نصٌ قصصي .
حالةُ حب .
الدكتور أنور ساطع أصفري .
****************************************************************************
عرقٌ فاترٌ يتصببُ ، يُشكّل جداولَ لزجة تسيلُ على وجهي ، رميتُ كل الأسئلة ، تجاهلت الإجابات ، أمّا صديقتي السمراء التي تجدل ضفائرها ، فقد قطعت جدار الصمت قائلة:
كم هو جميلٌ أنك عدت .
أجبتها وأنا أتأمل صفاء عينيها :
خير من ألاّ أعود أبدا، إشاراتي المرورية أصبحت كلها حمراء ، هويتي تُحنّط ، تُعلّب وتُصدّر .
استدارت تضع شريطاً في المسجل ، سألتني :
والآخرون ؟
خيّم صوت فيروز .
قلت بهدوء :
يصمتون لذلك لا أراهم ، يسخرون لأنهم يجهلون كيف تتجاسرُ الأظافر لتصبح مخالب تُمزّق الحلم والذاكرة .
* * * * *
الجرح ينزف ، تتشوّه ذاكرتي ، الكل ينفر مني ، زجاج نافذتي ، وردتي المفضلة ، ورائحة جسدي ، أسكبُ عطر ندمي في قدحي ، أشعر بالعجز الذي أورثني الضآله .
داعبت خصلات شعرها ، مررت أصابعي المرتجفة على وجهها ، إقتربت منها ، عانقتُ شهقتي بصمت ، تمتمتُ بثغرها :
في عينيّ أُقيمُ احتفالاتي ، وبين قنوات أهدابي أزرع النرجس ، على شفاهي تنبتُ السنابل وعلى صدري أحرق البخور فتفيض نفسي .
* * * * *
الكلمات تتسابقُ ، تتعثّر نازفة ، أبوح ، تأتيني كلمات الأقنعة :
أنت غبي .
يهمسون ، يأتيني همسهم ضجيجاً ، يضحكون حتّى الثمالة ، رائحةٌ نتنةٌ تعبقُ بالمكان ، أتمتمُ ، أصرخُ ، أحاولُ ، تتعب المحاولة مني ، تقتحمني حالةُ هذيان ، أهرولُ حافياً ، كلبٌ أسودُ يواكبني ، حجارةٌ صغيرة تلج جسدي ، أقف تحت شجرة فأراها بعيدة عني ، حولها صراعٌ يومي يدور ، تباطأت خطواتي ، الكلُ يدوس على الكل ، الجميع يدوسون ، الكل يرفع نظراته إلى الأمام ، غرابٌ نعاقٌ يحطُّ أمامهم على شجرة عالية ، وبومٌ ناعٍ يحدّقُ بهم شامتا .
* * * * *
فاجأتها بهمساتٍ تسللت بخدرٍ عبر حمرة شفتيها :
لن أنام هذه الليلة ، غداً سأحمل حاجاتي وأرحل ، فهذا قيس ما زال شاهداً عبر الزمان على أن الفراق لا بد منه ، وهذا عنترة يقف شاهراً سيفه وعبلة بعيدة عنه .
وقفت أمام نافذتي مودعاً ، إستدرت ، سألت الجدران ، شباك غرفتي الوحيد ، كأسي ، طاولتي ، أقلامي ، غفت الإجابات وهي تعانق الصمت .
ألقيت نظرة دافئة على أغراضي ، لم أنس شيئاً ، توقّفت نظراتي عند دفتر مذكراتي وأوراقي المتناثرة ، ابتسمت قليلاً ” سيكون لي دفتر جديد وأوراق كثيرة أخرى ” السماوات مظلمةٌ إلاّ هالةً بنفسجية كانت تعكسُ إضاءةَ حبٍ تجعلُ من يراني يحسبني عاشقين لم يلتقيا منذُ زمنٍ بعيد .
لامستني نسمة ليلية ، نبّهت حواسي ، لملمتُ أشيائي ، تركتُ الباب مشرعاً للحبِ ، للعصافير وللفراشات .
خرجتُ كطفلٍ بريء ، سرت والأزقة تهرب من تحت قدمي اللتان كانتا ترتفعان قليلاً لتتجاوز قمامة الليل .
توغّل النحيب متقيئاً في أحشائي ، فحلمت بمدينة الفرح المهجورة ، كان فجراً مختلفاً ، إنّها أول مرةٍ أتصل بها مع الفجر في غربتي ، حضنت صوتي ، بحثت عن قارّة مجهولة في مخيلتي ، عن قناة فضائية خاصّة بالمحبين ، حلمتُ بحبٍ خالٍ من الزبد أو طيفِ فقاعةٍ منسيّة ، شعرت بحريقٍ يُداهم أحشائي فبلعتُ ريقي مسرعاً.
اغتلت الحدود ، أعلنت خارطة جديدة لفرحي ، رسمت وجهاً جديداً لي ، طليته بكل مساحيق الفرح ، لكنه خذل ، فرسمتُ بإصبعي تجاعيد الزمن على جبيني .
في الصباح وقفتْ تنظر إليّ وأنا متربعٌ مطأطأ الرأس فوق منتصف رصيفٍ مهترىء ، أُتمتمُ بكلماتٍ غير مسموعة ، إقتربت مني ، عكس جمالها بريقاً هادئاً ، تمتمتُ ” أنتِ أنثى جداً ” .
صمتت عندما سمعتني أتوسلُ بأسى ، أتسوّل بإلحاح .
لم يمض وقتٌ طويلٌ حتى داهمني رجالٌ ، ساقوني ، وهناك إستجوبوني ، قاموا بإجراءات إثبات شخصيتي ، أخضعوا أناملي لمساحيق داكنة ، وعندما إتضحت البصمات إنعكست واختلطت معها صورة البلد .
بكيتُ بلا إستئذان ، سألوني ، أجبت :
صعبٌ أن أتكلم والصمتُ على شفتيّ أسئلة كثيرة .
دوّى صوتٌ جهوري :
هل بقي شيء لم تكتبه بعد ؟ اكتب كل شيء ! .
سقطت من زاوية عيني اليسرى دمعةٌ نازفةٌ مسافرة ، رسمتُ بحبري الدامي كلمة حب ، كتبتُ إسم حبيبتي مزيّناً بزهرة طويلة العنق ، يتهدّل شعرها كحرير على كتفيها ، نحتُّ بكلماتي طيور عشقٍ ، إخترعتُ وطناً من شعاع الشمس البكر ، وقلت :
لا بد أن يأتي ذات صباح .
Discussion about this post