قراءتي لرواية “ميلانين” للكاتبة فتحية دبش
ميلانين
*جدلية الواقع والخيال في ميلانين .
رواية ميلانين كما يبدو من عنوانها العتبة الاولى والأهم تحيل على إشكالية بيولوجية طبيعية ترتبط باللون أو المتغيًرات التي قد تطرأ على البشرة نتيجة العوامل المناخيًة الطًبيعيًة التي يمكن أن تؤدي إلى زيادة في إنتاج الميلانين، ولكن أهمها التعرض للشمس، والتأثيرات الهرمونية، والعمر، والتعرض للشمس هو السبب الأول لفرط التصبغ، فأشعة الشمس هي التي تحفز إنتاج الميلانين في المقام الأول. فالعنوان يحدد الاشكال كظاهرة عامة فيزيولوجية معلومة .
لكن أن يكون العنوان بهذه الاحالة فالمتلقي سيرتبك في تحديد الصلة بين العنوان والمتن ليذهب به الظًنً إلى أنه إزاء لكن الانفراج قد يكون ممكنا إذا كان القارئ يعرف الكاتبة وله دراية بجذورها السمراء الأفريقية الجذابة .فينحو منحى آخر قد يقوده إلى قناعة حتمية بأن الرواية ليست إلا سيرة ذاتية وقد تحوي تفسيرات علمية للعلاقة بين الميلانين وفتحية دبش.
منذ البدء وبعد الاهداء الذي نال القارئ منه نصيب تبدأ الكاتبة بتحديد التاريخ والمكان بثبات يكاد يكون تاما لولا العنوان “قبل الانتهاء” من هنا انقلبت المعادلة رأسا على عقب لم تبدأ الرواية بعد والكاتبة تؤشر على القبلية رهينة الانتهاء الذي لم يبدأ بعد
القارئ وهو يتبع السطور ستاخذه الراوية الشخصية إلى عوالم الكتابة وطقوسها من عزلة وتفرد يصل حد التعجب والاستغراب “ما اصعب” ليكون التضادً بين ان تكون بينهم ولا تكون ..هي عائلتها الًتي تطلب منها “المغفرة” جراء انعزالها عنهم المستمرً وتلك لن يتفهًمها الا من احتجب عن الدنيا وأقام في محراب الحرف والكلمة والابداع.
لتمر إلى تبرير النصً وتحرًره من الذاتية الفردية ليكون الكل بل الجزء والجمع عوض المفرد. والتاريخ هو المسؤول عن “دحرجة” مكانية تتقاطع فيها الأسباب والظروف والسمات الطبيعية المعكوسة حتما لتصبح المسألة الاصعب والأشد هي الهويًة .
ليكون التًصدير بهوة بينة بين ابن الرومي ومفهوم السعادة عنده وجان بول سارتر وفلسفته الوجودية التي تمنح الأنا الأفضلية في الاختيار وان لم يتم الاختيار ..
الفصول عبثية لا نظام فيها ولا قانون الا ماتحكمه الظروف فمرة بعلم من اعلام الرواية “سهيل ” ومرة هو ملف به اشياء”ملف عدد 3 بوبينيي خريف 2018 شيء يشبه العادة السرية ”
ومرة هي قصاصة مرقمة مرتبة .
منذ البدء يقف المتلقي على حقيقة وهو أنه ليس أمام رواية عادية بل هي إلى التجريب اقرب . وهي من الدقة الآسرة بمكان.
رواية انبنت منذ البدء على الرحيل والمغادرة والوصول .
والبداية وحدها مربكة إذ تبدأ بضمير الغائبين “يتداولون الهمهمات…” ثم مباشرة تنحشر الساردة ضمن المجموعة “تتوالى كالنمل مغادرين…”ليرتد الذهن إلى “قبل الانتهاء” ولتكون السيرة جماعية، المتكلمة جزء منها .
المدخل منفتح على كل الاتجاهات .مدخل مكاني مخضرم مرتبط بالداخل والخارج بالأساس هو الواقع المألوف ركوب الطائرة والنزول والوجوه الكالحة دون عنوان بل باختلافات بينة تجذًر هذا وذاك في تربته البعيدة القصية .غير أن الكاتبة ستتملًص من المجموعة وتهتمً بالأنا ليكون التضاد بين البرد والجسد الصحراوي ينبثق الوصف من صميم الذات الراحلة بكل احاسيس الفقد والذهاب والاياب والارتباك من وضعية تدخل في ثوجّس مخيف من غد مجهول . فرغم الهدوء المألوف رغم الحركية دخولا وخروجا استقبالا وتوديعا فإن الاضطراب والشك داخل الشخصية .تقول
“اعيد النظر في صورتي …عساي اكتشف خيط شيب جديد.
