القراءة من منظور نظرية القوة الناعمة للفن ( نظرية نقدية )
…………………………………………
ماهية الاختلاف…شذرات ميلانينية
قراءة بقلم / محمد البنا
ل رواية * ميلانين *
حائزة كتارا عام ٢٠٢٠
للأديبة التونسية العالمية / فتحية دبش
………………….
…………………
// القراءة //
١ – تمهيد
لماذا فازت ” ميلانين “؟
للإجابة على هذا ينبغي علينا أن نعي أن أي مسابقة أدبية عالمية لها توجهاتها الخاصة؛ تعطيها الأولوية في تقييم العمل الأدبي المشارك، وأولوية( كتارا ) هى أن يحمل المنتج قضية ما، وميلانين تحمل قضية.
قضية ” ميلانين ” الرئيسة – ظاهريا – مشاكل الهجرة من الجنوب ( الأفريقي) إلى الشمال ( الأوربي)، وباطنيًا – وهو الأساس – ماهية الاختلاف، وهو يقينًا ما عنته الكاتبة باختيارها هذا العنوان الغريب المخاتل الموجه اللافت بشدة، والمصدر للذهن البشرية ابتداءً معناه العلمي المتعارف عليه .. مادة صبغية بيولوجية تتحكم في لون البشرة والعيون.
لذا كان العنوان واحد من عدة عوامل رجحت كفة ميلانين.
والعامل الثاني هو حميمية اللغة الشاعرية المفعمة بالشجن خلال المتن السردي، فكانت كما نهر ينساب بهدوء متسللًا لقلب المتلقي منشئًا علاقة وجدانية بين نبضاته ونبضات الأحرف، ويعد هذا من أهم العوامل المؤدية لنجاح أي فن إبداعي.
والعامل الثالث تبدى في لجوء الكاتبة إلى اربعة أساليب سردية مختلفة ( تداخل ضمني داخل الجنس الواحد)، إذ جمعت بين الأسلوب السردي للقصة القصيرة جدًا ( التسارع الحركي المتتالي بالاتكاء على أفعال حركية، تضفيرًا بصور بلاغية عالية الدقة)، وبين الأسلوب السردي للقصة القصيرة وتبدى ذلك في العديد من الفقرات النصية، تلك اللاتي تجلت فيها آحادية الحدث وقلة الشخوص والوحدة القياسية للمكان والزمان، وبين الأسلوب السردي للخاطرة أو القطعة الأدبية النثرية أو قصيدة النثر – بافتراض مجازي انتماؤها للجنس النثري بصورة ما، وأخيرًا الأسلوب الروائي المتمثل في حكائية سردية تضمنها المتن وإن ندرت مقارنة بنظائرها السابقين.
والعامل الرابع تجلى في الأناقة السردية، وأقصد بها البلاغة اللغوية التي سار على دربها المتن السردي في معظمه إلا لمما؛ تبدى في هنات لغوية بسيطة لكنها ملفتة مقارنة بالأسلوبية السردية الشاعرية المتبعة طوال التدفق السردي لأجزاء الرواية.
والعامل الخامس يظهر للقارئ الحصيف في مخالفتها المتعمدة لعنصر أساس من عناصر الفن الروائي الا وهو الاهتمام بوصف المكان خارجيًا، إذ هنا خلال معظم صفحات الرواية اهتمت الكاتبة بوصف المكان داخليا ( الغرفة / الأريكة / الأوراق/ المكتب /../..) بينما مرت على المكان الخارجي مرورًا عابرا ( الحي/ الشوارع / الميادين/../..) محدثة بذلك تجديدًا معتبرًا في الفن الروائي.
والعامل الأخير وهو جدير بالاهتمام تبدى في تقنية المعالجة للفكرة، إذ لجأت الكاتبة لتجزيئ الراوي إلى ثلاث أجزاء..رقية وكان لها النصيب الأوفر تليها أنيسة في المرتبة الثانية ثم أكملت الثالوث بالكاتبة نفسها وإن ندر ظهورها.
أو بمعنى آخر..أوكلت الكاتبة مهمة السارد إلى أنيسة فأوكلت أنيسة مهمة السارد إلى رقية، ليؤدي كلٌ منهما دوره الذي نسجته لهما الكاتبة بإتقان كخياطٍ ماهر أجاد حياكة ثوب كل منهما ليتناسب مع مقدرات الشخصية وقدراتها.
وهذا ما أحب أن أدعوه ب ” مكعب روبيك الثلاثي”.
لكل هذه العوامل مجتمعة فازت ” ميلانين ” بجائزة كتارا عن استحقاق وجدارة.
