بين حرارة اللقاء وجليد الصدمة
قراءة للقصة الفائزة بالمركز الأول/ محور القصة العامة دورة الروائي رعد الحلي/ملتقى السرد الروائي/برعاية الأستاذ(رياض داخل)للأستاذ/محمد يوسف حسن
بقلم:جمانة الزبيدي
يرتبط الأنسان برباط وشائجي قوي،لأمتداده وتجذّره،فينظر للأبن على إنه الغد و ينظر للحفيد بأمل المستقبل القادم، شوق مُستعر،وحنينٍ تذكو جذوته ،تُلهٍب جوانح شيخٍ عجوز يرنو على-بعد المسافات- لبلّة تروي غليله،تهدأ فيها ثائرة الحنين بكلمات ينطقها حفيدٌ يستلب الروح حباً، ويستقر فيها وجيب قلب الجد،حتى بدأت تلك الكلمات بالأنحسار،وأستُبدلت برموز لاتروي من ظمأ،ولا تُسكِنُ من وجد، علاقة ترابطية تظم (الجد والأبن والحفيد) ،يمدّ عناقاً تصورياً بأمتداد (القارات) التي تفصل الأجساد ولا تمنع الأرواح.لكل إنسانٍ عمر زمني يوازيه العمر العقلي فإذا تقدّم العقلي فالنتيجة ذكاء مشهود وإن تأخّر فهو نذير شؤم بتراجع المدارك العقلية لدى الإنسان،وهذا ما أدار الكاتب قطبية الفكرة فيه.
أتقن الكاتب بأسلوبٍ قصصي جميل،يمزج فيه بين العاطفة والعلم،نقطة محورية في حياة طفل تمضي به دائرة الأيام ومداركه ترجع القهقرى،
اللقاء المرتقب:
ينتظر الشيخ بخواء روح شفّها البعد ،وأرّقها الحنين ليلتقي بأمتداده ،ليُصدم( _ حفيدي مقيد .. كيف ذلك .. لماذا تقيد يدا ابنك؟!
من أعطاك الحق) .يحاول الأبن شرح مالايمكن تقبله لكليهما ولكن يعرض عن ذلك،ويتوسل ألا يفك الجد قيود حفيده. يفتح الكاتب باب الإيهام للعلة التي ألمّت بالطفل،متحاشياً الإفصاح عنها،بأسلوبٍ مؤلم يترك لنا حرية تأويله( اقترب الابن من والده وضمه بحرقة وقد أجهشا في البكاء) .
إعتمد الكاتب لغة سردية بسيطة بعيداً عن التلغيز والغموض،مستخدماً الوصف للحالة الشعورية التي تنتاب الجد بالفاظٍ واضحة ومعانٍ جلية.
كان توظيفه للزمكان دلالياً أكثر ، حيث الفضاء واسع ليترك للقارئ إلتقاط البعد للغربة أو النزوح القهري، للزمان حضور بصورة مغايرة عمّا اعتاد عليه القرّاء،حيث أظهر فيه التراجع الزمني للمدارك العقلية وهو ما أسلفناه،وهي خطوة ذكية لا يوظفها إلا قلم يعرف أين ومتى يخط حرفه،كان الجو الموسيقي هادئاً وترياً،يتصاعد بنهاية القصة متماهياً والحالة النفسية لأبطال النص، أحكم القاص (قفلة)النص بتأثير نفسي رائع، يشد القارئ ويسمّره.
أبارك للأستاذ محمد حسن وأتمنى له دوام التألق والإبداع والنجاح.
القصة:
بلا يد
مرت سنوات .. وهو يناديه عبر القارات البعيدة، يرسل له نداء” وصورا” ، كان الصوت القادم من العتمة يحمل صدى، ويوقع أثرا”، وتلك الصور المرسلة عبر أثير الشوق أبت أن تبرح خياله، وتلك اليد الممدودة عبر الشاشة الزرقاء يحاول كل مرة استعادتها لكنه يعود دائما” دون يد .
