في مثل هذا اليوم10 يونيو 1826م..
قوات السلطان العثماني محمود الثاني تتمكن من القضاء على تمرد القوات الإنكشارية والتي كانت تعتبر في وقت من الأوقات درة تاج القوات العثمانية في عصرها الذهبي.
السلطان محمود خان الثاني بن عبد الحميد الأول بن أحمد الثالث بن محمد الرابع بن إبراهيم الأول بن أحمد الأول بن محمد الثالث بن مراد الثالث بن سليم الثاني بن سليمان القانوني بن سليم الأول بن بايزيد الثاني بن محمد الفاتح بن مراد الثاني بن محمد الأول جلبي بن بايزيد الأول بن مراد الأول بن أورخان غازي بن عثمان بن أرطغل. (20 يوليو 1785 – 1 يوليو 1839) كان السلطان الثلاثون للدولة العثمانية، وهو ابن السلطان عبد الحميد الأول شهد عصرة خطوات إصلاح واسعة، وحاول أن يوقظ الدولة العثمانية، وأن يدفعها إلى ما تستحقه من مكانة وتقدير.
تقلد السلطان محمود الثاني مقاليد الخلافة العثمانية سنة 1808م وهو في الثالثة والعشرين من عمره، واستقر عزمه على أن يمضي في طريق الإصلاح الذي سلكه بعض أسلافه من الخلفاء العثمانيين، ورأى أن يبدأ بالإصلاح الحربي، فكلف الصدر الأعظم “مصطفى البيرقدار” بتنظيم الانكشارية وإصلاح أحوالهم، وإجبارهم على اتباع التنظيمات القديمة الموضوعة منذ عهد السلطان سليمان القانوني وأُهملت شيئا فشيئا.
القضاء على الانكشارية:
حاول الصدر الأعظم أن يقوم بالمهمة التي كلفه بها السلطان محمود الثاني؛ فقوبل باعتراض من الانكشارية، وثاروا في العاصمة ثورة عارمة في (رمضان 1223 هـ = 1808م) وحاولوا إرجاع السلطان السابق “مصطفى الرابع” ليكون ألعوبة في أيديهم، وأضرموا النيران في السرايا الحكومية، ومات الصدر الأعظم في هذه الفتنة محترقا وهو يحاول أن يقضي على تلك الفتنة، واضطر السلطان أن يخضع لهم بعد أن أضرموا النار في العاصمة، وكادت النيران تقضي عليها، مؤجلا فكرة التخلّص منهم إلى وقت آخر.
وكان السلطان يرى أن اشتداد نفوذ الانكشارية قد حطم جهود كل من يحاول الإصلاح من السلاطين السابقين، وأن سرّ نجاح محمد علي باشا في حركته الإصلاحية أنه بدأ بإزالة عقبة مشابهة وهي المماليك فتخلص منهم في الحادثة المعروفة باسم “مذبحة القلعة”، وقد تخلص السلطان محمود الثاني من الانكشارية تماما في سنة (1240 هـ = 1826م).
وجّه السلطان محمود الثاني عنايته إلى بناء فرق عسكرية تأخذ بالنظم الحديثة؛ فأنشأ قوة من سلاح المدفعية على يد ضباط أوروبيين، وكان نجاح هذه القوة في تعلم الفنون العسكرية الحديثة حافزا له في تنظيم قوة أخرى من المشاة على نفس الطريقة. بدأ السلطان يعمل على إيجاد رأي عام يؤيد ما يتجه إليه من إصلاحات، بإقامة الحفلات الكبرى لأي إنجاز تقوم به قواته، وباستصدار فتوى من كبار مشايخ الدولة بوجوب تعليم فنون الحرب، وضرورة إصلاح الجندية، وإدخال النظام العسكري الحديث في فرق الإنكشارية التي لا يمكنها بما هي عليه الآن الوقوف أمام الجيوش الأوروبية، وأحيا السلطان محمود الثاني ما أقامه مصطفى الثالث من مدارس للطوبجية والبحرية والهندسة، وأنشأ مدرسة حربية لتخريج الضباط على غرار المدارس الحربية الأوروبية، ومدارس لتعليم الجند وتدريبهم على نَسَق مدارس الجيش في إنجلترا.