الكاتبة البست جبًتها لبطلة الرواية واسندت الحكي لانيسة التي جعلتها من باب الإقناع بالساردة “تطمئن احمد عليها” وتذكر ما حف بالشخصية من تحديد لنوعية العمل “صحافية” برئيس في العمل وصديقة تطوح بها إلى لقاء قديم في تونس . وتاهت بنا بين شوارع باريس الباردة بالتسميات الحقيقية للاماكن والاحياء “شنزليزاي” ديفونس” في مقابل “شجر الزيتون والتين لتكون المقابلة ضمنية متمكنة في تدرج مكاني مقنع يحيل على واقع معقول : من” مارث” إلى” العاصمة” ثم “باريس” .
الاحداث قريبة جدا زمانيا ومكانيا مثل “السترات الصفراء” لتجذًر النصً في الواقع المعيش وفق أحداث معاصرة تتقاسم معرفتها والعلم بها مع المتلقي الذي لن يعبأ بأمر الحرقة ولا المهاجرين بصفة غير شرعية ولا بالحروب لانه أخذ منها كفايته اما من وسائل الإعلام أو بالمعايشة الفعلية فلم تعد تحرًك سواكنه وبات الأمر طبيعيا مألوفا.
المتلقي سيلوب باحثا عما يرهق البطلتين أنيسة ويومياتها الاولى في باريس ورقية المجاهدة الصامتة التي نسجها الخيال ليجعل منها شخصية نمطية لمهاجرة كادحة هي البطلة التي ستقتلها الكاتبة في عز المعاناة والتعب والشقاء
” يقترب طبيب الإسعاف من الجثًة، يعاينها مقرفصا، يتفحًصها على عجل ولا يحرًكها…” يبدو المشهد واقعيا ممكنا إلا أن الكاتبة ستتدخل في جدال بيًن مع الشخصيًة تقول “هل تتحداني رقيًتي وتقرًر الموت هكذا ؟…فهل أحرق كلّ اوراقي التي تمتد على سطورها رقيًة؟
هنا أقامت الكاتبة الحدً بين الحقيقة والخيال. تقتل البطلة لتحييها من جديد استرجاعا تتعقًب محطًات من حياتها هي في الأصل محطًات نمطيًة تتكرًر بمسمًيات وأزمنة وامكنة مختلفة يجمع بينها محاولة الانبتات في أرض شقراء بعيدا عما يفعل فيه الميلانين فعله . لتكون قصة حب رقية التي عاشتها بعبثيًة العشق الممنوع الذي خرج عن المعقول وفق المخزون القيمي الاسلامي . قصة هي الأكثر تأثيرا في تحديد معاناة العاشق والمعشوق وتبعات انعدام التكافؤ بينهما مذهبيا واجتماعيا وحضاريا .
البطلة “المتبنًاة” من الساردة الفعلية وكل تحركاتها نسجه خيال الكاتبة لتكون المتحدًثة باسمها الناقلة للأحداث والمشاعر . ولتكون الانثى الضحية التي تطالب بالمحافظة على شرف القوم والأمة بعذرية ولو مرتوقة مغشوشة.
للمذاهب المتارجحة بين اليقين والشك من اسلام ويهودية ومسيحية شان يحيد بالمفهوم العقائدي إلى التجريم والتكفير والترذيل لاظيان كلها سماوية لا وضعية. والروائية تصبً رقية في قالب المرأة التي رغم الغربة فإنها تظل متمسكة بموروثها الديني تسألها:
يا رقية هل تعتقدين أنً الله الكبير سيعاقبك على هفواتك الصًغير؟أو أنّه سوف ينتقم منك لمجرًد أنًك أخلفت موعد الصًلاة؟..لتلبس الكاتبة جبًة الواعظ كاشفة عن موقفها من الحساب والعقاب بقولها:
“إنً الله الكبير يا رقيًة ينظر إلى قلبك ويبارك خطوك ولا يحمًلك غير ما في وسعك والا فلا معنى لأن تكوني له عبدة”
الكاتبة وان حرصت غلى التشبث بالهوية وتبعاتها والذي تسميه “التحسين الهوياتي ” فلانها تعلم علم اليقين ما تقاسيه اجيال متلاحقة ثانية وثالثة ورابعة من تخبط بين موروث مكبل يشدهم إلى الخلف ووضع مستحدث قد يقتلعهم من جذور مازال اولياؤهم يحاولون تنشئتهم عليه وعلى مبادئه وان كانت فجًة فضًة في الأغلب.
