المخزن ..ساكنٌ بين متحركين.
مقالة توفيقية
بقلم / محمد البنا
……………………
استقر عرفًا ولغةً على تعريف المخزن بمكان مؤقت لتخزين الأشياء تمهيدًا للتصرف فيها فيما بعد.
إذًا فإن مخزننا هذا الذي بين يدينا الآن يجري عليه تعريفه اللغوي، ولا يجوز بحال تجاوزه إلى غيره، كما لا يجوز تحميله بما لا يطيق إسقاطًا أو تأويلا يتنافى أو يعارض ماهيته الأصلية.
بناءً على ما سبق وأسلفناه يحق لنا أن نفتح أبوابه، ونتناول متنه تشريحًا نقديًا موضوعيًا يحكمه التعريف السابق ولا حيود عنه ولا فسوق.
مخزننا كمكان تعريفًا ولغةً وواقعًا هو بقعة ساكنة تضم بين حوائطها المتصلة تشييدًا أشياء..أشياء كانت من قبل سكونها متحركة، وآخر حركاتها كانت بالطبع التسكين، أي نقلها حرفيًا من حالتها المتحركة إلى الثبات الساكن، ومن ثم نحيلها مرة أخرى من حالة السكون المؤقت إلى حالة متحركة مغايرة لحركتها الأولى- قبل التخزين- أو متوافقة معها كامتداد طبيعي لتأدية وظيفتها المنوط بها إليها، ومن الجدير ها هنا أن أشير إلى براعة الأديبة التونسية فتحية دبش، حين نوهت في قراءتها الوجيزة لقصة * المخزن * بالآتي
” فالمخزن ليس بالمكان الذي تحيا فيه الأشياء متحركة بل تكون فيه شبه جامدة في مكانها وفي حالة انتظار دائم ” والانتظار هنا هو انتظار محدد الهوية واضح المعالم يتلخص في كلمتين موجزتين ناجزتين..حركة جديدة، كما الجنين يترقب لحظة مخاض..هذا التعبير اعتبره تعبيرًا جيدًا بل غاية الدقة والدلالة السيميائية المباشرة السابرة ببراعة لرؤية النص..إذن هو الانتظار!!..وليسأل سائلٌ ” انتظار ماذا؟ وقد ماتوا جميعا!!”، وهو سؤال محق قطعا يضم بين ثناياه دهشة واستغراب، تماما كما ضم النص بين دفتيه الدهشة والاستغراب، وكأن السائل أصيب بعدوى النص، أو كأن النص أفرغ في تلافيف فكر القارئ بذور دهشته، ولنجيب على هذا السؤال المحق وهو بالفعل جدير بالإجابة عليه، ينبغي علينا أن نستعين بعبارة أخرى أوردتها الأديبة الرائعة فتحية في مستهل قراءتها، ألا وهى
” أما (لا يزال) فقد جاءت لتؤكد على فعل الثبات أو الانقطاع عن الحركة الذي تحول من مجرد حالة وقتية إلى حالة دائمة ” وسأسمح لنفسي أن أضيف شرحًا مبسطًا يقرب هذه الجملة الفلسفية الاستثنائية إلى ذهنية المتلقي البسيط كي يستوعبها حق استيعابها، فهى جديرة أن تستوعب وتهضم لما فيها من فلسفة ومتعة بلاغية..لا يزال ..أوردها القاص لتؤكد على فعل الثبات أو الانقطاع عن الحركة باستمرارية الحركة ذاتها بشخوصها وحيثياتها( صب الشاي/ رفع اليد) فتتحول من ماهيتها كلحظة وقتية حدثت وانتهت إلى حالة حركة متكررة دائمة، لا تغادر الكادر المشهدي رغم أنف مغادرتها الفعلية المنطقية للزمن والمكان كلحظة حدثت في الماضي، وكانت هذه الجملة الموجزة للأديبة هى التعبير البلاغي بحرفية مشهودة عمّا أورده القاص نصًا في منتصف متن قصته حيث دوّن
” إلى هنا ينتهى المشهد، ليعاد مراتٍ ومرات، فلا هو صب الماء الساخن في الكوب، ولا أنا تمكنت من مد يدي لأتناوله ” فالثبات ثبات المشهد إذًا وليس ثبات الحركة داخل الكادر المشهدي، وجاءت العبارة ذاتها لتضيف بعدًا آخر أخفاه القاص خلف سطورها التي دوّنها في نهاية القصة، فتظهره كحركة مستمرة نابضة بالحياة بين حوائط المخزن مخالفة بذلك ما يستلزمه المخزن من سكون اتساقًا مع ماهيته، إذ مازجت بين متضادين كلاهما أبدعه النص في خاتمته اللافتة، وهما الحركة المستمرة وسكون الانتظار ترقبًا للحركة التالية للتخزين.
