ابنة الغجرية
طال وقوفي أمام شهادتي المعلقة على حائط الصالة الوردي الذي شهد معي مرور السنين
وتلاحق الفصول ورتابة الأيام. شهادة أتقنت بها المحاسبة لأواجه بها الحياة التي بدأت حسابها معي
منذ خمسة وعشرين عامًا حينما قرر أبي القادم من دولة مجاورة الارتباط من غجرية رآها تغني وترقص في حفل زواج. عيناه عندما وقعت نظراتها عليها نسي ما كان يفكر فيه وما أراد قوله. ملكت من الجمال ما جعلها تدخل قلبه بقدميها الحافيتين وعينيها اللتين تسردان أجمل الحكايا.
الغربة كانت تذكرتها لدخول عالمه والثمن كان أعوامً طويلة قضتها في المنفى الذي اختارته باسم الحب الذي صور لها قلبه كخيمة من استقرار و لمسات حنان. ذهبت بها الأحلام بعيدًا من الأحلام نفسها، فوق ذلك المنطق لتحيك لها أجنحة من سحب الخيال، سرعان ما تبددت وسقطت فوق سطح الحقيقة حيث لم ترتقِ يومًا لتراه. كانت تقضي أيامها بين قبيلتها التي لا يتميز فيها شخص عن آخر، لكنها هنا وسط أهله، تفتقد لأشياء كثيرة تستحق من خلالها أن تكون إنسانة.
ارتباطه بها نسف الجسور بينه وبين عائلته، واضعًا بدلًا عنها صخور بحواف جارحة، ولم يحدث أن ترفعها انجاب طفلة ولدتها منه. عجزت في العثور لثمة ثقب تجد متنفسًا من خلاله حينما روت لي كيف كان ارتباط أبي بها قبل الزواج. تيقنت من أن حب بعض الرجال كالقطار، ينطلق بسرعة ثم فجأة يتوقف بهدوء معلنًا انتهاء الرحلة، وأبي كان من بعض الهؤلاء.
عدم إنجاب أمي لمزيد من الأطفال، أوجد الذريعة لجدتي في تزويج ابنها من امرأة تليق بهم، بهذا الزواج سيخرج من البئر الذي أسقط نفسه فيها وظل يلوب داخلها وحيدًا. تواطأ أبي مع أفكار والدته، فانحنى ضميره سامحًا للعاصفة بالمرور وللريح حمل ما تشاء حتى وإن كان غرام امرأة ذابت به كما يُذيب الليل أشعة الشمس.
لم يمنحها هذا الزواج غير لقب يشبه جرح في الوجه وندبة في الروح لأن بلاده رفضت الاعتراف بها ومنحتها بدلًا عن ذلك لقبًا يميزها عن أبناء البلد. حين اختارت العودة لعالمها، خيرّها أبي بين الرجوع وحيدة أو البقاء في بلاده بجانب ابنتها، الاختيار الثاني حولها لزوجة منبوذة، لا تقوى على منافسة أحد وإنسانة من الدرجة الثانية.
ذات مساء، بينما كنت أضع رأسي على فخذها المكتنزة وكفها يداعب شعري، تسربت من جسدها إلى جسدي وخزات مدغدغة جعلتني أغفو لبرهة. أخذها الحنين لبيت أهلها الذي كانت تأتيه الموسيقى من كل مكان ونوافذه المشرعة أتخذتها الطيور ملاذًا لها، جرفها الشوق فبدأت تغني بصوت يطرب الحجر:
أدري بيك تحبني وبشوكي تذوب
وأدري عنك لو غبت تشبع قهر
وما نسيتك يمكن أنت اللي نسيت
خلص عمري إلك ياما انتظر
كافي ارجع تدري كل لحظة أموت
وليلي ما يقدر بعد يحمل سهر
تدري بفراكك جهنم من تروح
وأبقى ليالي انتظر فوك الجمر
………………………………………….
في تلك الليلة، أطفأت الحياة آخر شمعة من عمرها لأغرق بعدها في العتمة وحدي.
غادرت أمي الحياة ولم تحصل على شيء من أبي سوى قطعة أرض تضم رفاتها بينما تركت له ما يذكره بها طوال الحياة.
كانت أمي تشبه ابتسامة المتعب حين يصل مساءً إلى بيته، فلا يجد سوى العتمة وأحلام لامست أطراف جسده دون قلبه.
دخلت بيت جدي ممسكة في اليد الوحيدة لي في هذا العالم لأجد أنني كنت الابنة والأم في ذات الوقت. كنت جميلة مثل أمي وأشبهها إلى الحد الذي يذكرهم بها. لم أكن أعلم أن معاركًا ستشن ضدي وليس هناك خاسرين غيري. انتهت الحرب بوفاة والدي، لأخرج منها أمضغ ذكرى حياة لم تترك في فمي غير طعم الوجع وبعض المال اتعكز عليه ورثته عن أبي.
فتحت نافذة غرفتي في البيت الذي استأجرته أطل على العالم الذي رفضني، لأقول له: أنا هنا رغمًا عنك. بدأت أحدث أشجار الحديقة الشاردة في السكون، كأن ما أشعر به قد انتقل بالعدوى لها.
رفعت رأسي صوب الغيوم أسألها: ما ذنبي؟
جاءني الجواب الذي لطالما عرفته: لأنكَ ابنة الغجرية.
Discussion about this post