في مثل هذا اليوم11 يونيو1932م..
محمد علي العابد يتسلم رئاسة سوريا.
محمد علي العابد (ولد:1867 في دمشق – الوفاة:1939 في باريس)، سياسي ودبلوماسي عربي سوري، هو أول رئيس للجمهورية السورية بين 11 يونيو 1932 و21 ديسمبر 1936، وثامن حاكم منذ سقوط سوريا العثمانية، وأول رئيس لسوريا يتم انتخابه لا تعيينه. كان العابد يمثل عند انتخابه “الأرستقراطية الدمشقية والمتقدمة في العمر، إذ كان يبلغ عند انتخابه السبعين من عمره”. درس العابد في دمشق التي غادرها طفلاً وفي بيروت وإسطنبول وباريس، وعمل في الخارجية العثمانية وعيّن سفيرًا في الولايات المتحدة، وبعد الانقلاب على السلطان عبد الحميد الثاني (1908) لم يعد وعائلته إلى الدولة العثمانية مطلقًا بل تنقلت العائلة في أرجاء أوروبا حتى نهاية الحرب العالمية الأولى، ثم استقرّ في مصر قبل أن يعود إلى دمشق بعد بدء الانتداب. في سياسته كان العابد محايدًا ذا علاقات جيدة مع موالي الانتداب من ناحية ومع الكتلة الوطنية من ناحية ثانية، وهو ما ساهم في وصوله لمقام الرئاسة في 13 يونيو 1932، وكان أول من حمل لقب «رئيس الجمهورية» في سوريا، إذ إن من سبقوه سمّوا «رؤساء دولة» لعدم وجود دستور يتبنى النظام الجمهوري. بموجب الدستور فإن ولاية الرئيس تمتد لخمسة سنوات، إلا أنه استقال عام 1936 بداعي السن وتمهيدًا لتدشين حكم الكتلة الوطنية بعد توقيع المعاهدة السورية الفرنسية؛ وقد تتالى خلال رئاسته أربع حكومات.
كان يجيد عدا عن لغته العربية الأم، اللغة التركية القديمة (العثمانية ذات الأبجدية العربية) وكلاً من الفرنسية والإنجليزية والفارسية وعرف عنه ولعه بالأدب الفرنسي وبالعلوم الاقتصادية. عائلة “العابد” من عائلات دمشق الغنية والمرموقة، استقرت في دمشق على يد هولو العابد جد والد محمد علي، ويعود نسبه لقبيلة الموالي إحدى قبائل سوريا التي استوطنتها إبان العهد العباسي. عرف العابد بوصفه “من أغنى رجال سوريا إن لم يكن أغنى رجل سوري على الإطلاق” في عصره.
ولد محمد علي العابد في دمشق عام 1867، وتعتبر عائلته جزءاً من الإقطاع أو الطبقة البرجوازية السوريّة التي شكلّت الحكم المحلي في ظل الدولة العثمانية؛ وشكل آل العابد مع آل العظم وآل اليوسف، أنسبائه، صفوة المجتمع العربي العثماني في دمشق كما ذكر فيليب خوري؛ لعب جدّه الأكبر عمر آغا دوراً في وأد الفتنة وإغاثة الناجين خلال مجازر 1860، وجده المباشر هولو باشا عيّن متصرفًا في عدد من المناطق والأقضية ثم رئيسًا للمجلس الإداري في ولاية سوريا خلال تسعينات القرن التاسع عشر، أما والده أحمد عزة باشا فكان “السكرتير الثاني” للسلطان عبد الحميد الثاني، وأحد مقربيه القلائل، والمهلم بمشروع الخط الحديدي الحجازي، والعربي الأكثر نفوذَا في البلاط العثماني في عهد السلطان عبد الحميد، وعيّن بعد خلع السلطان عام 1908 في مراتب رفيعة كرئيس محاكم بلاد الشام. في هذه البيئة الأرستقراطية نشأ محمد علي العابد وتلقى علومه الابتدائية في دمشق ثم انتقل عام 1885 إلى بيروت فأقام بها قسطًا من الزمن وتتلمذ على يد الشيخ محمد عبده، وانتقل مع أسرته إلى إسطنبول بعد استدعاء والده إليها، فدخل مدرسة غلطة سراي السلطانية وكانت بمنزلة مدرسة لأولاد الذوات، وبعدما أنهى الثانوية أوفد إلى باريس حيث درس الحقوق، والتشريع الروماني، ومبادئ الفقه الإسلامي؛ ومنها تخرّج عام 1905.