أخذ السلطان بنظام التجنيد الإجباري لأبناء المسلمين، وجعل مدة التجنيد عشر سنوات، وأرسل الضباط في بعثات للخارج على نطاق واسع، واستدعى عددا من الضباط من بروسيا لتدريب القوات الجديدة. اتجه السلطان إلى إصلاح البحرية، فأعاد فتح مدرسة البحرية التي كان قد أنشأها السلطان مصطفى الثالث، وشرع في بناء ثكنات خاصة لرجال البحرية الذين سُموا أحيانا بـ”جنود البحر”، وبنى دارا جديدة للمدرسة البحرية عُنِي بتلاميذها ومدرسيها، وزودها بالأدوات والمكتبة والأجهزة، ثم بنى مدرسة بحرية أخرى قصرها على الطلاب المتفوقين من المدرسة القديمة.
من أهم إصلاحات محمود الثاني كان العناية بالبحرية العثمانية وإعادة بنائها لا سيما بعد الهزيمة القاسية للأسطول العثماني في معركة نافارين أمام الأساطيل الأوروبية المتحالفة، حيث أدخل أول سفينة حربية تعمل بالبخار في عام 1828م كما أمر نخبة مهندسيه ببناء سفينة المحمودية (بالتركية: Mahmudiye) ذات الـ128 مدفع وبقيت هذه السفينة الأضخم في العالم لسنوات عديدة، كما أعاد فتح المدرسة الهندسية البحرية التي كانت قد أنشئت في قبل في سنة (1208 هـ = 1793م)، وكلما انتهى العمل في بناء قطعة بحرية أُنزلت للبحر في احتفال عظيم، وكان السلطان يُسرّ لإنشاء السفن الجديدة سرورا عظيما ويخلع على طاقمها هباته وهداياه.
عُنِي محمود الثاني بتنظيم التعليم حيث أنشأ المدارس الابتدائية المسماة “صبيان مكتبي” لتعليم الهجاء التركي وقراءة القرآن، ومبادئ اللغة العربية، والمدارس الثانوية “مكتب رشدية” لتعليم الرياضيات والتاريخ والجغرافيا، إلى جانب المدارس الملحقة بالمساجد، كما أنشئت مدارس تُعِدّ طلابها للالتحاق بمدارس البحرية والطب والزراعة والهندسة والمدفعية، وكانت المدرسة الإعدادية لمدرسة الطب ملحقة بها.
اعتنى محمود الثاني بمدرسة تعليم اللغات التي أنشئت في عصر السلطان مصطفى الرابع لتخريج المترجمين، وكان يلتحق خريجو هذه المدارس بالسفارات المختلفة. أكثر محمود الثاني من إرسال البعثات العلمية إلى لندن وباريس لتحصيل الفنون والعلوم الحديثة، وكلف سفيره في باريس “أحمد باشا” بمرافقتهم وكتابة تقارير عنهم.
ومنها أيضا اهتمامه بالمكتبات حيث قام بتجديد المكتبة المحمودية بالمدينة المنورة.
حاول السلطان إصلاح أجهزة الدولة المركزية بالطريقة الأوروبية، فوضع الأوقاف تحت إشرافه وألغى الأوقاف الصغيرة وضمها إلى أملاك السلطان، وأجرى أول إحصاء للأراضي الزراعية التركية في العصر الحديث، وأدخل تحسينات على شبكة المواصلات، وأنشأ طرقا جديدة وأدخل البرق، وخطوط السكك الحديدية، كما أنشأ جريدة رسمية للدولة.
شهد عصر السلطان محمود نشاطا في حركة التعمير، وصيانة المرافق القديمة التي أصابها الإهمال، فأنشأ في سنة (1241 هـ = 1825م) “جامع نصرت” أي جامع النصر في إستانبول، وأعاد تعمير مسجد “آيا صوفيا” وغيره من مساجد العاصمة.
عمل حتى على إصلاح الملابس، حيث استحدث لباسا يشبه اللباس الأوروبي واستبدل العمامة بالطربوش الذي كان يرتديه الرعايا العثمانيون في ولايات الأفلاق والبغدان (قبعة رومانية)، وأجبر موظفي الحكومة المدنيين والعسكريين على ارتداء اللباس الجديد في أماكن عملهم.
