. وقفت بيننا و استحيت ، لأن صدري صار على صدرها . و راحت بنت الحلال أو جابت المسجل المكسر او قالت لي :
ـ خذه و روح لأهلك . لولاها لكان عملت لي جريمة قتل يذكرها التاريخ . من أين أدبر فلوس المسجل؟ ما أدري .
على كل ..
من حسن الحظ خلصته العجوز . يمكن هو بالحقيقة خاف مني . لأن شفت وجهه وجه خائف .
***
أقول (فاطمة) .. أريد بس تسمحي لي كأنما أكلم أخوك كلمتين .
ـ تفضل حبيبي تكلم بالذي يرضى به الله ، و ريّح قلبك .
ـ نعم حبيبتي . آني أريد أقول لأخيك :
ـ ولك انت شوف : هذي محبوبتي فاطمة جالسة معي .. رجل على رجل و حاضنها حضن . وآنا كل شيء ما أعمل لها غير الذي يرضى به الضمير: بس شمّة خد و قبلات ، بايعيها بيضاء منها للعلي القدير .
***
خلعت فَطُّومه قرطيها الجديدين و قالت له :
ـ سوّد الله وجهي . كل هذا من أجلي ؟. خذ هذا الذهب واشتري للولد مسجل .
موسى غافل
شارحة
ــــــــــــ
1 ـ لاونطا : عطر نافذ الرائحة
2 ـ زعطوط : طفل
3 ـ كَلّه : نطح المقابل بالرأس.
4 ـ يرعص : يرتجف
Discussion about this post