العمل الحكومي في الدولة العثمانية:
بعد تخرجه عاد العابد من باريس إلى إسطنبول حيث عيّن مستشارًا قضائيًا في وزارة الخارجية العثمانية، وبفضل نفوذ والده وقربه من السلطان عبد الحميد الثاني غدا سفير الدولة العثمانية لدى الولايات المتحدة الأمريكية، غير أن عمله في واشنطن لم يطل واستمر ستة أسابيع فقط بسبب الانقلاب على السلطان عبد الحميد الثاني (انقلاب 23 تموز/يوليو 1908)، وفي 23 يوليو 1908 أنهيت مهامه كسفير، وكذلك أقيل والده من منصبه وغادر إسطنبول سرًا خوفًا على حياته. لم يعد محمد علي وشقيقاه وزوجته إلى الدولة العثمانية، بل انتقل من واشنطن إلى كاليفورنيا ثم إلى أوروبا حيث التقى والده، وتفرغ لإدارة أملاك العائلة الواسعة في سوريا وخارجها، كما تفرغ للأدب العربي والأدب الفرنسي الذين “شغف بهما”. وأمضى العابد فترة الحرب العالمية الأولى متنقلاً بين سويسرا، وفرنسا، وإنكلترا، مخالطًا خلال جولاته عددًا من رجال السياسة والديبلوماسيين الأوروبيين، وهي فرصة قلّما سنحت لشخصية سورية غير حكومية في ذلك العهد. بعد نهاية الحرب انتقل العابد وأسرته إلى مصر حيث توفي والده، ومنها عاد إلى دمشق عام 1920 بُعَيْدَ سقوط المملكة السورية العربية ومغادرة الملك فيصل الأول. نسج علاقات جيدة مع قادة الانتداب الفرنسي واتهمه محمد كرد علي بوصفه محابيًا للفرنسيين عدوًا لوطنه؛ وفي حكومة بركات الأولى التي تشكلت في يونيو 1922 غدا العابد وزير المالية، وتلاه في الحكومة التالية التي تشكلت في 1 يناير 1925 جلال زهدي.
العمل الحكومي في سوريا:
في 28 يونيو 1922 تم إعلان الاتحاد السوري بين دولة دمشق ودولة حلب ودولة جبل العلويين على أن يكون اتحادًا فيدراليًا كخطوة أولى نحو الوحدة السورية، وكان المجلس التأسيسي الذي أنشأه الجنرال هنري غورو مؤلفاً من خمسة عشر عضواً، خمسٌ عن كل دولة، ويشكل الهيئة التشريعية العليا في البلاد، وبموجب دستور الاتحاد الذي أعلنه غورو أيضًا كان من المفترض انتخاب أعضاء المجلس إلا أنه تعذر إجراء انتخاباتٍ نيابيةٍ حينئذٍ (الأرجح هذا ما أشاعه الفرنسيون ليضمنوا تعيين من يريدون وتجنباً لفوز الوطنيين)، فعيّن غورو بنفسه أعضائه محاولاً انتقاءهم ما أمكن من الشخصيات غير المحسوبة على فيصل الأول ولم تشارك بالحكم معه، فكان من بينها محمد علي العابد ممثلاً عن دمشق.
في اليوم نفسه الذي أعلن فيه الاتحاد، التأم المجلس الاتحادي في حلب وانتخب بالإجماع صبحي بركات رئيسًا لمدة عام، وقد شكّل بركات حكومته الأولى مسندًا وزارة المالية للعابد. عمت البلاد السورية الراحة في أعقاب إعلان الاتحاد، وعادت الثقة بالمعتدلين (ممن جاؤوا إلى الحكم مع الانتداب). مكث العابد وزيرًا للمالية حتى 1 يناير-كانون الأول 1925 وخلال وزارته الطويلة تم إقرار اتفاقية “مصرف سورية ولبنان الكبير” الذي أنشئ في باريس برؤوس أموال فرنسية ليكون بمنزلة مصرفٍ مركزي يتم إصدار الليرة السورية من خلاله وذلك في 1 أغسطس-آب 1922؛ وعلى الصعيد الشخصي تزوج رئيس الاتحاد صبحي بركات من ليلى العابد ابنة الوزير غير أن الزواج كان قصيرًا وانتهى بالطلاق، فانتهت بذلك كما يقول يوسف الحكيم الذي عاصر تلك الفترة “صلات المودة والصداقة بين الرئيس والوزير”. رغم ذلك لم يستقل العابد لكن -كما يوضح الحكيم أيضاً- أصبح منزله ملتقىً لجميع معارضي بركات خصوصاً رجال الكتلة الوطنية لاحقاً، وكان لهذه الصداقة أثر بالغ في إيصال العابد لسدة الرئاسة فيما بعد عام 1932 كمرشح توافقي بين مختلف الأطياف.