وهنا نعود للسؤال الأول..انتظار ماذا ؟ وقد ماتوا!
ولنجيب عن هذا السؤال بطريقة أخرى واجبة وملحة يتوجب علينا أن نعي ماهية الأشياء المخزنة، وبالتروي وامعان النظر سندرك بسهولة أن النص ينتمي للغرائبية السردية، إذ أنّ السارد روح، وعم عبده روح والراكبون أرواح..أرواح لأنفس ازهقها الانفجار..أرواح أزهقت دون ذنب أو جريرة..أرواح معلقة تتطلع لراحة أبدية لن تتحقق إلا بعيد القصاص، ومن ثم تغادر المكان، ولن تغادره وهى مغبونة مقهورة، ارواح تنتظر انصافها بالقصاص ممن ظلمها..والذي ظلمها ليس فردًا ( مسبب الانفجار ) وإنما كثر كثر..ومنظومة ألقتهم كنفايات، وهذا ما وضعت أديبتنا السورية القديرة / ريم محمد يدها عليه في حيثيات قراءتها الرائعة للقصة حين ذكرت الآتي ” مخزن نفايات يجمع فيه ما تبقى من فتات الظلم والكره والعنف لتحفظه مخازن بعض الحاويات المهملة ، أو مخزن لذاكرة مخفية خلف تغافل المسبّبات عن هذه الحالات، وبالتالي تشجيعها لأن التّغافل وعدم المحاسبة يدفع بالضرورة للإهمال ( حالات منسية ).”
وأختم مقالتي – وجميلٌ أن أختمها – بمقولة شيخ النقاد العرب والمنظر الأول للقص القصير صديقي وأخي / أحمد طنطاوي، بما أورده في دراسته التوقيفية الرائعة للنص ذاته
* كأنها تلك القصة التى تستعيد نفسها مع آخرين كأسطوانة خالدة دائمة الدوران مع راكب آخر و بائع آخر و بأسماء أخرى ,
فالنص هو قصة الحياة و الموت اعتيادًا ,
و النص اعتمد دلالتى القطار و المخزن فى تقابل لافت بين( الحركة\الحياة ) و( السكون \المقبرة )بصمته اللازم و عتمته *
وكذلك ما أورده في مستهل دراسته حين قال
* مقدمة\ وسط \ نهاية
خط صاعد الى الذروة و خط هابط الى النهاية ( لحظة التنوير الكاشقة )
كما وضع أسسها “موباسان” و سار عليها كل كتاب القصة من بعده *
ثم عرج بعدها للتنميط الحديث للقص القصير حين أشار إلى * يمكن أن يتعامل مع القصة القصيرة بنمط سردى جديد يخالف هذه الكتل و مراكز الثقل بشكلها المعتاد
و ينظر _ كقصيدة النثر _ الى النص فى إطاره الكلى *
وهو تماما ما اتبعه القاص كتقنية سردية مستعيضًا عن ( مقدمة / وسط / نهاية ) بالمشهدية وتجزئها ( حركة/ سكون / حركة)، ليتماهى بقوة مع ما سبق وذكرته عن ماهية العنوان ( المخزن).
شكرا حبيب قلبي / أحمد طنطاوي Ahmed Tantawy
شكرا أديبتنا العالمية / فتحية دبش
شكرا أديبتنا الرائعة / ريم محمد Reem Mohammade
محمد البنا…القاهرة في ١٨ مايو ٢٠٢٣
Discussion about this post