السياج .
نصٌ قصصي .
الكاتب الاعلامي : الدكتور أنور ساطع أصفري .
***********************************************************************
الوقتُ يمرُّ ثقيلاً وكأنهُ غضبٌ يجثو على إحساسٍ ربيعيٍ مفعمٍ بالحياة ، صوتُ التلفازِ وحدهُ يتعالى مخترقاً سكونَ الصمت .
كنتُ جالساً على كرسيٍ صغيرٍ واجماً أُقلّبُ الورقةَ بين يديّ ، أتأمّلها وكأني أبحثُ في بياضها عن هدفٍ مفقود .
والدي يجلسُ على أريكتهِ يُتابعُ ضجيجَ التلفازِ الذي ينهشُ أفكاري ويبعثرها ، وفجأةً إنطلقَ صوتي عالياً حاداً :
– أبي ، ماذا أرسمُ على هذه اللوحةِ البيضاء ؟ .
أجابني وبدونِ تردد :
– زيتونة .
خيّمَ السكونُ ثانيةً ، تملكتني الحيرةُ ، تلوتُ التعاويذَ ، إنسدلَ عليَّ المساء ، وفي قمةِ الهاجسِ المكبوتِ ناداني القمر ، استطلتُ ، إستطلتُ أكثر ، عانقتهُ وطبعتُ على جبينهِ قُبلة ، وبُحتُ له بأنني شغوفٌ برسمِ اللوحاتِ وطليها بألوانٍ زاهيةٍ أختارها لأتفاخرَ بها أمامَ أصدقائي قبل والدي ، بخجلٍ تمتمَ في أُذني ” أحبك ” .
فكم كنتُ أتمنى لو أني أستطيعُ أن أطويَ الكون َ في صفحاتِ دفترٍ صغير ، أو لوحةٍ واحدة ، ولأنني كنتُ أعيشُ هذه الأمنية صدّقتها ، لذا كنتُ أتعللُّ دائماً بقلّةِ الوقتِ وعدمِ توفّرِ الألوانِ التي أحتاجها .
” زيتونة ” ، لم أستوعب جواب والدي ، بل زادَ من حيرتي ، ماتت على شفاهيَ التساؤلات، وفي صحوةٍ جريئةٍ عدتُ ثانيةً متسائلاً وبصوتٍ عالٍ وبلا مقدمات :
– أأرسمُ ثمرةَ الزيتون ، أم شجرةَ زيتونٍ كاملة ؟ .
ولأن والدي كان يتوقع سؤالي هذا ، لذا جاءَ جوابهُ سريعاً وبدونِ أيةِ التفاتةٍ إليَّ :
– بل شجرةُ زيتونٍ كاملة يا صلاح ، وإذا شئتَ فأشجار عديدة منه .
ضحكتُ في سري ، تمتمتُ في قلبي ” إن والدي يريدني أن أنقشَ له على هذهِ اللوحةِ بستاناً كبيراً من أشجارِ الزيتون” .
لم يكُ قد تجاوزَ الأربعين عاما ، لكن صورةُ وجههِ تُوحي بأنّه أكبرُ من ذلك بكثير ، فالناظرُ إليهِ أولُ ما تواجهه جبهتهُ المحفورةُ بأخاديدِ الزمنِ ، فيظنّه أنه إبن الستين . يقرأ الهمومَ من خلالها وكأنها جبالٌ راسيات ، الشيبُ ينتشرُ في كلِ مكانٍ من رأسهِ ، لونهُ الأسمر ، عيناهُ الجريئتانِ ، تجاعيدُ شعرهِ ، كلها تُمثّلُ ملامحَ الأرض ، لا تستطيع ولا بأي شكلٍ من الأشكال أن تُخفي هُويتها .
بدا شارداً ، أسندَ ظهرهُ إلى الوراء ، تأمّل الجدران التي تعانقها الرطوبةُ وبإصرار ، أخذَ يرحلُ من مكانٍ إلى مكان ، يطوفُ كلّ بساتينِ الزيتونِ مارّاً ببياراتِ الليمون والبرتقال ، كان صغيراً عندما كان يحلو له اللعبَ بين أشجارِ الزيتون ، لونها هادىءُ ، ظلالها ممدودةٌ ، كُلَ شيءٍ جميلٌ فيها ، كيفَ لا وهي التي أقسم اللهُ بها في كتابهِ الكريم .
أيقظتهُ أصواتٌ منبعثةٌ من التلفاز ، نظرَ عالياً ، أطبقَ أصابعَ يديهِ بقوة ، شمخت أمامَ ناظريه زيتونةٌ شابةٌ ألقتْ بثوبها الأخضر على زجاجِ النافذةِ فالتحمت أغصانُ الزيتونِ مع صورةِ المسجدِ الأقصى التي تحتلُّ وسط الجدار ، ورسمت معها صورةَ الهويةِ الغائبة .