قام بزيارة الولايات الأوروبية للوقوف على حالها وأخذ على عاتقه تحديث الدولة العلية لتجاري الدول الكبرى من جديد.
أمر السلطان محمود خان واليه محمد علي باشا بالقضاء على الدولة السعودية الأولى، فأصدر محمد علي باشا أمراً بالهجوم على الدولة السعودية الأولى من شهر ديسمبر عام 1807م، تلبية من السلطان العثماني، حتى تمكن في بداية الأمر من استعادة مدينتي مكة والمدينة بداية عام 1811م.
استمرت الحرب السعودية العثمانية ونجحت في ضم مدينة جدة ومكة والمدينة، حتى وصل الجيش العثماني إلى العاصمة الدرعية في شهر سبتمبر 1818م، واستسلم الإمام عبد الله بن سعود لقائد الجيش العثماني إبراهيم باشا، وذلك عن طريق الصلح، بعد ذلك أرسل محمد علي باشا عبد الله بن سعود الكبير للأستانة حيث أمر بقتله بعد أن طاف به شوارعها حتى وصلوا به إلى ميدان السلطان بايزيد حيث قتل. وصدرت فتوى من مشايخ الإسلام في الأستانة بمنح السلطان محمود الثاني لقب الغازي عرفاناً بانتصاره واسترداده للحرمين الشريفين في الحجاز.
استغل اليوناييون انشغال الدولة العثمانية في إخماد إحدى الثورات حتى هبوا معلنين بداية حرب الاستقلال اليونانية والتي كان أمراؤهم وأغنياؤهم قد أعدوا لها منذ مدة ليس قصيرة، وحظيت بدعم أوروبا التي أرسلت إليهم المال والعتاد والرجال. أراد السلطان محمود أن يخفف عن جيوشه العبء من جهة وأن يضعف قوة محمد علي باشا (الوالي العثماني في مصر آنذاك)، فأصدر أمرا لمحمد علي بالتوجه فورا لدعم الحامية العثمانية المتمركزة في اليونان.
اضطر محمد علي للانصياع لأوامر خليفته، فسير 17 ألف عسكري مصري إلى بلاد اليونان، بالإضافة إلى الأسطول البحري المصري. اجتمع الأسطولان المصري والعثماني عند السواحل اليونانية، وقاد إبراهيم باشا جنوده عبر ميناء مودون إلى البر اليوناني وبدا باسترجاع كل المدن المفقودة حتى حرر أثينا.
بعد مشاورات ومناوشات سياسية طويلة بين الدولة العلية والدول العالمية، رفضت الدولة العثمانية تدخل أي دولة في شأن اليونان، كما رفضت أي اقتراح لحل الأزمة، مما سبب ظهور حلف روسي فرنسي إنجليزي كان هدفه فصل اليونان عن جسد الدولة العلية، فتجمعت أساطيل الدول الثلاثة في ميناء نافارين وقامت بتدمير الأسطولين المصري والعثماني فجأة وبدون إنذار مسبق في معركة نافارين، كما جهزت فرنسا جيشا بريا كبيرا عمل على إعادة احتلال اليونان من قوات محمد علي باشا، والتي تقهقرت بناء على أوامر والي مصر، وانتهى الأمر باستقلال اليونان.
وفاة السلطان:
امتاز السلطان محمود الثاني بالتوجه للغرب العلماني، أنهكته الحروب مع روسيا، وشغلته حروبه مع محمد علي والي مصر الطَموح الذي تطلع إلى ضم بلاد الشام إلى ولايته في مصر، ووقعت الجزائر تحت الاحتلال الفرنسي في سنة (1245 هـ – 1830م).
تعرض السلطان للإصابة بعدوى السل، ولما اشتد به المرض نُقل إلى إحدى ضواحي إسطنبول للاستشفاء بهوائها النقي، ثم لم يلبث أن عاجلته المنية وتوفي في (19 ربيع الآخر 1255 هـ = 2 يوليو 1839م) وهو في الرابعة والخمسين من العمر وخلفه ابنه السلطان عبد المجيد.!!!
Discussion about this post