جمالية المونولوج في قصة ( الصوت )
للكاتبة العراقية ( ليلى المراني )
لماذا عنونت الكاتبة قصتها بالصوت وليس بالصدى رغم أنها أظهرت شخصية المتحدث إليها في النهاية وهو ” ماتبقى من ضميرك ” ؟؟!!
هل لأنّ الصوت حقيقي والصدى وهم ؟؟!!
تنوّع الكاتبة في أساليبها السردية مثل ” انتهينا “، والعودة إلى الخلف خطفاً عندما رجعت بذاكرتها في بداية القصة ” يجب أن نقيم مجلس العزاء انتظرنا عشرين عاماً “، ثم طغيان المونولوج الداخلي في القصة بين الأخ وضميره .
تروي الكاتبة قصة شابين أخوين، الأخ الكبير ياسر يكبر أخاه بثلاث سنوات، تزوج فتاة كان قد أحبها أخوه ياسر من غيرعلمه، ثم ذهاب ياسر للمشاركة في الحرب .. تصف الكاتبة كيف جمع الأخ الأصغر مالاً ليفتدي أخاه من الأسر، ويعود به من الحرب إلى زوجته وعائلته، ولكن عبثا. ثم انتهى الأمر بالعائلة إلى إقامة مجلس عزاء بعد فقدان الأخ في الحرب، حيث أقامت العائلة بعد ثلاث أيام مجلس عزاء للوالد وللأخ المفقود.
هذا ملخص القصة، ولكنّ الكاتبة تصوّر مونولوجاً عاشه الأخ الأصغر بعد موت أخيه، أهو الحلم ؟؟ أم الحقيقة الصارخة ؟؟ .. ثم ماذا وبعد؛ حبال غليظة تلتف حول رقبته تخنقه، هل هو تأنيب ضميروقضّ مضجع ؟؟ هل كان بالإمكان أكثر مما كان ؟؟
” لم يستطع النوم، وعينا ياسر تتسعان ” دلالة خروج الروح من الجسد، تتحول عينا ياسر إلى رامٍ يصوّب بحممه المشتعلة نحو أخيه، صورة أخيه قبل الموت بدقائق ربما تقضّ مضجعه، تجعله ” يفزّ مذعوراً ” .
لقد برعت الكاتبة في تصوير حالة المفجوع وهو الأخ الأصغر، إذ أصبح يحوم في غرفته كطير ذبيح، ومما يزيد من معاناته وألمه ووجعه هو ذاك الصوت اللعين الذي يقول له : ” قتلتَ أباك ، قتلتَ أباك ” ، ولاتنس الكاتبة أن تعبّر عن موروثات أسطورية قديمة عندما ذكرت اللون الأسود ” ترافقه عين سوداء كبيرة، كبيرة لدرجة مخيفة، تتسع، تسدّ مافي غرفتي من فراغ “، هكذا يتحول المكان غرفة النوم والراحة إلى مكان أسود مظلم مخيف، وتستمر الكاتبة في توظيف الحوار في القصة، والمونولوج الداخلي تحديداً، تقول: ” ماذا فعلت ؟ كيف منحتُ نفسي تلك السلطة الغاشمة وقررت مصيره ؟ ” ، يلوم الأخ نفسه، لأنه حدّد مصير أخاه، وتعدّى على سلطة الله في الأرض والبشر .. هل تُجيز الأعراف والتقاليد والقوانين لنا تحديد مصيرإنسان ؟؟!! .. لقد قارنت الكاتبة حال ياسر قبل الأسر وبعده، أصبحت قامته هزيلة منحنية، يكاد رأسه يلامس الأرض، شعر أبيض أشعث، يختلط بلحية بيضاء كثة، أصبح فاقداً ذاكرته والنطق، أشعث الشعر أشيبه ” هذا ما آل إليه حال ياسر بعد الأسر ” صامتاً كحجر أصم لايعي ماحوله “، هو حيّ ولا حيّ، موجود وغير موجود، تُرى كم كنا سنفقد من أحبة مقربين منا لو أننا قررنا نحن مصير حياتهم ووجودهم ؟؟ هل سنبقى كما نحن إن فعلنا ذلك ؟؟ هكذا عبّرت الكاتبة عن هذه الفكرة بقولها : ” أيها الصوت اللعين، لماذا تنكّل بي هكذا ؟ ” ، هذا الصوت، إنه ضميره، يعاتبه على تقصيره في إنقاذ أخيه، يلومه لأنه فكّر بنفسه أكثر من أخيه، ولعل النهايات المفتوحة التي لجأت إليها الكاتبة ” وأملٌ عاد ينمو في قلبك أن … “، إنها تستثير خيال القارئ وتحرّضه ليكمل ذلك الفراغ بما أحسّه وشعر به .
