المزج والتضفير..بين تكبير وتصغير
قراءة توفيقية
لنص * متلازمة جوسكا *
للأدبقلم / محمد البنايبة السورية/ ريم محمد Reem Mohammad
…………………..
النص
متلازمة “جوسكا”
≈≈≈≈≈≈≈≈≈≈≈
في حفلاتي السّابقة ، كنت مشعّة ومتألّقة ، بإيماءاتي أحرّك الأوركِسترا كلّها، لا بل ” التخت الشّرقي” بكامله يستجيب لكل حركةٍ من أناملي، لكل همسةٍ مكبوتة من شفاهي، وأكثر من ذلك ، حاجبي لوحده عندما يرتفع أو يهبط مع إسدال رموشي فوق وجنتيّ كفيلٌ بأن يعيد اللّحن لمستقرّه فيستطيل النّغم إلى الحدّ الذي أبغيهِ تماماً، حتى شعري المصفّف بعناية له دوره الجوهريّ في إنسيابية الإيقاع والقفلة النهائية للمقطوعة….
لا أعرف ماذا أقول لكم ؟!
آخر نجاحٍ كان لي في” مسرح فيينا ” الأوبيرالي حيث بالضبط بدأ سقوطي ، ففي تلك الحفلة أضعتُ ذلك “المؤشر” الذي كنت أومئ به للموسيقيين بيميني ، اضطربت كثيراً وأنا أشاهد قائد الأوركِسترا الغربيّ يقود فرقته به بكل انسيابية ، وأنا التي ورثتهُ عن جدّتي ، بكيت وبكيت ، لم أستطع الوصول إليه ، وعندما وصلت – بعد أن كادت المقطوعة تنتهي – لم أجد لغة مشتركة نفهمها معاً، فقُطع الاتصال اللّغوي، حاولت حينها استردادهُ منه بالقوّة ، غير أنه وببدلته المتألّقة ذات الذيل الطويل وربطة عنقه “الشينيون “، انحنى لي مع غمزةٍ من عينه ووضعَ ” المؤشر خاصّتي ” تحت إبطه وصفّق للجمهور ودار نصف دورة محيياً الجميع من كل الاتجاهات ، وعندما فطنت وزال انبهاري ، كان قد فات الأوان ، فقد انسلّ بين الجموع المحتفية المبهورة بعظمة الأداء الأندلسيّ، والورود تتهاطل عليه من كل حدبٍ وصوب…
تلكَ بداية فشلي ، لم أعد أصلح للأمسيات الموسيقية ،….
كيف سأقود أوركِسترا بدون “المؤشر”؟
من سيثق بخطواتي وقيادتي؟ …
حاولت البحث عن فرجة أمل ، لايجب أن أضيّع نجاحي بسبب مؤشر ؟
بحثتُ على الشّابكة عن مركز لبيع القطع الموسيقية- للأسف- لم أجد؟
حاولت أن أصنع من الخيزران الذي في حديقة منزلنا الخلفيّ مؤشراً لكن لم أفلح أبداً …
جدّتي كانت ماهرة ، وكأنّ ذلك المؤشر هو مستحضر من أفلام السّحرة في “ديزني “…
ماهي ياترى تلك التعويذة التي أطلقتها جدتي حتى كنت أحرّك كل تلك الأوركِسترا بسهولةٍ ويتحرك معها كل جزء من جسدي الغض لينعكس على أحداق ووجوه الآلاف ممن يتابعون مسحورين…
بطبعي كنت عنيدة ، عندما سمعت بأن الفرقة الغربيّة ستحضر لتقديم عرضها في صالتنا الدولية ، انتظرتها حتى فرغت من معزوفتها المسروقة وأسفل الدّرج المفضي للباب الخلفي كنتُ متخفية، متأهبة كصقر سينقض على فريسته،
هجمتُ على المايسترو محاولةً استرداد ماهو ملكي ، لكن تفاجأت بإختفاء يدي الاثنتين !
تمّت
ريم محمد..سورية في ٢٤ أبريل ٢٠٢٣
……………….
القراءة
فاقد الشيء يسعى لامتلاكه فإن فشل في سعيه؛ توهمه.
