قصة قصيرة
السر
أسهب مع نفسه، أخذته خيالاته بعيدا”، وصلت به حد الشمس، أنامله المرتجفة تاهت مع ذاتها، بدأت تنتف حاجبه الأيسر.
تلك الورقة التي يحاول خط أفكاره عليها، بعثرتها شعرات حاجبيه، لم يستطع قلمه المرتبك تخطيها.
كانت كلماته التي ارتسمت على السطور؛ مسننة الملامح، حاول لملمتها بعناية، علّ نقاء الصفحة يعود من جديد، ويتعانق الحرف مع السطر، وترتاح الكلمات في المهد.
قطعت خلوته أنات زوجته في الغرفة المجاورة، أيقظت الدنيا كلها، كانت مختلفة على غير العادة هذه المرة أكثر إيلاما” لقلبه. منذ المساء وهي تشتكي، كانت الشكوى مترفة بعض الشيء، ربما تكتمها في داخلها، وتحاول ترويض الألم واحتلابه إلى أقصى حدود تحمُّلها، حتى لا يتضاعف ألمها، وهي تتأمل زوجها يتمزق عليها وهو ينتظر انبلاج الفجر، متناسية ومتناسيا شجار الأمس.
_صباح الخير حبيبي.. متأسفة جدا”.. قطعت عليك شوطا من تأملاتك.
_لا عليك حبيبتي.. لا أحد يشغلني والله سوى أنت.. أعتصر كلي علي أستطيع استلاف بعضا” من آلامك.
_رحل الصبر عني وأنا أنتظر موعد المشفى.. لم أعد أحتمل.. افعل شيئا” لي أرجوك.
-أتدمر من الداخل.
كانت كلماتها تمزق نياطه، تأكل من جنباته، تجلد بسياطها وجدانه الذي تبلد، وهو حائر في أمره، لا يلوي على شيء.
تحولت أصابعه بحركة لا شعورية عنيفة هذه المرة، وهي تقطف حاجبه الأيمن شعرة شعرة، وهو يتأملها، وهي تهبط على بياض صفحة دفتره بسكون، وتتبعثر كلها هنا وهناك، وكل واحدة منها تحكي له حكاية.
_لقد تغيرت ملامحك وأنت تزيل شعرات حاجبيك..! كف عن هذا أرجوك..! لن ينفع ذلك بشيء.
أمطرته زوجته بهذه الكلمات، وهي تحاول لملمة نفسها، والاستعداد للذهاب إلى المشفى، لإجراء عملية جراحية، عل فصول الآلام تكبو إلى غير رجعة.
أمسك بيدها، كانت باردة قليلا”.. عانقها بكل ما أوتي من دفء. حاول بث المعنويات في كيانها المحبط.
_سوف تكونين بخير.. ثقي بي.. شعوري لا يخيب.. سأنتظرك لا تقلقي..
سرنا قد دفن..
بضع دمعات هربت منه، تعانقت مع دموعها المنهمرة.
شعر كلاهما بطعمها المالح والشهد، وهو يختلط بالرضاب.
_لا عليك زوجي العزيز لقد دفنت السر بنفسي لا تقلق.
كانت غرفة المشفى كبيرة بعض الشيء. استطاعت احتضان الأقرباء والأصدقاء المحبين لهما.
الدفء والسكون المطبق يعبق في الأرجاء. الكل ينتظر استيقاظها من المخدر بفارغ الصبر، بعد أن أكد طبيبها المختص لهم أن العملية الجراحية قد تكللت بالنجاح، وبنسبة مئة بالمئة ولا خطر عليها مطلقا”.
وأن كل الآلام سوف تغدو من الماضي، وأنها سوف تعود لحياتها الطبيعية بكل ثقة،
ومع انبلاج أسارير الحضور، الذين كانت وجوههم مكفهرة بسبب الخوف، وهم ينتظرون استيقاظها، ويرصدون كل سكناتها. كانت ملائكية الملامح، وهي مستلقية على السرير، كل قطرة من السائل الملحي الذي يدخل وريدها كان يضفي على محياها كل السحر والجمال.
أنفاسها الرتيبة؛ تؤكد مصداقية طبيبها المعالج، وعيناها اللامعتان أطربت كل من في القاعة، والدم القاني الذي بدأ يستجم بأرجاء خلاياها أعاد لها كل الرونق، وكلماتها الأولى التي بدأت تتلفظها تلقفها الجميع، وأذهلت أحداقهم، وأدهشت ملامحهم، وأخذ الكل ينظرون إلى بعضهم باستغراب، فاغري الأفواه محدقين بصمت مطبق، وزوجها غارت به الأرض وهي تفضح السر.
Discussion about this post