في يومٍ ما ، وعندما كانَ بعمري الآن ، كان يوم ذاكَ في قريتهِ الجميلة ، يُداعبُ الأرضَ ويلهو بأغصانِ الزيتون التي كان يقتلعها .
كان يحلو له أن يعدو مع صغار الحي ، حاملاً أغصان الزيتونِ الصغيرة في يديهِ يُخيفهم بها ، فيتوارى البعضُ منهم أمامَ ناظريهِ، ليختبىء في البساتين ِ الواسعةِ التي تحتضنهُ ويتوارى بينَ أشجارها ، وحينما يتوارى تحت الأشجار يُفكّرُ في فكِ الحصار ، فلا يجد أمامه إلاّ الأغصان ، ولمّا يهمُّ بتكسيرها تُهاجمهُ أصابعٌ رسمَ عليها الزمنُ بصماتِ التحدي ، تلوي أُذنيه عقاباً صارماً ” أيها الشقي نهيتكَ كثيراً عن ….” قبلَ أن يُكمل كان يطلق العنانَ لساقيهِ للريحِ بعيداً عن جدّهِ . يجلس العجوز على صخرةٍ كبيرةٍ وهو يضربُ كفّاً بكف :
– يا له من شقي ، لولاه لما تكسّرت أغصانٌ كثيرة .
فيأتيهِ الإحتجاجُ من بعيد :
– لستُ وحدي ، إن عصاماً يعدو خلفي حاملاً الأغصان أيضاً ، رغم أنه أكبرُ مني سنّاً وبخمس سنوات .
يتمتمُ العجوز بأسى :
– كلهم مشاكسون ، لا يفكرون إلاّ باللعب ، آه ، ستصقلهم الأيام .
وفاطمة، تسللت إبتسامةٌ خفيّةٌ إلى شفتيهِ أشعرتهُ بأن الشمسَ لا تنام ، مدّ بصرهُ عَبرَ النافذةِ إلى الأفق ، ترقّبَ نجمةً علّهُ يراها هناك ، ربيعها ينسلُّ من خلفِ الزمانِ ، يخضرّ ريحاناً وقلباً لا يغفو ، ومضت صورة فاطمة ذات العينين الواسعتين ، بجدائلها الطويلة التي تتدلى كزهور الياسمين . قفزت إلى مخيلتهِ أيامٌ غاصّةٌ بالذكريات ، أحسّ بتسرعٍ في نبضات قلبهِ ، سافر بعيداً ” فاطمة كانت تخشى كل الأولادِ حتّى أنا ” ضحكَ ، بانت أسنانهِ المتآكلة ، هزّهُ فرحٌ طفولي ” وكانت تخشى أيضاً أن يهاجموا ضفائرها بالأغصان ” .
في ليلةٍ شديدة البرودة ، كثيفةِ الظلام ، أفلَ نجمُ فاطمة ، لقد هجرت الحيَ بصمتٍ رهيب ، وبدونِ كلمةِ وداع ، وبقيَ الناس زمناً طويلاً يتحدثون عن النبأ العظيم ، والدُ فاطمة أُستشهدَ وهو يحتضنُ الأرض . رسمَ بدمهِ أجملَ صورةَ عشقٍ لكلِ ذرة تراب ، فبقيت صورته في القلوب . وبقيت قصة إبنة الشهيد حديث الحي ، وأطفالِ الحي ، والرُضّعِ والأجنةِ في الأرحام أمداً طويلاً ، آه ، الموتُ إمّا أن يحدثَ قبل الموت أو لا يحدثَ أبداً حتّى بالموت .
أخذَ شهيقاً طويلاً ، ملأ رئتيهِ بهواءٍ فاتر ، هزّ رأسهُ ، أغمضَ عينيه ، بحث عنها في كل مكان ، وعندما داهمهُ الزحام أعياهُ أن الوجوه ليست هي ، ” الأقربونَ أولى بالمعروف ، لقد زوّجوها لإبن عمها ” .
لطالما آوى إلى البساتين التي كانت عندهُ بمثابةِ جنّةِ المأوى ، وكانت كدارِ السلام التي يقرأ تحت ظلالها ” ألم نشرح لكَ صدرك ” ، يتسامرُ مع رفاقه ، يقيمون أعراسهم تحتَ أغصانها المترامية ، حيثُ تُضاءُ الأشجارُ بالمصابيحِ الملونةِ الجميلة . كم كان يحلو لهُ أن يكتبَ ذكرياتهِ على سيقانها ، يُداعبُ الأرضَ بأغصانها المتدلية ليُسجّلَ عليها أجملَ نشيدٍ للحرية .