هذا حرفيا مغزى ومبتغى فكرة النص، فالوهم سيد الموقف، فهنا شابة فقدت ذراعيها إثر حادثٍ ما، توهمت أن لها ذراعيين، وسعت لإثبات ذلك الوهم وتثبيته، فتوهمت أنها مايسترو لفرقة موسيقية عربية، وهذا بالضبط دلالة العنوان * متلازمة جوسكا* وهى مرض نفسي بحب الظهور والتوهم والتعايش اليقيني- نفسيًا- مع هذا التوهم كأنه واقع لا مرية فيه ولا شك.
وكما في جل الإبداعات السابقة للأديبة ريم محمد والتي تميزت بالخيال الخصب الممتد بلا حدود تحده وتسيجه، نرى بوضوح تميز خيالها في إبداع هذا النص، ويتفوق الإبداع ها هنا في المعالجة المبتكرة للفكرة، إذ دمجت عنصريين معًا ليرصفا طريقًا ممهدًا لنهاية بخاتمة مملهمة وكاشفة، وكأنها ضوء مصباح في نهاية نفق ظلامه حالك، وهذان العنصران هما متلازمة جوسكا( اضطراب عقلي يؤدي إلى ميل المريض للحديث مع نفسه واختلاق أحداث متوهمة) والعنصر الثاني هو حقيقة فقد البطلة لذراعيها.
فآلفت بين العنصريين لتطرح علينا مفهومًا أكثر شمولية لمتلازمة جوسكا من وجهة نظرها كأديبة، وتخصيصا الدقيق لمزج الواقع( فقد الذراعين) بالمتخيل( مايسترو/ فقد المؤشر ).
هنا تكمن روعة المعالجة بهذا التضفير المتقن، باستخدام المؤشر كمعادل موضوعي ممهد فيما بعد لحقيقة فقد الذراعين، كما تضمن النص عرضيا وبمواربة غير مسبوقة المقارنة بين حالين معاصريين ..حالة الغربي ( متفوق / سارق) وحالة العربي ( عاجز / واهم)، وهنا وللمرة الثانية نؤكد البراعة والمهارة والذكاء في اختيار هذا العنوان الغريب اللافت، والذي يمكن بكل سهولة اسقاطه – متلازمة جوسكا- على واقعنا العربي المعاصر، إذ لا نزال ندور في نفس الحلقة المفرغة- حديثنا لأنفسنا- بالتغني بأمجاد اجدادنا السابقين، واتهام الغرب بسرقتنا ومن ثم نبكي على أطلالنا ونتخفى خلف الأهرامات وحدائق بابل وووو، دون أن نسعى لنقدم شيئا جديدا، بل وسعينا الدءوب لاستلاب ما وصل إليه الغرب من تطور، لكنه وللأسف الشديد استلاب القشور لا استلاب الجوهر..
الموقفية السردية: حققتها الأديبة الماهرة ببساطة ويسر وعفوية مشهودة، أسهمت اللغة البسيطة المعبرة في توطيدها وتثبيتها.
التقنية الأسلوبية :
عمدت الكاتبة بذكاء وبجملة وحيدة ( ماذا أقول لكم ) على إشراك المتلقي والاستيلاء الكلي على انتباهه وجذبه لملعبها ( المتن السردي المواري بذكاء لفكرة النص) متسائلًا منذ البداية – العنوان- عن مبتغاها ومقصدها ومرامها من اختياره، ومنغمسًا في أمواج كلماتها وجملها السردية الحركية المتصاعدة رأسيا، والممتدة في التراتبية الزمنية أفقيا مع وقفتين زمانيتين مسترجعتان من ماضٍ قريب ( تفوق الغرب معبرة عنه بالمايسترو الغربي) وماصٍ بعيد ( الحديث عن الجدة ).
نص نفسي بامتياز ينتمي للمدرسة النفسية السردية، برعت الاديبة في تحريكه سرديًا ( الحالة الديناميكية للنص/ فقد المؤشر ومحاولة استعادته).
مبارك لك هذا الطرح الإبداعي أستاذة ريم
محمد البنا..القاهرة في ٢٥ أبريل ٢٠٢٣
Discussion about this post