المستشار مظهر محمد صالح يقرأ حسين الذكر .. وجهة نظر خاصة ..
الدمعة الناطقة: طفرة في جذور المدرسة التفكيكية المشرقية
د . مظهر محمد صالح
1- ادهشني الكاتب والاديب والمفكر حسين الذكر وهو يتداول في صباح يوم صيفي لاهب رؤية في الدمع الساخن قائلاً :
((فلسفة البكاء في قطرانها الحارق، لا تقتصر على مبررات ظاهرة ، فلربما في النفس خلجات وأحاسيس تختمر خارج حدود النص المرئي ، لا تدرك حتى من الباكي نفسه.. فللدموع مخارج غير مسيطر عليها )).
اجبت من فوري المفكر والكاتب حسين الذكر قائلاً له:
((الدموع هي مداد صوت العقل يظل بحاجة الى تفكيك نصوصه، انها وجود آخر شديد الاغتراب يبحث عن حقيقة فقدت من محاور حياتها الداكنة)).
ذهبت من فوري لكي ابحث مجددا عن الربط بين الدموع وبين احرف نصوص الكلمة في المدرسة الفرنسية التفكيكية وبمداد جديد هو :
تفكيكً الدموع tears deconstruction . اذ يُعدّ جاك دريدا Derrida الفيلسوف الفرنسي ، الأبَ المؤسِّس للتفكيكيّة، والتفكيكيّة هي نسقٌ من التحليل مثير للجدال يتحدّى أسس الفكر الغربيّ التقليديّ.ففي الوقت الذي تذهب فيه التفكيكية الى فهم العلاقة بين النص والمعنى، نرى ان أسلوب دريدا ياتي من ربط قراءات النص بأذن لما يناقض المعنى المقصود أو الوحدة . وتسعى التفكيكية باعتبارها منهجا في التفكير والنقد إلى تفكيك الأسس والثوابت الميتافيزيقية والمطلقة. فالتفكيكية بهذا المعنى هي سلاح معرفي رصين هدفه إعادة قراءة النصوص الفلسفية والفكرية بطريقة نقدية شاملة وجديدة بعيدا عن الولاءات المجانية للأفكار التي اعتبرت لمدة طويلة مسلمات لا ينبغي زعزعتها أو نقدها أو إلغاؤها بصفة نهائية.
فبين الفلسفة والادب يرى Derrida فيلسوف المدرسة التفكيكية الفرنسية بان الفلسفة التقليدية من افلاطون الى يومنا هذا تطورت ضمن الفكر الثنائي dualism : الروح والجسد ، المحسوس والمعقول ، الطبيعة والثقافة ، الكلام والكتابة ، الباطنية والخارجية ، الحضور والغياب ، الواقع والمظهر ، المذكر والمؤنث،لنضيف عليها اليوم (( الدمعة والمداد)).
2- في خضم تناولي لمؤلف فلسفي عنوانه : مدخل الى تاريخ المفاهيم -من عصر النهضة الى الفكر المعاصر ( من فرانسيس بيكون الى عمو نويل ليفيناس) نجد ان الدكتور الاب هاني بيوس حنا في كتابه اعلاه الصادر في العام 2022 ، يؤشر الى الفكر الثنائي Dualism بانه بات يشكل من كل تلك التعارضات الثنائية مجموعة قيم تؤدي الى تخفيض قيمة احدى مصطلحي الثنائية بشكل منهجي . وعند مقارنة ذلك مع �المفكر الانساني حسين الذكر ، كقدرة فكرية مشرقية شديدة الحداثة نراه يمسك بملامح واصول المدرسة التفكيكية المشرقية oriental deconstructionism ان جاز التعبير في كتاباته ويومياته اللاهبة التي تشخص العقل الشرقي في الكلام والكتابة ليلامس هو الاخر ثنائيات المدرسة التفكيكية في موضوع ( الدمع والمداد) .
