التفسيرات القرآنية بين الانحراف والإنصاف
دكتور رجب إبراهيم أحمد عوض
جامعة السلطان عبد الحليم معظم شاه الإسلامية العالمية
التفسير بالرأي وفهم المعنى القرآني:
وهو التفسير القائم على اجتهاد التابعين للصحابة ومن جاء بعدهم من العلماء الاتقياء ذوى الفطن وهم الذين اتخذوا من سعة علومهم باللغة وإلمامهم بأصول الشريعة وفهمهم لروح الدعوة الاسلامية اتخذوا من ذلك وسيلة للتمحيص والتخريج واستنباط آراء وشروح مفصلة لقضايا وردت في القرآن بطريق الاشارة إليها أو الاجمال لها، وقد فتح ذلك باب التفكر والتدبر في آيات الله وعدم الاقتصار على ظواهرها وعلى آراء السلف فقط في تفسيرها بل حاولوا الاجتهاد والتعمق في فهمها واستخراج المعاني الدقيقة المنطوية عليها بحيث لا يخالف هذا الاجتهاد روح الشريعة وأهدافها.
وقد أجاز هذا التفسير بالرأى الامام الغزالي وغيره ما دام الرأى لا يخالف القرآن ولا يعارض السنة النبوية ويحقق ما أمر به الله في قوله تعالى في سورة
محمد آية 24: (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ؟) وفى هذا تحريض على التدبر والتفكر في القرآن بقلوب مفتوحة وعقول مستنيرة غير مغلقة.
وأنه على الرغم من الدعوة إلى تعقل آيات الله والتعمق في معانيها إلا أن هناك من المحاذير ما يمنع بل يحرم تحريما باتا استعمال الرأى إذا كان هذا الرأى نابعا عن هوى شخصي في نفس المفسر ما يتنافى مع الشرع ويأباه العرف، أو كان رأيا صادرا عن تحميل الآيات ما لا تتحمله لاقرار مذهب معين يتعصب له المفسر ويقحمه إقحاما لا مبرر له أصلا في نصوص الآيات لان ذلك يفتح أمام القلوب المريضة المجالات للتهجم على القرآن بما لم ينزل به الله سلطانا.
وقد نقل السيوطي عن الزركشي “في البرهان” خلاصة الشروط التي لا بد منها لإباحة التفسير بالرأي، فرآها تندرج تحت أربعة :
الأول: النقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع التحرز عن الضعيف والموضوع.
الثاني: الأخذ بقول الصحابي، فقد قيل: إنه في حكم المرفوع مطلقا، وخصه بعضهم بأسباب النزول ونحوها مما لا مجال للرأي فيه.
الثالث: الأخذ بمطلق اللغة مع الاحتراز عن صرف الآيات إلى ما لا يدل عليه الكثير من كلام العرب.
الرابع: الأخذ بما يقتضيه الكلام، ويدل عليه قانون الشرع. وهذا النوع الرابع هو الذي دعا به النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس في قوله: “اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل”.
والمتأمل في هذا النوع من التفسير يجد أنه ينطوي على خطورة بالغة،ومرد تلك الخطورة راجع إلى خطأ هذا التفسير،الذي يريد صاحبه أن يحمِّل ألفاظ القرآن الكريم على ما اعتقده من معاني اللغة العربية،ويقرر هذا المعنى كونه أحد معاني اللغة العربية دون أن يضع في اعتباره حال المنزَّل عليه القرآن والمخاطب به أيضا.
ويتخذ هذا الخطأ أشكالا وصورا،فلأول منها أن المعنى سواء كان مثبتا أو منفيا يكون صوابا مع أن لفظ القرآن لا يدل عليه،ويكثر هذا في تفسير المتصوفة،ومن هذا ما جاء في تفسير السلمي (حقائق التفسير) في تفسيره لقوله تعالى:( وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ…)[النساء:66].فيقول :اقتلوا أنفسكم بمخالفة هواها،أو اخرجوا من دياركم،أي:أخرجوا حب الدنيا من قلوبكم”.( )
فهذا المعنى –لا شك-صحيح في ذاته،لكنَّ مراد الآية الظاهر غير هذا.وكأنهم يقولون:إن المعاني الظاهرة غير مرادة.