وللحب واهواله حيًز في الرواية والذي لم تسلم منه الساردة المتقمًصة للدور والبطولة الحقة تقول:
“أحاول أن أفهم لم أحبًك هكذا بهذا الشكل المعوجً ؟لان الواقع شوه الخيال والحقيقة دمًرت الثوابت . حقيقة مبنية على التسلط الذكوري ونرجسية الرجل في علاقته بمن تحبه وتصطفيه حبيبا يكمل مشوارها الوجداني .لتكون القضية الفلسطينية إحدى السكاكين تغرس في خاصرة الأمة .
“عبث الكبار يومها باحلام الصغار وغلبت الحرب على السلم وتحول انطون إلى انطوشا واستمرت مجازر فلسطين ….
إجمالا فقد حاولت الكاتبة أن تجعل من روايتها سفينة نوح تأخذ من كل شيء طرفا فالانبتات والهجرة والحرقة والحرية وتصادم الأديان والحب المزيف والعقلية الرجعية ووضعية المرأة في الموطن والمهجر. والمثلية والخيانة …..هموم تخبًطت بينها الكاتبة دون حفر في غياهب القضايا الشائكة بعيدا عن التبريرات الأيديولوجية الباتًة
*اللغة والتقنيات السردية :
اللغة متينة مرتبة بجمل قصيرة سردية محكمة البناء من حيث التقديم والتأخير للابراز ولفت الإنتباه فالفاعل قد يتأخر من أجل مفعول فاعل في الجملة أو التواتر بين الانشاء والخبر .فتارة تتوالى الأحداث مرتبة في الزمان والمكان بوضوح واحيانا تتلخبط الفكرة فتتجاذبها الأزمنة والأمكنة ليتدخل المنطق ويعيد الترتيب في ذهن المتلقي . أما الانشاء فهو الاكثر ورودا فالاستفهام والتعجب والنداء والشرط الممكن والممتنع …كل هذه الأساليب البلاغية تثري النص وتكسبه حركية داخلية تأسر القارئ وتحدث ايقاعا داخليا مبنيا على المراوحة والتنويع
هذه التقنيات جعلت الكاتبة تحلق في عالم الشعر فجاءت بعض الفصول سردا تعبيريا اقرب إلى قصيدة النثر الحداثية تكثيفا وثراء وإيقاع وصورا شعرية نافذة ملغزة مرمًزة فالاستعارة والكتاية والتشابيه المجملة والمفصلة والمسترسلة والانزياح والطباق والجناس.ووو تقول في ص 141:
“رايتك قبل أن اراك واحببتك قبل أن احبك …تعلو ارض وتهود سماء ينفلت حبلك مني .تقطع النساء وباريس الغواية مشيمتك في لحظة غيبوبة ….لكن نبضك كان ميتا ككل الاوطان التي لعبتها الآلهة واستقرت بأرواحها دودة قز تغزل الحرير مشانق للغرباء مثلي .
الموتى وحدهم يدركون أنً حملي كاذب وانًني خلقتك لاكتبك وانًك سرابي الجميل الذي به اهتدي إلى الضياع المقدس.”
والكاتبة لم تهمل المنشأ بل سعت إلى صبغ مؤلًفها باللون التونسي الذي تختص به اللهجة التونسية فرشقت بعض العبارات الخاصة جدا بالمجتمع التونسي من شرقه إلى غربه ومن شماله إلى جنوبه “يعيشك” الشكر والامتنان و “برشة ” للتكثير ..
إذن هي رواية مختلفة قلبا وقالبا. رواية شنًعت بالموجود بحثا عن بديل منشود قد يكون افضل مما عانته رقية وانيسة .
رواية استحقت “كتارا” لتحريرها من المألوف ونهجها طريقة مختلفة عما سبق في الشكل والمضمون .رواية استثنائية .
هنيئا لتونس وللعالم العربي بروائية مفخرة .
حبيبة المحرزي
تونس
Discussion about this post