٢- القراءة :
بادئ ذي بدء أرى لزامًا علي أن أنوه عن قاعدة هامة من قواعد نظريتي النقدية ( القوة الناعمة للفن ) ألا وهى ” الفكرة تخص صاحبها حصريًا، من حق القارئ قبولها أو رفضها، وهذا الحق ليس مكفولًا للناقد، فالناقد حيادي مهمته الأولى الوقوف على مدى تماهي النص المطروح طرديًا مع فكرته، وهو ما ننعته بالخطاب السردي أو الموقفية السردية، بالإضافة طبعا إلى نواح نقدية أخرى ترتبط أرتباطًا وثيقا بجنس العمل المتناول نقديا.
وهنا أقول..نعم نجحت الكاتبة في توصيل فكرة روايتها – أو بمعنى آخر رؤية الكاتبة- للمتلقي، سواء ظاهرها وباطنها، سواء شموليتها وتخصيصها، إذ تعددت مستويات التلقي بين تخصيص وعموم، واقتصار وشمولية حتى في استيعاب العنوان نفسه كما سبق وذكرت آنفا.
لا ينكر قارئ إلا مكابر أن النص حقق متعتيه المبتغيتين منه، المتعة الوجدانية إذ حفل المتن بالمشاعر العاطفية والنفسية المؤثرة في الشعور والمحركة للعواطف والباعثة للشجن والمدرة للدموع أحيانًا وللضحك والإبتسام أحيانًا، والمتعة الذهنية المثيرة للدهشة ومن ثم طرح الأسئلة وتناسلها وتحفيز الذهن للبحث عن إجابات، ولشرح كلاهما لا يجد القارئ صعوبة في الوقوف على جماليات النص ( تدفقه، حميميته، شجنه الناضح حزنا، عفويته، صدقه، صوره البلاغية) واحساسه بها والتعاطف معها أحياناً والاشمئزاز منها أحيانًا أخرى وكلاهما جمال.
والمتعة الذهنية بطرح الأسئلة ..لم ولماذا بل وأين هو – القارئ – بين أحداث الرواية وشخوصها وعنصريتها وتفاعلها وردود أفعالها، فلا شك أن كل قارئ لنص ما يبحث له عن موضع قدم فيما يقرأه اقترابًا أو نأيا.
ولنبدأ بالعنوان
” ميلانين ”
……………..
إذ لم أتوقف فيه عند معناه العلمي كصبغة تتحكم في درجة لون البشرة تدرجًا من البياض إلى السواد، والنظرة العنصرية المباشرة المتولدة وظاهرها في ( الشمال الأبيض الأوروبي/ الجنوب الأسود الأفريقي ) ولا عند درجتها الثانية الا وهى العرقية..وإنما رأيت في العنوان ما يتجاوز ذلك بكثير إذ اشتمل على كل ما هو مخالف، أو بمعنى أدق هو الاختلاف نفسه..ماهيته وتكوينه وتنوعاته والغاية منه، استنادًا إلى قوله جل من قائل (( ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم، إن في ذلك لآياتٍ للعالمين )) الآية ٢٢ سورة الروم، و (( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليم خبير )) الآية ١٣ سورة الحجرات.
الميلانين الاختلاف في كل شيء
خارجيًا : اللون / الجنس / الوطن / المكان / العادات والتقاليد/ الأرض / الشوارع/ العقائد
داخليًا : المشاعر/ التفكير / ردة الفعل
ورسالة النص ..صرخة في وجه العالم كله..شرقه وغربه، شماله وجنوبه، أبيضه وأسوده، ذكره وإناثه..أن الاختلاف رحمة والاختلاف تلاقي وتعارف والاختلاف مدعاة احترام، وليس كما تتعاملون من عنصرية وقومية وعرقية وجندرية..الاختلاف آية من آيات الرحمن مثلها مثل خلق السموات والأرض، فلا تحولوها لنقمة ونبع بغيضة وتمييز وفتيل خلاف.
شخوص الرواية :
…………………..
رقية كانت البطلة الحقيقية للنص الروائي..شخصية مستسلمة لقدرها مسكينة تعاني لتحيا حياة كفاف، كآلة حية مبرمجة..تستيقظ باكرا تذهب لعملها تركب الميترو تعود لبيتها دون التفاتة يمنة ولا يسرة أثناء سيرها إليه، تنام لتستيقظ وتكرر. تموت إثر حادث سير فتستولى على السرد وتمسك بدفة التدفق ..بطلة من ورق ماتت لتحيي الرواية، تحب تعاني تتألم…تتحدى خالقتها ( أنيسة).
أنيسة..مثقفة متعلمة صحفية واثقة من نفسها من قدراتها..أنيقة في ملبسها في حركتها في حبها لأحمد.. راقية تركب سيارة سوداء ( فخامة) ، تسكن في حي ” لا ديفانس ” حي راقي ..بناياته تتشابه مع ناطحات سحب نيويورك..خلقت رقية( بطلة روايتها) وأحيتها وتتبعتها مترصدة حركاتها همساتها أنفاسها، ثم تفاجأ بمباغتتها له( الموت فجأة ).
