الإبداع ….تورية
قراءة بقلم
محمد البنا
لنص * العقل والعجز والناس *
للقاصة المصرية / داليا رأفت
…………………….
النص
العقل والعجز والناس
يؤرقك هاجس ليلي، تقوم، تقرفص ثم تهرب من أشواك السرير، تتمشى على أرض الحجرة ثم بباقي البيت، تلعن ثقتك بقدرتك على نوم بلا حباتك ككل ليلة.
توقفت بسيارتك أمام الصيدلية، فكرت ثانيتين، ثم انطلقت.
“لا تتناول المهدئات يوميا”
قرأتها كثيرًا ونصحك بها صديقك الطبيب في جلسة صداقة عادية.
أنت تعلم وصديقك الطبيب لا يعلم؛ صديقك الذي لم تستخدمه أبدًا في استشارة ولو من بعيد، فأنت لديك طبيبك الخاص الذي تقطع إليه المسافات، وتتلفت خلفك قبل الدخول إليه.
ليس صديقك وحسب الذي تتخفى منه وهو يحدق بك بتعجب؛ لم يعد يبرزه منذ أن تغافلت عن تلميحه برغبته تزويجك أخته التي صارت أما منذ عشر سنوات؛ زملاء عملك أيضًا الطيبون والحاقدون على نجاحك منقطع النظير، حتى موظفة البوفيه التي تحتل أدنى درجة على السلم الوظيفي، تلك التي تغدق عليها من مرتبك الكبير شهريَا، فتملأ فمها دعوات صادقات تعوضك بها عن بذخك، وزميلتك الحسناء التي انتقلت تحت رئاستك بالهيئة عالية المقام، انتظر الجميع وأولهم هي إعلان مفرح منك، خاصة والفتاة لم تبخل بأي جهد أو ملابس أو مكياج أو نظرات وحكايات لطيفة، حتى امتنعت ذات يوم وأغلقت باب التزلف، وبعدها أعلن زميل آخر كسول دائمًا، مهمل أحيانًا، لم يترق سوى مرة واحدة، ما كان منتظرًا أن تعلنه أنت، ومن يومها والحسناء تعاديك.
تخبط حائطك بقبضتك،
“الناس تظلم ببساطة”
حتى والدتك التي تهددك كلما رأت وجهك أنها ستتخلى عن أمومتها وتقسو عليك لأنك لا تريد أن تسعد قلبها مثل إخوتك وتتزوج لتنجب، ورفضت كل عروض العرائس التي أخبرتك بأخبارهن. ابتعدت عنها لبيتٍ آخر لتمارس وحدتك وأرقك بحرية، فالأمهات متطفلات وهذه صفة لا يمكن تغييرها فيهن.
نقصك الذي اعتدته وتعاليت عليه لم يعد مشكلة منذ سنوات، أعلم هذا وتعلم أنت، منذ أن اضطررت أن تبوح للمرة الأولى والأخيرة لحبيبتك، توسلت إليها أن تمثل دور المخطوبة التي رفضت خطيبها لأسباب تتعلق بعدم الراحة، فتوسلت هي لك أن تظل معك، فرفضت، وثرت، وامتثلت هي وأدت الدور.
كارثتك فيمن تقابلهم كل يوم، يخيروك دون أن ينطقوا، في الواقع هو ليس اختيار، أنه توعد، إما أن تسير في مسارات طبيعية أو نطلق حولك الإشاعات فتنمو وتتحول لحقائق.
أنت مطالب بالرد، لا ليس بالرد فقط، بالدفاع، لا تسألني: هل أنا مذنب؟
نعم أنت كذلك حتى تكشف عن الحقيقة أو تنعزل عن الجميع أو تموت.
أعلم أنك قوي، الله لا يمنح كل شيء، كما لا يحرم كل شيء، تستطيع أن تحيا وتنجح ولا تلتفت، لكن لا تثق بنفسك زيادة عن اللازم وتأبى شراء كمية وفيرة من المهدئ، فأنا قوتك التي تتكئ عليها، إن أرهقتني كما الليلة، ضيعتني، وساعتها ستقع ولن تنفعك شهاداتك ونجاحاتك وتقديراتك من أن تقع فريسة بين أسنان ولسان الجميع.
داليا رأفت…القاهرة في مايو ٢٠٢٣
………………
القراءة
منذ البداية يلتبس الأمر على القارئ فيتساءل : من السارد؟..لاول وهلة يذهب ظنه إلى الضمير أو الأنا العليا المعاتبة اللوامة الناصحة والمهددة أحيانا، وبعد التهامه لهذه الوجبة الدسمة من حوادث وأحداث ورد ذكرها بتقنية التذكير بغية التنبيه والتحذير يعود ليلتبس عليه الأمر مجددا، ويحتار بين شيئين متسائلا أيهما السارد ؟.. الضمير أم حبات المهدئ؟
تلك لعبة النص ومكمن براعته؛ طرح الأسئلة تلو الأسئلة، ناهيك عن البراعة المحكمة للتدفق السردي، وعن مخالفة السرد التقليدي ( ضمير الغائب أو ضمير المتكلم) بلجوء القاصة إلى ضمير المخاطب تأصيلا للحداثة السردية بإشراك القارئ في جزئيات المتن فاعلاً ضمنيًا لا مشاهدًا عن كثب.
قصة ملخصها مريض بالعجز الجنسي، والذي في المجتمع الذكوري هو عار ما بعده عار، يخجل منه من يصاب به، بل يخجل أن يسعى لعلاجه وهو عادة في الإمكان علاجه؛ فيلجأ للحبوب المهدئة سبيلًا للتخفيف من معاناته النفسية المتفاقمة، ويهرب من كل شيء يذكره بعلته.
نص صيغ بإحكام متكئًا على جملة أحداث متواترة صنعت التصاعد الدرامي باقتدار، وحافظت بمهارة على تورية المفاتيح السردية لمغالق النص والتي سبق وطرحناها في شكل سؤال ( من السارد )، ومن ثم نصطدم فجأة بكلمة ( ضيعتني )..بداية كما قلت يحدث صدام لأنها تعد أول إشارة مباشرة لماهية السارد، ويميل القارئ المتسرع إلى اعتبارها نشاز وغير منطقية وتتنافى مع خياراته السابقة ( الضمير/ حبات المهدئ )..ليتساءل للمرة الأخيرة من السارد ؟.. وللإجابة على هذا السؤال الذي أراه كما قلت لعبة النص وسر جماله الخفي..يجب ان نعود لجملة من جمل الاستهلال لم تثر انتباهنا ومررنا عليها مرور الكرام الطيبين..جملة (تلعن ثقتك بقدرتك على نوم بلا حباتك ككل ليلة. )، ونربط بينها وبين ( ضيعتني)… الرجل ينام كل ليلة اثر تناوله المهدئات، وهذه الليلة قرر أن ينام بلا مهدئ ففشل وأضاع النوم (يؤرقك هاجس ليلي، تقوم، تقرفص ثم تهرب من أشواك السرير).. لنخلص إلى أن الذي ضاع هو النوم ذاته!
وهو السارد ايضا!!
أما عن عنوان النص فلا أراه موفقا، وأرى فيه ميلاً لعناوين المقالات اكثر منه عنونًا لقصة.
ومن ناحية اللغة جاءت سليمة بسيطة علت فيها الخطابية التحذيرية واللائمة في آن، وهو ما يتوافق مع روح النص ( الخجل من العجز).
محمد البنا…القاهرة في ٨ مايو ٢٠٢٣
Discussion about this post