قصة قصيرة
من حبرون إلى جرهم
الأرض أشاهدها ممتدة الأطراف لا ينتهي القرار فيها، كانت واسعة أكثر مما ينبغي، والشمس الحارقة تخترق كل أجسادنا، وتلك الرمال التي تحوينا تلسع أسطح أرجلنا دون رحمة، كنا نمشي ليل نهار فوق كثبانها والمسار منها لا يريد أن ينتهي بنا أبدا”، كنت أحاول ضم ابني الرضيع أقيهِ بوشاحي من أشعة الشمس الملتهبة، لعل الظل ينعشه ويشعره بالأمان. عندما كنت أتعب من حمله؛ يأخذه مني زوجي، ويضمه إلى قلبه،ويهبه بعضا” من أكتافه، كان طفلنا يأنس لنا وينتفض تارة عندما يحمى الوطيس .
رحلتنا الطويلة لا تريد أن تنتهي، فكنا نستقبل شمساً ونودعها، وسئمت من عدِّ النجوم.
لم أكن أعرف إلى أين نذهب! كل ما أعرفه أنني مع ابني وزوجي راحلون، وزاد في دهشتي حين نبيت في هذا العراء الواسع أن الحشرات والأفاعي تهرب منا بخوف.
بينما يصر زوجي على ضم ابننا حتى الصباح.
لكنني أخيرا”عرفت السر ..
بكيت بحرقة وترجيته بركوع، كنت أقبل الأرض ورجليه واستحلفه بالله أن لا يتركنا لوحدنا في هذا العراء، كان الصمت يلازمه، ضرب موعداً معه، وهو ينظر لنا بعين الرأفة، ولكن بصمت و حيرة وقليلا” من الارتباك، لم يكن ينبس ببنت شفة ونظرُه دائما شاهقٌ إلى السماء، ومن داخله ينشطر .
كنت أعرف أن زوجته الأولى هي من أمرته بإبعادنا، لكنني لا أعرف لمَ هو مسكين إلى هذا الحد؟ ومطواع لها .؟. ولا أعرف لمَ دبّت في قلبها كل هذه الغيرة فجأة؛ بعدما تزوجني برضاها، وأنا خادمتها المطيعة لأمرها.!. لأنجب لهما ولد وهي العاقر التي لا يمكنها الخلف.
كيف لرجلٍ أن يذعن لزوجته الأولى؟ ويرمي ابنه الوحيد الرضيع وزوجته الثانية في مكان مقفر لازرع فيه ؟ شيء لا يصدق ولا يخطر على قلب بشر،
كيف لهذا القلب الصغير أن يجحد ..؟ وكيف.. وكيف ..؟ لكنه فعل .
تعلقت بثوبه علّي أستجدي منه العطف، وأستدر من طيبه بعضا” من نفح، لكن باءت محاولاتي كلها بالفشل.
_ إنه أمر الله ولا راد لأمره إلا هو!..
قالها مع دمع المقل.
_ ونعم بالله .. ربنا لن يضيعنا.. متأكدة من ذلك.
استسلمتُ لهذا الأمر الواقع وأحبطّتُ وأنا أنظر له وهو راحلٌ، يلتفت إلينا ويسقط قلبه فوق الرمال ويعيده مكانه ويسقط من جديد ويعيده .. ثم تركه يسقط دون أن يتناوله حتى غاب عن النظر .
بتنا يومها وحيدَين، نعانق الرمال فوق تلك القفراء، التي ذهبت عنها حرارة الجحيم، وتحولت إلى صقيع.
لملمت نفسي، وحبست أنفاسي، وطفلي الرضيع يحاول الدخول إلى أضلعي، فقد أحس بالوحدة وهو يشتم عرقي وأشتم أنا نفحه فنتحسس الهمس.
مضى يوم آخر وتبعته أيام؛ وكلانا يلتحف السماء،النهار الرمضاء تنيره والليل جليد الظلمة.
أخذ زادي ينضب، وشكوة الماء بدأت تختلج، وطفلي يبكي تارة ويغفو أخرى، ويتمتم بأبجدية حروف مبهمة كانت لي، وأنا بدوري كنت أبتهل، أشخص ببصري إلى السماء، وأرفع أكف الضراعة، وأدعو ويرتفع الدعاء ويرتقي إلى السماء،
كنت رغم هذا الفراغ الهائل الذي وجدت نفسي فيه؛ مرغمة وخارج عن إرادتي، لكنني كنت أشعر بالطمانية، بالأنس مع رضيعي، وبهالة تحيط بي من كل جانب، ويهرب منا الموت.
استيقظت هذا الصباح على بكاء رضيعي، كان بكاؤه يعتصرني من الداخل، كنت أعرف السبب! فهذا الجوع الذي بدأ ينهش فينا لا يرحم، والعطش الذي تعب منه الظمأ لا يحتمل، فقد نفذ الزاد، وتبخر ماء الجعبة، وجف حليب الصدر .
وقفت حائرة لا ألوي على شيء، تلاشيت وخارت قواي، وأنا أسعى إلى هناك وإلى هنا، ولا أجد إلا السراب.
وطفلي يحفر الرمال بكعبيه من البكاء، وأنا أصطلي اللوعة، وبدأ الصبر الهارب مني عبر هذا المدى؛ يعجز عن صبري.
كنت وقتها محبطة من مسعاي، عائدة إلى رضيعي الذي أودعته السماء وحيدا”، للبحث له عن كلأ وماء، وقد هدني العطش، أسرعتُ خطاي في اتجاهه عندما لمحت الطير يحوم فوقه، وبدأت أركض وأركض لأصل إلى طفلي قبل الطير، وفعلا” وصلت! .
ذهلت! عندما وجدت الماء ينبع من تحت رجليه، ويجري بانسياب!
رحت أزمها لئلا تتسرب، ثم رويته وأرتويت، وأنا من هول المشهد؛ لا أصدق نفسي! وحمدنا الله الذي لا تضيع عنده الودائع.
رفعت رأسي إلى السماء لأبث الشكر، كانت الطيور تستأذن الهبوط، نظرت إلى الأفق الخالية إلا من قافلة، آنست وحدتنا، نزلوا عندنا وعشنا معاً، ومرت بنا الأيام وابني يكبر وأنا يكبر بي أمل الانتظار.
_ سنوات مرت وأنت بعيدا” عنا.. توقعتك نسيتنا!.
_ تلك مشيئة الله .. ولا راد لأمر الله .. وها أنا ذا عدت.!.
_ الحمد لله على سلامتك .. كنا ننتظرك .. كنت متيقنة من عودتك !..
_ اشتقت لك يا أبي .. لا تتركنا .. ابق معنا .. لا ترحل!
_ لن أرحل! سوف أبقى معكما وغدا سوف آخذك معي في رحلة إلى ذاك السهل.
كان الطفل هذا الصباح ما يزال نائما” في أحضان أمه، سهرت عليه طوال الليل تتأمله، لم تستطع النوم، الدم كان يغلي في عروقها، والدموع جفت من المقل، وغدت أقرب إلى الجنون.
عندما أخذ الأب ابنه بعدما استيقظ وذهبا معا برحلة إلى ذلك السهل البعيد، وهي ترتعد مع أوصالها، ولا تعرف ماذا تفعل! وسلمت أمرها إلى الله.
_ يابني لقد رأيت في المنام أني أذبحك فماذا تقول ..؟
_ يا أبي افعل ما تؤمر فستجدني إن شاء الله من الصابرين
وهنا تدخلت مشيئة الله تعالى وفداه بذبح عظيم …
Discussion about this post