(كتاب الشهر)
“سما ,هبة الله للأرض نساء”
على المرأة العربية أن تقول لا …
قراءة بقلم الشاعر عمر دغرير :
“سما ,هبة الله للأرض نساء” رواية للكاتبة التونسية نجاة إدهان وهي صادرة عن دار الكتاب في 296 صفحة من الحجم المتوسط في بداية سنة 2023 . وقد جاء في الإهداء :
(… إلى كل إمرأة تؤمن بالحياة فتخوض حروبها كاملة …)
ومن خلال هذا الإهداء تحيلنا الكاتبة إلى موضوع روايتها وقد خصت لها شخصية أساسية تتمثل في إمرأة اختارت لها من الأسماء سما . وهو اسم عربي خاص بالإناث دون الذكور، وقد جاء في اللغة من الفعل سما يسمو, بمعنى يعلو ويرتفع .وذات الاسم يَحمل معنى العلو والرفعة في المكانة والصيت والشهرة, واسم سما جاء من السمو بمعنى العلو، ومن السماء وكل ما يَعلوك هو سماء ,وسمي الغيم بالسماء ومنه يأتي الخير والعطاء, ويدل اسم سما الطيبة والطهارة, لأنَّ كل ما يأتي من السماء هو طيب وطاهر. فهل ينطبق هذا الإسم على المسمى في هذه الرواية ؟
وبالفعل سما نجاة ادهان هي إمرأة.استثنائية ,بعد تجربة زواج مريرة انتهت بالطلاق , خاضت حروبا ومعارك لتستعيد ذاتها التي أضاعتها في متاهات الحياة وحاولت التعافي والتخلص من آثار تجربتها النفسية السيئة عليها بتغيير اسمها وتغيير مكان إقامتها ومحيطها ونمط حياتها .ولكن قبل أن أغوص في أعماق هذه المرأة الإستثناء لا بد أن أشير إلى أنني بعد متابعتي لأغلب الكتابات الصادرة في الفترة الأخيرة والتي محورها المرأة , تأكدت من أن ما تكتبه المرأة عن بنات جنسها هو أعمق وأكثر صدقا من كتابات الرجل في نفس المحور .ولعل نجاة ادهان واحدة من بين الكاتبات اللاتي عرفن كيف يطرحن العديد من الأسئلة حول معاناة المرأة في ظل عادات و تقاليد بالية في مجتمع ذكوري بامتياز .وهي بذلك كشفت عن حقائق مختلفة مرفوضة لدى هذا المجتمع الذي لا يقبل حتى مجرد طرحها والتفكير فيها . وقد كتبت في تصدير بعنوان قبل الحكاية :
(…أنا لا أنتمي إليك , أنا لا أنتمي إلى أحد .أنا أنتمي إليّ .كش مات ..انتهى ,, ارفع يدك عني …) .
ومن هنا نفهم أن المرأة العربة بإمكانها أن تقول لا … بل عليها أن تقول لا … و نلاحظ من البداية حرص الكاتبة على تسليط الضوء على حجم المعاناة التي تعترض المرأة في حياتها وعلى فظاعة نظرة الزوج لزوجته في مجتمع السلطة فيه للذكر , مجتمع يعتبرالمرأة من بين الأشياء العديدة التي يمتلكها ثم يتخلى عنها حين تنتهي مدة صلاحيتها .ولعل هذه الجملة التي اعتمدتها نجاة ادهان في بداية سردها : (ماعاد فيك شيء يعجبني) وهي تفسر بوضوح هذه النظرة الدونية للمرأة من قبل هذا الرجل الشرقي الذي يصمت كثيرا وحين يتكلم يعري سوءاته ويوجع غيره والمرأة ترضخ لهذا الذل وتعتبره صبرا وتضحية لتستمر الحياة . لكن سما ليست ككل النساء وقد قالت في صفحة 7 :
(… في غفلة من حمى الكلام , علقت على جدار الزمن خيبتي ثم هدمته , لعنت الحنين والدمعة المكتومة والحكايات المنسية على باب الحياة وغادرت . لم أحمل شيئا مما خبأت لنفسي , لم أحمل غير حروف إسمي و آية من عهد قديم سمعتها على عتبة المسرح يوما , قبل أن ألقاه ” هبة الله للأرض نساء” …) .
ومن هنا جاء عنوان الرواية .