الصعود إلى السلطة:
الانتخابات النيابية:
لم يضطلع العابد بأي عمل سياسي خلال الفترة بين عامي 1925 و1932، وكفل له خروجه المبكر من حكومة بركات عدم خسارة تأييدالوطنيين وفرنسا في الوقت ذاته، وقضى الفترة كما يذكر يوسف الحكيم في الأعمال الخيرية، وعندما أقرّ دستور عام 1930 قرر العابد الترشح عن دمشق ونال دعم الرئيس الأسبق الداماد أحمد نامي، ويقول الحكيم إن العابد خلال دعايته الانتخابية نشط في أعماله الخيرية فقدم إعانة مالية كبيرة لـ”جمعية الإسعاف الخيري” التي تدير ميْتماً وعدداً من المشاريع الخيرية، وشارك مع رجال المال بتأسيس مصرف وطني، وعقد تفاهمًا مع رجال الكتلة الوطنية كيلا تتضارب الأصوات في دمشق، وزار المؤسسات الروحية لمختلف الطوائف بدمشق مقدمًا في كل زيارةٍ إعاناتٍ مالية لتقوم المساجد والكنائس بتوزيعها على الفقراء والمحتاجين خاصةً لقرب الأعياد الدينية حينها. ونتيجة الانتخابات -التي جرت مرحلتها الأولى في ديسمبر 1931 والثانية في يناير 1932- انتخب العابد نائبًا وفق النتائج القطعية التي صدرت في 9 أبريل.
انتخابه:
عقد المجلس النيابي اجتماعه الأول في 7 يونيو، وفُوّض بموجب الدستور بالتصديق على نتائج الانتخابات النيابية، وانتخاب رئيس الجمهورية ورئيس المجلس وهيئة مكتبه، وتحديد مخصصات النواب. لم يكن العمل الحزبي قوياً في سوريا آنذاك ولذلك كان أغلب النواب مستقلين ومفروزين على أساس مناطقي: الكتلة الأولى بزعامة صبحي بركات وحولها أغلب نواب الشمال المعتدلين، والكتلة الثانية يتزعمها حقي العظم وأغلب نواب الجنوب المعتدلين، في حين كانت ثالثة الكتل نواب “الكتلة الوطنية” (17 نائبًا من أصل 68) بزعامة هاشم الأتاسي ورغم قلة عددها إلا أنها كانت نشيطة وفعالة. بإيحاءٍ من المفوضية الفرنسية انتخب المجلس في 11 يونيو صبحي بركات رئيسًا له، ثم جرى انتخاب مكتب المجلس الذي شغله أنصار بركات أيضًا، وأراد بركات الشروع بانتخاب رئيس الجمهورية مباشرة فانسحب نواب الكتلة (قيل اعتراضاً على نية بركات الترشح للرئاسة وهو الذي لايتقن التحدث بالعربية، إضافة لموقفه المعادي عندما اندلعت الثورة السورية الكبرى في عهد رئاسته للدولة)، ولم يشأ بركات أن يؤجل الجلسة لصغر حجم الكتلة النيابية الوطنية فعلياً غير أن الجنرال فيبر ممثل المفوض الفرنسي في دمشق -وكان الفرنسيون مدركين لعمق الخلاف بين الوطنيين وبركات- أصدر قبل البدء بالانتخاب مرسومًا بتأجيل الجلسة بهدف بلورة اتفاق بين مختلف الكتل النيابية.
كانت المفوضية الفرنسية تدعم وصول حقي العظم إلى رئاسة الجمهورية، لكن خلال المباحثات بين قادة الكتل النيابية تم التوصل إلى صيغةٍ -يعود الفضل فيها لـ”جميل مردم بك” نائب الكتلة- تتخلى فيها الكتلة الوطنية عن مرشحها هاشم الأتاسي لقاء تخلي الفرنسيين عن ترشيح العظم وانتخاب محمد علي العابد كرئيسٍ توافقي؛ وهو ما تم بأغلبية 36 صوتًا مقابل 32 صوتاً لصبحي بركات الذي علق عليه بقوله: “هذا أمر دُبّر بليل”، وانتقل العابد إلى مقر الرئاسة محاطًا بحراسة “الشباب الوطني”، وجرت مراسم تسلّمه الرئاسة في باحة القصر بإطلاق المدفعية سبع عشرة طلقةً إيذاناً ببدء العهد الجمهوري ورفع خلاله العلم السوري الجديد المستوحى من علم الثورة العربية الكبرى (التي كان الملك فيصل الأول قائد جيشها الذي دخل دمشق) لكن مع ثلاث نجوم خماسية حمراء في الوسط بدلاً من المثلث الأحمر على اليسار. أما المرشحيْن المحتمليْن الآخريْن الذين تداولت الصحافة أسماءهم فكانوا كلاً من الداماد أحمد نامي رئيس الدولة السابق (أبريل/1926- فبراير/1928)، وإبراهيم هنانو. عمومًا فإن الاتفاق المعقود ضمن للمعتدلين رئاسة المجلس النيابي بشخص صبحي بركات وأن تكون الحكومة مناصفة بين الكتلة والمعتدلين على أن يشكلها حقي العظم.!!
Discussion about this post