ثم يدافع الأخ عن نفسه، صحيح أنه أحبها قبل أن تصبح زوجة أخيه، إلا أنه مازال في الأربعين ولم يتزوج، بل تفرّغ لتربية ابنة أخيه .
لقد أصرّ الأخ على معرفة مَن يعاتبه ويلومه، ومَن أتعبه لهذه الدرجة، ليعرف أنه ” ماتبقى من ضميرك ” .
استطاعت الكاتبة من خلال القصة أن تنقلنا نقلات حية بين الماضي والحاضر والمستقبل، بلغة سلسة واضحة، لاتكلف فيها ولاتصنع، لغة نابضة بالحياة وبالحوار، مستخدمة السخرية تارة، والدهشة تارة أخرى ..والصدمة تارة ثالثة ..
استعانت الكاتبة بموروثات قديمة، كذكر اللون الأسود وإيحاءاته من حزن وألم وخوف وانكسار، كذلك رمز العين الواحدة والتي اتخذت عبر الأساطير والأفلام صفة للشيطان، مع اختلاف أنّ عين الشيطان صُورت بلون أحمر، والكاتبة هنا جعلتها عيناً سوداء لتزيد في قتامة الصورة وهولها ، ثم صخرة سيزيف، رمز المتاعب والمصاعب وأعباء الحياة المضاعفة، وقد أضفت الكاتبة مرة ثانية من روحها عندما قالت ” وعدتُ وأنا أحمل سيزيف وصخرته اللعينة ” إنه تكثيف للألم والوجع الذي أثقل الحمل. ثم استخدمت صوراً فنيةً مؤثرة، عبّرتٔ من خلالها عن الحالة النفسية للشخصية بدقة وإتقان من مثل : ” أحوم في غرفتي الصغيرة كطير ذبيح ، صامتاً كحجر أصمّ لايعي ماحوله، أحمله شبحاً لايملك من ياسر غير تلك الندبة على أنفه ، أب لم يبق من نسغه إلا القليل القليل ” .كم هي جميلة دلالة النسغ فيما ذكرته الكاتبة، فقد أرادت به الدم الذي يغذي الجسم بأكمله، كالنسغ الذي يسري بأغصان النبتة ويمدها بالغذاء والمعادن الهامة، إضافة إلى استخدام الكاتبة لبعض الكلمات التي تحمل دلالة عميقة كقولها : ” أفزّ مذعورا .. كتمتُ حبي بل وأدته ” فالوأد كما هو معروف دفن النفس حية في التراب لإماتتها، وهكذا كان حبه لزوجة أخيه قبل أن يتزوجها الأخ، وكلمة ” أفزّ” وما تحتويه الكلمة من حرف الزاي المضعف مرتين مع الشدة واتحاد حرف الفاء مع الزاي المكررة ثلاث مرات أوحى باستمرارية الحركة والقيام بفعل النهوض والفز الذي هو أقرب إلى السرعة والتأهب ..
قصة جميلة معنى ومبنى، حمّلتها الكاتبة ذوب عاطفتها الإنسانية النبيلة، ونحن في زمن بتنا نفتقد للشعور الإنساني النقي الشفاف، فكم هم الذين يحاورون ضمائرهم ويخافون ردة فعلها ؟؟ وكم هم – اليوم – الذين يصقل الحزن قلوبهم، ويشذب الألم أرواحهم، وينّقي ذواتهم ؟؟؟!!! … قلة ولاشك في ذلك .
شكرا للكاتبة ” ليلى المراني” وقد حوّلت الوجع إلى أدب مبدع نحتاجه كغذاء أساسي مثل الطعام والشراب في حياتنا.
بقلم رولا علي سلوم
*****************
الصوت… قصة قصيرة
ليلى المرّاني… من العراق
— انتهينا… الآن يجب أن نقيم مجلس العزاء، انتظرنا عشرين عامًا
ولولَ صوت عمّي الذي يصغر والدي بخمسة أعوام، سقط رأس أبي على صدره، هرعتُ إليه أحتضنه، بلّلتْ دموعه رقبتي، أعنتُه ليذهب إلى فراشه حاملًا سجّادة صلاته التي أصبحت جزءا منه منذ فقدنا أخي في الحرب… بعد ثلاثة أيام، أقمنا مجلس عزاءٍ لوالدي ولأخي المفقود.