وسما أخذت قرارها بعد خيبة مريرة مع زوج تفنن في تعذيبها واذلالها ,وهي تحاول أن تحتفي بالحياة بمعنويات مرتفعة دون مساعدة أحد ولعلها بذلك تعيد ترتيب العالم بعيدا عن الذل والعبودية .
في الرواية سما , مريم سابقا, بدت سعيدة مباشرة بعد الطلاق خاصة وأنها استعادت اسما خالصا دون لواحق , وتخلصت من جلد إسمها القديم لترتدي جلد اسم جديد سما بها نحو الأعلى . وسكنت في شقة في أعلى طابق ظفرت به . وهناك فقط اكتشفت ذاتها وعشقت جمال جسدها وأدركت بالفعل أنها صارت قريبة من الله الذي لم يخلق النساء إلا لتستقيم الحياة فوق الأرض . وهناك انفتحت على عوالم مختلفة وتعايشت مع شخصيّات أخرى شاركتها صراعات كبيرة في مواجهة سلطة ذكورية تحتمي بالدّين للتنكيل بالنساء ولطمس كلّ حضور لهنّ في هذا البلد .
وسما ,في رحلتها الجديدة ,وهي البطلة والراوية في آن, تتعرف على وجوه جديدة وتستعرض حكايات كثيرة عن زينب ومريم ويامنة وسعيد ووليد الذي أشعرها بالدفء وبصدق المشاعر وبالإحترام ,وهو رجل عاملها بود ومحبة واهتمام وتسامح, وكانت النتيجة علاقة حب متبادل ثم زواج .وكان بالفعل الزوج والوطن . وقد جاء على لسانها في صفحة 54 :
(… أمسك يدي فشددت على يده .أعد فنجاني قهوة ثم جلس,شاركني صمتي فشعرت بأني أحبّه. بلا مقدمات أخبرته أنني سأغادر المدينة . انتفض, اعتبر كلامي هذيانا وأصرّ على معرفة ما حدث في غيابه, دون تفكير قلت :
– المدن لا تؤمن الخائفين , وحدها الصحراء تفعل .
– سأكون وطنك , سأمنحك كل الأمان .
– الخطى المتعثرة لا تنتهي إلى وطن .اتركني أغادر لأيام وسأعود لتكون وطني .
– أخاف ألا تعودي
– لا تخف , أنا مبتلاة بالإنتماء منذ ولدت …).
وهي بالفعل مبتلاة بالإنتماء منذ الولادة لعائلة محافظة ومجتمع الكلمة الفصل فيه للرجل وهذا الأخير دمر حياتها وأذاقها الويلات بأنانيته وجهله . ومن حسن حظها انفصلت عنه في الوقت المناسب وقبل أن تتحطم نهائيا . وغامرت وعاشت تجربة جديدة مع رجل مختلف . حتى أنها تعترف بأن وليد هذا الرجل الجديد , أعاد لها ثقتها في نفسها وساعدها في لملمة شتاتها بعدما ظلت كشظايا بلور مكسور لفترة طويلة . وسرعان ما أزهرت روحها في حضرة حب صادق وحقيقي كما وصفه الشاعر سعيد في صفحة 189 :
(…الحب هو أن تبتسم لمجرد وجود من تحب على هذه الأرض ,الحب هو أن تحمي يد من تحب من البرد فلا تتركها أبدا ,الحب هو تسجد لخالقك ممتنا لأنه منحك قلبا جعلته وطنا , الحب هو ألا يبقى شيء من الحياة ولا منك حين يغادرك من تحب ,الحب هو أن تؤمن بأن من تحب هو سر الله فيك …) .
والكاتبة عن طريق الراوية سما حاولت أن تقترب أكثر من مثيلاتها من النساء في منطقة ريفية . فاستعرضت في الرواية حكاياتهن بأدق التفاصيل وما تعرضن له من معاناة ومن ممارسات ليست غريبة عليها ,وهي التي عانت من زواج فاشل مع زوج تفنن في تعنيفها وقهرها , وقلل من شأنها وعاملها كأنها جزء من ممتلكاته ,واستعمل معها كل أنواع القسوة , قسوة لفظية وكلمات جارحة وأوصاف أفقدتها الثقة في نفسها.سما بحكم تجربتها عرفت كيف تعاشر أصدقاءها الجدد , وبدون مقدمات وجدت نفسها في معمعان حماقات الطفولة والعشق والوجع ,فعرفت أن زينب التي تشبهها وعمر وسعيدا ودليلة هم أصدقاء طفولة .وأنهم تقاسموا كل تفاصيل أيامهم , بحيث عشق عمر زينب وتزوجا . وأن سعيد عشق دليلة ولكن هذا الحلم ظل معلقا لأسباب يطول شرحها في مجتمع ظالم لايرحم المرأة ويسعى لإضطهادها .منذ نعومة أظافرها وطوال حياتها، وكم تعرضت الأنثى بصفة عامة للتعذيب البدني وللإهانات والقسوة اللفظية، ولأنواع مختلفة من المعاملة القاسية واللاإنسانية.وبشكل خاص المرأة المطلقة , أوالأرملة أو الغريبة عن المنطقة .