أمّا أنا فلقد كنتُ أرسمُ الأشجار واحدةً إلى جانبِ الأخرى ، ومن ثُمّ أُلبسها سُندساً بهيّاً بالألوانِ التي أصبّها عليها ، نظرتُ إلى والدي الذي كان شارداً بمحطاتهِ التي يسافر معها ، فرأيتُ أن أقطعَ عليهِ شرودهُ هذا ، ففاجأتهُ بصوتٍ عالٍ وعلى غير إنتظار :
– والدي ، هل أزرعُ إلى جانبِ الأشجار شيئاً من الأزهار أو الورود ؟ .
صمتَ والدي يفكّر ، وبعد لحظاتٍ خانقة ، أجابني بصوتٍ هادىٍ متهدج :
– دعها هكذا يا صلاح ، هُوية شعبٍ معذّب .
أجبتهُ وعلى الفور :
– إذاً ما دامت هذه هي رغبتك فدعني أرسمُ حولها سياجاً من حديد .
إنتفضَ كعصفورٍ جريحٍ ، لوّحَ بكلتا يديه ، تملّكتهُ حالةُ صراخ :
– لا ….لا .
تلاشت لاءاتهِ ، تابعَ بصوتٍ هادىءٍ تعب :
– لا ترسم هذا السياج يا ولدي .
داهمتني حالةٌ من العجبِ ، فلماذا أتى الجوابُ حاداً هذه المرّة ، هززتُ رأسي بغنجٍ ، إلتفتُ إلى والدي ، وبهدوءٍ وبرودٍ طفولي قلت :
– إذاً البستان سيعبث بهٍ الأشرار ويحيلونه خراباً .
قبل أن يُجيبني ، مسح على وجههِ مراتٍ بيديه ، تعوّذَ بالله ، صلّى على النبي ، أحنى رأسه قليلاً إلى الأمامِ وقال :
– الأشرار ، الورمُ الخبيث ، نعم لا بد أن تحميهِ منهم ، لكنهم دخلوه ، وقطّعوا أشجارهِ ، وكثيرون هم اللذين صمتوا ، فعجيبٌ يا ولدي أن نرى الجمعَ ينفضُّ قبل أن تنفضَّ الصلاة ، وأعجبُ منه أن نرى أناملهم تمتدُ خِلسةً لتمسحَ أثرَ السجودِ من فوقِ الجباه .
قام من مكانه ، أخذ يزرعُ الغرفةَ جيئةً وذهاباً ، تمتمَ :
– بل يجب عليكَ أن تحميهِ يا بُني .
دنا مني ، مسحَ على شعري ، حملَ اللوحةَ ، قرّبها من عينيه ، وقبل أن تزوغَ عيناهُ أكثر ، قلتُ على عجلٍ :
– هل أرسمُ سياجاً حجرياً ؟ .
بهدوءٍ وثقةٍ أجابني :
– لا … لا … ، أيقنتُ الآن أن السياجَ ضروريٌ ولا بُدَّ منه ، نعم أرسمهُ ياصلاح ، وليكن سياجاً بشرياً ، أرسم هنا فاطمة بضفائرها الحلوة ، هناكَ أبوها ، وهنا خالك وبجانبه عمك ، وفي هذه الناحية جَدُّكَ ، لا تنسى عقالهُ وجلبابهُ ، أرسمه باسماً ، إنساناً شامخاً يعانقُ الأشجار ، يبتسم لها وللشمسِ وللحياة ، أرسمه كشجرةِ سنديانٍ منتصبة تزرعُ الأملَ في نفوسِ القادمينَ على الدرب .
وضعَ اللوحةَ على الأرض ، رسم بإصبعهِ دائرةً حولَ الأشجارِ ، رسم عليها أُناساً يعرفون كيفَ يشتمُّ الإنسانُ رائحةَ الترابِ فيدمعُ لها .
قلتُ وبهدوءٍ خجول :
– ولكن اللوحة هكذا لن تنتهي بسرعة يا والدي .
أجابني وكله ثقة :
– لكنها ستكون عظيمة ، وإذا جفَّ الحبرُ لديك ، خُذ نبضي لترسم من جديد .
بباطنِ كفّهِ داعبَ خدّي ، ربتَ على كتفي ، خرجَ إلى الفناءِ الخارجي للدار حيثُ توجد شجرةُ زيتونٍ فتيّة ، أخذَ يمسحُ الغبارَ عن أوراقها الصغيرة ، يشمّها وكأنها ريحانةٌ من رياحين الجنّةِ .