فتحية..الأصل الناسج المبدع المبتكر..تراقب تنصت في شغف لأحاديثهن، تتبع في صمت تحركاتهن من طرف خفي، وتتدخل في الوقت الذي تحتمه الضرورة كحل عقدة سردية مثلا ( موت رقية/ استلاب أنيسة لهاتف رقية بعد موتها وهى لا تزال جثة ملقاة على أسفلت الطريق، لم يبرد جسدها بعد).
والشخوص الأخرى الثانوية ك سهيل رفيق رقية، وانطون والسيدة الفرنسية وشكواها وشيماء ونيكولا، وموظفي الجريدة..كلهم شخوص ثانوية وظفتهم الكاتبة باقتدار لأداء وظيفة ما ووضع بصمة خاصة متعمدة، فلم يكن أحدٌ منهم حشوًا أو هامشيا، ثم نأتي للشخوص الاعتبارية وعلى رأسهم يتوج أحمد..حبيب أنيسة، ويليه أبوها.
واسمحوا لي أن نتوقف قليلا لنتأمل الفقرة الخاصة بالسيدة الفرنسية / ماري لا بلان( البيضاء المسيحية)..إذ أنست إلى رقية ( السمراء العربية المسلمة لتبثها شكواها من توابع زواج ابنها وانجابه طفلًا أسمر اللون، وتقول لها في عفوية وأسى
” لا لا..ليست أفريقية ، لو كانت أفريقية لكان اهون – المصيبة – على الأقل لما حملته على تغيير دينه”
يا الله على المفارقة والدلالة المبتغاة!! ..فرنسية عنصرية تبث شكواها ( زواج ابنها من عربية سمراء مسلمة) وتلتمس مواساة وهدهدة وتطييب خاطر وتعاطف من رقية ( السمراء العربية المسلمة ).
الخطاب السردي :
………… …………
تحقق بامتياز موصلًا رسالة النص وقد افضت فيه أعلاه.
الرمز :
…….. .
١- الوشم..الوشم عادة عربية افريقية لها أسبابها عرفًا، وتختلف من بيئة لأخرى، كما تختلف أشكاله ومواضعه على الجسد، وإن كان الغالب منها يتركز موضعه على جلد الوجه ( الذقن / الشفاه )، ورمزيته هنا في الرواية ك قيد يربطها ويذكرها دائما وأبدًا بجندريتها وأصولها وتقاليد قومها، واستخدمته الكاتبة اشارة سيميائية دالة على كونه معوق لاندماج الشخصية في مجتمعها الجديد ( الاغتراب ) وعامل مقاوم يشد إلى الخلف.
٢- اللغة : استخدمت الكاتبة اللغة الفرنسية واللهجة المحكية التونسية، وهو ليس بالطبع الغرض منه استعراض ثقافة او سعة معلوماتية( اللفة الفرنسية)، ولا أيضا كان استخدامها للمحكية التونسية ضعفًا في التمكن من العربية الفصحى، وإنما كان الهدف من كل ذلك هو التأكيد على الميلانين كاختلاف لساني كما ورد في الآية المذكورة في بداية الدراسة، وأيضا لتثبيت نوعي الاختلاف اللساني ..خارجي ( اللغة الفرنسية/ العربية) وداخلي ( اللهجة المحكية// الفصحى)، وهناك احتمال وارد أيضا كتخريج آخر لهذا الاستخدام وهو فقدان الهوية ( عربية/ فرنسية…اغتراب)، وتثبيت الهوية ( اللهجة المحكية..تجذر في المكان).
الضمائر السردية ( صوت الراوي) :
جرت العادة على استخدام ضمير الغائب بشقه الأكثر تداولًا ألا وهو الراو العليم حين الشروع في نسج رواية، وأحيانًا يلجأ بعض الروائيين إلى استخدام ضمير المتكلم، بما فيه من خطورة الانزلاق إلى السير الذاتية، وذلك لإضافة نوع من الحميمية للمتن السردي تتسلل بيسر إلى قلب المتلقي، فيبدو الكاتب كالماشي على صراط تحاول الكلابات على جانبيه اقتناصه، وهذا ما لجأت إليه كاتبتنا ابتغاء هذه الحميمية، فكان السارد دائما وأبدا هو ضمير للمتكلم مهما تعددت الشخوص الساردة، موشى أحيانا بضمير المخاطب والهدف تحقيق إصابة أخرى تعضد الحميمية المبتغاة بجذب القارئ إلى داخل الفقرات النصية مشاركًا ومخاطبا.
نظرة عامة : برعت الكاتبة في تحويل ” يوميات ” لعمل ” روائي حداثي ” ممتاز في لغته في حبكته، وفي معالجته السردية المبتكرة كما قدمت لنا كوسط أدبي تجربة حداثية جديدة مضافة كتجريب مستحدث- أراه ناجحا – للفن الروائي.
محمد البنا…القاهرة في ٢٣ مايو ٢٠٢٣
………….
Discussion about this post