وفي الرواية أكدت الكاتبة ,دائما من خلال الراوية , على أن رجل الدين في مثل هذه المناطق يستغل نفوذه الديني وسلطته في هذه القرية المهمشة لتحقيق رغباته ونزواته ,حتى أنه يحاول التقرب من صديقتها زينب التي فقدت زوجها ويدعوها إلى ممارسة الجنس بدعوى حمايتها من الوحدة والغربة في هذا المكان . ولأنها رفضت التقرب منه والإستجابة لرغباته ,ألب عليها السكان ,فاتهموها بأبشع الإتهامات وحاولوا الإعتداء عليها بضربها وطردها من بيتها . ورجل الدين في الرواية يدعى الشيخ مختار وهو رجل ممتلئ يلبس جبة وعمامة ويهابه جميع السكان .
وقد ورد على لسان سما في صفحة 156 :
(… لم أفهم لم كانت عينا الشيخ مختار كما نادته عائشة , معلقتين بزينب بين لؤم و شهوة ؟ اقترب منها حين أيقن أن سعيدا منشغل مع مريم بالنظر في الصندوق :
– ألم يكن من الأسلم أن تقبلي عرضي .لا أحد غيري قادر على تخليصك منهم , وما حدث منذ قليل خير دليل . لقد تعمدت التخلف لتتأكدي من أنني منقذك الوحيد . للمرة الأخيرة سأذكرك بعرضي وإن رفضت فاستعدي لكل ما سيحدث …).
ورغم النزعة السوداوية الفظيعة التي سيطرت على فصول الرواية وما استعرضته الراوية من قهر وظلم واضطهاد للمرأة من قبل الرجل فانها قدمت جانبا مشرقا وبعثت الأمل من جديد في بناء حياة جديدة حتى أنها أنهت حكاياتها بزواجها مع وليد بعد علاقة حب صادقة .وأظهرت في هذه المناسبة السعيدة تحديا صارخا للعادات التقاليد حين جعلت من امرأة مثلها شاهدا على زواجها وتسجل إسمها في عقد القران . وهي تعلم أن القانون لا يمنع أن يكون الشاهد إمرأة غير أن المجتمع سلب منها ذاتها ورمى بها في سجن معتقداته الزائفة وأنانيته المفرطة وفكره الرجعي الحجري الذي يعتبرها بنصف عقل ,ولا تصلح إلا لإنجاب الأطفال وخدمته في البيت .وقد جاء في حديث سما مع صديقتها زينب في صفحة 275 :
(… اندفعتُ قائلة :
– ستكونين شاهدتي في عقد الزواج , موافقة ؟
أضفتُ سرّا :
– سيكتب إسمك مع إسمي ولن تموتي إلا إذا متّ …
لم ترد زينب , اكتفت بتحويل بصرها من السماء إلى عينيّ . أخبرها أبي أنه سيكون سعيدا إذا وافقت . كعهدي به لا يتركني وحدي …) .
وخلاصة القول على حد تعبير كاتبة الرواية نجاة إدهان في مجلة المغرب بتاريخ 8 فيفري 2023 :
(… “سما هبة الله للأرض نساء” ,هي رواية تربك الثوابت طيلة رحلة الشّخصيّة، حيث تخوض “سما” معاركها بعد الطّلاق رغبة في استعادة نفسها. تطرح أسئلة كثيرة تعرّي حقائق شتّى لا يعترف بها المجتمع ولا يقبل من حولها التفكير فيها. تغادر مدينتها إلى أكثر من مكان فتنفتح على عوالم مختلفة وتحيا مع شخصيّات أخرى صراعات كبيرة في مواجهة تفكير يحتمي بالدّين ليسجن النّساء ويقتل كلّ وجوه حضورهنّ …).
Discussion about this post