لقد كانت في حديقتهِ القديمة شُجيرةٌ مثلها ، عمرها بعمرِ فاطمة ، وكانت تكبرُ معها ، كان يوماً أسودَ قاسياً حفرَ أخاديدهُ في أعماقِ قلبهِ الجريح حينما أجبروهم على هجرِ بساتينِ الزيتون ، لقد كان المنظرُ رهيباً .
وقف رجالُ وأطفالُ الحي ينظرون بأسى إلى الأشجار التي زُرعت بعُصارةِ الإنسان وهي تتهاوى من عليائها لتعانق التراب ، بعد أن تهدّمت البيوت وإندثرت الصورُ والذكريات .
في البدء كان بيتُ فاطمة التي تمنّت يوماً أن ترتدي فستانَ أجملَ عروسٍ شرقية ، تغار منها شجرة الدر ، وتحقد عليها بلقيس ، وتكرهها ياسمينة السندباد ، وتشيحُ عنها بوجهها سندريلا .
تذكّر أبا فاطمة ، وشهداء آخرين ، فكان كلما سقط شهيدٌ هناك كان يشعرُ بأنَ أباهُ يُستشهدُ من جديد .
لقد هوت الأشجار ، غابت أوراقها في التاريخ ليسجّلَ الضياع ، وإمتزجت الدموعُ مع بقايا الأوراقِ في التراب ، وعُجِنت جميعها بالهدف ، لن ينسى ذلكَ اليوم ، إنه محفورٌ في صفحاتِ الزمن ، وتعلّم من وقتها أن يكون صلباً ليُعيدَ الأشجار إلى كل مكانٍ أُقتلعت منه ، فكانت الحجارة أنيساً له في فاجعته ، فتبعتهُ الزيتونة كظلّهِ ورافقتهُ كأنفاسهِ ، فكانَ يسمع تأوّه أغصانها ، ويوخز أُذنيهِ نشيجَ التراب الباكي تدوسهُ الغربانُ والثعالب والكلاب التي لا تُجيدُ حتّى النباح .
وتطفو الطحالب والمستنقعات ، تنتشرُ ، تتوسّع ، تضع بصماتها على كلِ شبرٍ من الرمالِ المتراميةِ الأطراف ، ثُقلُ الفاجعةِ يطحنُ أمانيه ، يُحيلها رماداً ، يُصهرهُ مع لهيبِ الشمسِ ، يُصليهِ بالضارياتِ من العذاب .
إستيقظت في قلبه ذكرياتٌ دامعة ، ذكرياتُ الأحبةِ اللذين سقطوا أمثالَ أبي فاطمة ، وقاسم ، وسلمى ، وعز الدين والعباسِ وجعفر وعدنان ، اللذين حملوا التراب مع الدماء ، خانتهُ دموعهُ ، التهمت أحاسيسهُ ، فسقطت قطراتها على أوراقِ الزيتونِ كالندى ، حدّقَ في دمعةٍ إستقرت على ورقةِ زيتونٍ ولم تسقط ، سافرَ في أبعادها ، فتراءت لهُ نداءاتٌ خرساءُ ، مآتمٌ ، ومن ثُمّ أعراسٌ جماعيةٌ تُبشّر ببدايةِ الغيث .
عندما عاد والدي كنتُ قد أنهيتُ لوحتي ، وقفَ بجانبي يتأملها ، زاغت عيناه ، غدرت به دمعةٌ سقطت من زاويةِ عينهِ اليسرى ، حمل اللوحةَ وعلّقها على الحائطِ بجانب صورةِ المسجد الأقصى ، طرتُ فرحاً ، عانقتُ والدي بجنون ، صرختُ بعنفٍ صادقَ المشاعر :
– أبتي ، متى سأرسمُ سياجاً بشرياً لمساحةٍ أكبر ؟ .
فكر طويلاً قبل أن يُجيبني قائلاً :
– تمهّل يا ولدي ، غداً ستنجلي الغيوم ، وسيتردد في سمائنا الصافية صدى رسالة هارون الرشيد الموجهة إلى نكفور ” من هارون الرشيد أمير المؤمنين إلى نكفور كلب الروم ، الجواب فيما ترى لا ما تقرأ ” ولكن أخشى ياولدي أن تكون الرسالة هذه المرة معكوسة الأطراف .
شَهقتُ ، تعالت شهقتي ، أحدثت صدىً لم أسمعهُ من قبل ، حدّقتُ كغيرِ عادتي في وجهِ والدي ، غضِبتُ ، صرختُ بعنفٍ ، بكيتُ بحرقةٍ ، تشنّجت أطرافي ، ذهبتُ في غيبوبةٍ دامعة ، حدّقت عيناي وشَخصَتْ في السياجِ البشري ، فتراءى لي أطفالٌ يولدونَ وفي يُمناهم غِراسٌ تُروى بالدم .
Discussion about this post