وقد يكون المعنى المراد تأويله خطأ لكن المفسر يحمل عليه لفظ القرآن مع عدم دلالة اللفظ عليه تماما،كما جاء في تفسير ابن عربي فيما عرف بوحدة الوجود،فيقول في سورة المزمل:( وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا) حيث قال ما نصه:واذكر اسم ربك الذي هو أنت.( )
أو كما يفسر غلاة الشيعة بأن المقصود من قوله تعالى:”الجبت والطاغوت” بأنهما أبو بكر وعمر رضي الله عنهما.
ومن أمثلة تفاسيرهم وتأويلاتهم ما ورد مرويا عن الامام الباقر في شرح قوله تعالى: (من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون، ومن جاء بالسيئة فكبت وجوهم في النار) أنه فسر الحسنة بأنها هي معرفة الامام وحب آل البيت وأن السيئة هي إنكار الامام وبغض آل البيت، وكذلك ما روى عن جعفر الصادق في قوله: (فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون) أنه فسرها بأن أعمال الناس تعرض على الائمة من آل البيت.
وعن هذا يقول الطاهر بن عاشور عن هذه الطائفة:”التزمت تفسير القرآن بما يوافق هواها ، وصرفوا ألفاظ القرآن عن ظواهرها بما سموه الباطن ، وزعموا أن القرآن إنما نزل متضمنا لكنايات ورموز عن أغراض،وأصل هؤلاء طائفة من غلاة الشيعة عرفوا عند أهل العلم بالباطنية فلقبوهم بالوصف الذي عرفوهم به ، وهم يعرفون عند المؤرخين بالإسماعيلية لأنهم ينسبون مذهبهم إلى جعفر بن إسماعيل الصادق ، ويعتقدون عصمته وإمامته بعد أبيه بالوصاية ، ويرون أن لا بد للمسلمين من إمام هدى من آل البيت هو الذي يقيم الدين ، ويبين مراد الله”( ).
وتفاسير الفرق الإسلامية المختلفة ترجع -في الحقيقة- إلى التفسير بالرأي، غير أنها تدخل في النوع المذموم منه، لأن أصحابها لم يؤلفوها إلا لتأييد أهوائهم، أو الانتصار لمذاويقهم ومواجيدهم، من ذلك تفاسير المعتزلة والمتصوفة والباطنية.( )
التفسير الإشاري وفهم المعنى القرآني:
والتفسير الصوفي يعتمد أساسا على أن للقرآن ظاهرا وباطنا، ويقصد بالظاهر الشريعة وبالباطن الحقيقة، وعلم الشريعة علم المجاهدة، وعلم الحقيقة علم الهداية، وعلم الشريعة علم الآداب وعلم الحقيقة علم الأحوال، وعلم الشريعة يعلمه علماء الشريعة وعلم الحقيقة يعلمه العلماء بالله، يقول السلمى في مقدمة تفسيره عن الباعث لإقدامه على كتابة تفسير القرآن: (لما رأيت المتوسمين بعلوم الظاهر قد سبقوا في أنواع فرائد القرآن، من قراءات وتفاسير ومشكلات وأحكام وإعراب ولغة ومجمل ومفصل وناسخ ومنسوخ، ولم يشتغل أحد منهم بفهم الخطاب على لسان أهل الحقيقة إلا آيات متفرقة، أحببت أن أجمع حروفا أستحسنها من ذلك وأضم أقوال مشايخ أهل الحقيقة إلى ذلك وأرتبه على السور حسب وسعى وطاقتى)( )
ويقول سهل بن عبد الله التسترى في تفسيره: (ما من آية في القرآن إلا ولها أربعة معان، ظاهر وباطن وحد ومطلع)( )
ومنه أيضا تفسير لطائف الإشارات للقشيري،ويرى فيه أن الله أجرى إشارات لفهم معاني القرآن على قلوب أهل المعرفة: (وكتابنا هذا يأتى على طرف من إشارات القرآن على لسان أهل المعرفة إما من معاني قولهم أو قضايا أصولهم، سلكنا فيه طريق الإقلال خشية الملال مستمدين من الله تعالى عوائد المنة، متبرئين من الحول والمنة مستعصمين من الخطأ والخلل، مستوثقين لأصوب القول والعمل)( )
والملاحظ أن السمة الغالبة في التفسير الإشاري لدى الصوفية تتضح فيما يلي:
أولا:أن للقرآن ظاهرا وباطنا، وأن الظاهر للعوام والباطن لا يدركه إلا الخواص وإدراك الخواص هو فيض إلهي ينير بصائرهم، ويكشف لهم عن معارف لدنية مباشرة.