_ جدي ..
وتذوب مع الصدى وتحفر أخاديد، عندما تتعانق الشفاه وهذه البسمة البريئة من دون دفء .
_ اشتقت إليك ..
يسمعها وتبرق تلك العيون الحانية بدون احتضان، ويهرب إلى ألعابه ويذوب في الضجيج ولا يلبث أن يعود لإطلالة، يتدحرج قلب الجد الصغير أمامه وينسى أن يعيده إلى مكانه .
_ جدي .. جدي .. جدي ..
ويهرب من جديد وتختفي كل الصور ويعيش الجد في كل مرة مع خيالاته، يبتسم تارة ويرمي ابتسامته في حضن اللهفة، وتتجعد اللفتة، عندما تسرقها مدن البعد الهاربة دون حذاء على أمل اللقاء حتى يؤرشف بعدها كل الصور، ويلملم كل الشتات .
في ذاك اليوم عندما التقى في رياضه الليل والنهار كانت العتمة قد أوشكت أن تنجلي والنهار يمشي الخيلاء
مرت سنتان ونيف وهو يرسل له الصمت وحركات تناست الحوار، تلك هي الوسيلة الوحيدة للتواصل عبر الشاشات، وتتعانق الشفاه مع الكلمات أمامه دون أنفاس، والليل قد تأبط ظله ورحل تاركا خلفه أكواما من الثلوج ولسعة من برد، درجات الحرارة عندما أشرق هذا الصباح تتفاوت بين مد وجذر هي باضطراد ترتفع رويدا رويدا كلما اقترب القطار القادم إلى رصيف الشوق .
على الطاولة الكبيرة التي كانت تنتظر برعمه هناك أطباق فاخرة، وفاكهة نضرة، وعصائر، وحلويات، وفي غرفته أحضر جده له ألعابا” وصورا” وسريرا” رتبت وسادته بعناية وستائر ملونة .
كان الجد خلف باب بيته ينتظر، يتسابق مع رجليه عبر كل الغرف، يرتب هنا ويضيف هناك، يفتح الباب ليغلقه بعد أن يلسعه البرد، لكنه ما يلبث أن يعاود فتحه من جديد ليغلقه مرة أخرى، وتمر الدقائق المتكئة على عكازها وهي تلوح له ببرود وهو يرتجي رحيلها بعنفوانه حتى حسم أمره عندما سمع صوت السيارة تقف خارجا”، ففتح الباب وأضاء كل مصابيح البيت، وأشعل الشموع، وتسمر في مكانه ينتظر .
_ جدي .. جدي .. جدي .. جدي …
وذاب الحفيد في أضلاع جده الذي أهطل خده بسيل من القبل، كان العناق دهرا” ، ورائحة الحنين أيقظت في صدره عشق الصور، وانهمرت كل الدموع، وبح الصوت وهو يضم حفيده ويتلاشى الضم بصراخ الحفيد وتمرد خطواته ..
_ حفيدي مقيد .. كيف ذلك .. لماذا تقيد يدا ابنك؟!
من أعطاك الحق؟
فك الجد وثاق الطفل، والابن يرجوه ألا يفعل وأطلق له العنان فأخذ يسابق نفسه في أرجاء الشقة وفي كل الغرف متنمرا” مع ذاته وهو يبث الفوضى ويبعثر الأرجاء، واختلط الحابل بالنابل والجد في ذهول، تربطت أوصاله وانحلت ركبتيه من هول المشهد الذي أصابه بالارتباك، وهو يشاهد حفيده المنتظر يركل كل شيء أمامه ويتذوق من كل الأطباق ويلون ثيابه ويرسم لوحات على أرجاء غرفة نومه، والجد تجمد الدم في كل عروقه وانحلت ركبتاه وفترت أوصاله ..
اقترب الابن من والده وضمه بحرقة وقد أجهشا في البكاء .
تمت بقلمي
المحامي محمد حسن
سوريه. حلب
Discussion about this post