لم أنمْ ليلتها، حبال غليظة تلتفّ حول رقبتي، تخنقني، عينا ياسر التائهتان تتّسعان، تقذفان حممًا تحيل فراشي جحيمًا يستعر؛ فأفزّ مذعورًا، أحوم في غرفتي الصغيرة كطيرٍ ذبيح، يُلاحقني الصوت اللعين: (قتلتَ أباكَ.. قتلتَ أباك )، ترافقه عين سوداء كبيرة.. كبيرة لدرجةٍ مخيفة، تتّسع، تسدّ ما في غرفتي من فراغ.
ماذا فعلتُ؟ كيف منحتُ نفسي تلك السلطة الغاشمة وقررتُ مصيره؟.
حين جاء به حارس المعتقل الذي ضمّ مئات الأسرى؛ صُعقتُ… قامة هزيلة مُنحنية، يكاد رأسه يلامس الأرض، شعر أبيض أشعث يختلط بلحية بيضاء كثّة، أستحضر صورته قبل أن تسرقه الحرب منّا، (هذا ليس أخي… ليس ياسرًا). لحظات حاسمة كانت بين أن أحتضنه وأعود به إلى بيته وزوجته وابنته، ضائعًا، فاقدًا ذاكرته والنطق، أشعث الشعر، أشيبه؛ وأن أتركه في عالمه الذي اعتاد عليه، صامتًا كحجرٍ أصمّ، لا يعي ما حوله.
جفلَ وارتجف هلعًا، واضعًا ذراعيه حول رأسه ووجهه حين حاولت أن أحتضنه، أراد أن يهرب؛ لكنَّ الحارس أعاده، وفي محاولةٍ منّي لتحفيز ذاكرته، وضعتُ أمامه صورًا لزوجته وابنته التي تركها وعمرها ثلاثة أعوام، وصورًا لوالدي وأمّي التي رحلت وهي تذرف آخر ما تبقّى في مقلتيها من دموع؛ لكنَّه كان ينظر إلى السقف ويبتسم ببلاهة أثارت حفيظتي؛ إلّا أنه حين أخذ صورة زوجته وهو يحاول الهرب لم أنتبه، كانت الدموع تملأ عينيَّ فلم أرَ ذلك.
— بل انتبهت وتغاضيت.
— أيها الصوت اللعين، لماذا تنكّل بي هكذا؟ أخبرتُك الحقيقة مائة مرّة؛ لكنك لا تريد أن تُصدِّقني، سأُعيدها عليك للمرّة الأخيرة: ذهبتُ إلى المعتقل وأنا أحمل مبلغ الفدية التي تنقذ أخي من الأسر، بعد أن أعلنت حكومة الدولة العدوّة عن إطلاق سراح الأسرى مقابل مبلغ كبير من المال، اضطررتُ لأن أستدينه من عمّي وبعض الأصدقاء، كان الطريق طويلًا لا يريد أن ينتهي كنتُ أحمل صخرة سيزيف على ظهري، وعدتُ وأنا أحمل سيزيف وصخرته اللعينة، نزفٌ في قلبي يوجعني وأنا أُمهّد للكذبة التي ستُنهي ما تبقّى من احتمال أبي ومقاومته، تمنّيتُ أن يطول الطريق، ألّا أعود، أن أهرب… أو أن أعود إليه، أحمله شبحًا لا يملك من (ياسر) الذي كان يملأ البيت صخبًا وحياة، غير تلك الندبة التي على أنفه، ولولاها، أُقسِم؛ لما عرفته؛ أُلقيه عبئًا على زوجةٍ أنهكتها الحياة انتظارًا، وأبٍ لم يبقَ من نسغه إلاّ القليل القليل.
— وأملٌ عاد ينمو في قلبك أن…
— أن ماذا؟
— تحظى بها أخيرًا
—أيها اللعين، كيف تقول ذلك؟ هل نسيت أنها زوجة أخي؟
— لكنك أحببتها قبل أن تُصبح زوجة أخيك
— كنتُ مراهقًا، وهي تكبرني بثلاثة أعوام، كتمتُ حبّي لها، بل وأدتُه حين علمتُ أنَّ أخي يُحبّها، وأنَّهما تعاهدا على الزواج.
— ولم تتزوّج لحدّ الآن رغم بلوغك الأربعين.
— نذرتُ نفسي لرعاية والديّ وابنة أخي؛ كي لا تكون تحت رحمة
رجل غريب يدخل بيتنا.
— ههههههه! حجّة واهية وادعاء كاذب
— مَن أنت؟ أتعبتني… مَن أنت؟
—أنا ما تبقّى من ضميركَ..
Discussion about this post