ثانيا:أن العلم بالقرآن على هذا النحو يفترق عن العلوم القرآنية الأخرى في بدايته وفى طرائقه وفي غاياته، فضلا عن أنه يفترق عن سائر العلوم بضرورة العمل، فالعالم لابد أن يكون عاملا وعمله هو جهاده ورياضاته فضلا عن تزكية النفوس وتطهير القلوب والحث على التحلى بالأخلاق الفاضلة.
ثالثا: أن التفسير الإشاري وإن كان يعتمد على ما وراء العبارة الظاهرية إلا أنه لم تخل من بعض ما نقل من الآثار على النحو المذكور في التفسير بالمأثور أو التفسير بالرأي بالطريقة الاستنباطية، أو تفسيرات تعتمد على معاني الألفاظ والتفسيرات البلاغية.
رابعا: تتعرض هذه التفسيرات لكثير من المعاني والمصطلحات الصوفية التي تكشف عن طريقتهم وتجربتهم، لا سيما أنهم يوجهون الآيات كشواهد لهذه الرموز والمصطلحات.
خامسا:معاني تفسيراتهم لا يصل إليها الإنسان العادي إلا بمشقة وعنت، و هناك معان مشكلة تصل في بعض الأحيان إلى الكفر والزندقة.
سادسا:يشوب هذه التفسيرات كثير من الانحرافات العقدية وغيرها فيما يتعلق بصحيح الدين فهي لم تسلم من الإسرائيليات، والاستشهاد بغير القرآن والسنة، ولم تتبع الدقة في تحري ثبوت الحديث، أو مراعاة التعليق على الأسانيد، وكذلك لم تخل من فكر باطني.( )
والسؤال الآن..هل استطاعت التفسيرات الإشارية أن تبين المعنى القرآني الذي أراده اللفظ القرآني؟وهل يمكن أن نقبل هذه التفسرات الإشارية التي لا تزيد الأمر إلا صعوبة في فهم المعنى؟
حول هذا السؤال يقرر محمد حسين الذهبي أن الأدلة مجتمعة تعطينا أن القرآن الكريم له ظهر وبطن، ظهر يفهمه كل من يعرف اللسان العربي، وبطن يفهمه أصحاب الموهبة وأرباب البصائر، غير أن المعاني الباطنية للقرآن، لا تقف عند الحد الذي تصل إليه مداركنا القاصرة بل هي أمر فوق ما نظن وأعظم مما نتصور.
ومن أمثلة التفسير الإشاري:
قولهم في قوله تعالى: {لينفق ذو سعة من سعته…} فالآية في نفقة الزوجة, لكن أرباب السلوك يرون فيها إشارة إلى أن الواصل يرشد إلىالله على قدر ما وهبه الله من المعرفة, والسالك يرشد أيضا لكن على قدره, قال ابنعطاء الله في الحكم:
(لينفق ذو سعة من سعته…) الواصلون إليه {ومن قدر عليهرزقه…} السائرون إليه).
و قوله تعالى: {إنماالصدقات للفقراء والمساكين} فالآية في مصارف الزكاة, لكن أرباب السلوك يرون فيهاإشارة إلى أن مواهب الله على القلوب لا تكون إلا بتحقيق الفقر والمسكنة لله .
وقد استدل الصوفية لإباحة هذا النوع من التفسير بأدلة واهية؛ إما ضعيفة أو ساقطة أو موضوعة، لا يمكن أن يؤخذ منها ولو إلماحة لتجويز مثل هذه الشطحات مع كتاب الله تعالى.
الخميس: 18/05/2023







Discussion about this post