فالتفكيكية بمثابة ثورة جريئة على ثوابت الأفكار التي عمرت طويلا دون أن تتم خلخلتها بواسطة جهاز مفاهيمي ونقدي صارم، حيث يتولى حسين الذكر هنا مثله مثل المفكر حسين العادلي وغيره عملية انتاج الاختلاف difference كما يسميها الاب هاني بيوس حنا في كتابه الفلسفي ، وهي العملية التي تكشف اختلاف المفاهيم .فالاختلاف (كما يقول الاب ) هو مصدر وديناميكية الفكر الفلسفي . فالثنائية التي قدمها حسين العادلي سابقاً في يومياته الفكرية او حتى مفكرين من امثال عقيل الخزعلي وابراهيم العبادي ومزهر الخفاجي وغيرهم ، ياتي المفكر حسبن الذكر والكثير من الاعلام في بلادنا بالتبحر فلسفياً على ارضية ثقافية افرزها المجتمع الشرقي مثلما هي في المجتمع الغربي مقتربين جميعاً مما يمكن تسميته مجازا كما ذكرنا انفاً ((بالتفكيكية المشرقية oriental deconstruction )) .اذ تتاصل كل ثقافة في عالم فكر وميتافيزيقيا خاصة بتلك الثقافة نفسها . لذلك يتمثل التفكيك المشرقي عموماً في الكشف عن تلك المتعارضات (اي تفكيكها )من خلال البرهنة على منطقيتها .فالفكر الثنائي Dualism مثل ( الدمع والمداد )صار يشكل عند حسين الذكر (من كل تلك التعارضات الثنائية ) مجموعة قيم تؤدي الى تخفيض قيمة احدى مصطلحي الثنائية بشكل منهجي لبلوغ الحقيقة .
وحسب Derrida فان تفكيك النظام لايعني تدميره . ولاسيما بعد ان اولت الفلسفة التقليدية الكلام اهتمامًا مفرطاً تحت مظلة : اقتراب الفكر من نفسه ولكن على حساب الكتابة نفسها ، الا ان Derrida يوكد ان الكتابة هي تمثيل مشتق من ذلك ، وان اسبقية الكلام على الكتابة التي يطلق عليها بالمركزية الصوتية ( اللوغوسية) جاءت من محاولة بعض الفلاسفة دراسة العلاقة بين النص والمعنى ليتحدوا باسبقية الكلام ،بكون الكتابة ماهي الا صورة رمزية ،بل انها صورة الصوت او الكلام وهم لايدركون حتى ان الدموع هي مداد الكتابة النصية في بلوغ جوهر الحقيقة .�هنا يقف Derrida ايضاً كما يقول الاب هاني بيوس حنا ضد المركزية الصوتية او ( اللوغوسية).
3- وهنا ياتي الكاتب والمفكر حسين الذكر ليدخل المدرسة التفكيكية المشرقية من خلال فكرة (الدمع )كظاهرة مادية ناطقة تبقى بحاجة الى التفكيك لبلوغ المعنى وبرهنة الحقيقة، اذ يمثل الدمع مداد النص المكتوب ولكن بقوة وحرارة المشاعر الانسانية . انها الدموع الناطقة التي تحول الكلام الى مداد . فالكلمات التي جاءت بها اغنية (ناريتو الحزينة ) على سبيل المثال وهي فلم (كارتوني ) وعنوانه حكاية دموع والتي تقول :ولدت من جديد حينما رأيت طفلًا بريئاً يمشي ليلا والظلام حالك …..ويمشي وحيدا ًخائفا وضوء البدر ساطع
وحيداً لا صديق له في ارض ربى ضائع
شجاع لا يهاب شيئا جعلته كفارس…
فلا مأوي ياوية من ضرار البرد القارص
طفل يغطى جسمة بعض من القماش
احلامة تبخرت مصيرها التلاشي
اليوم بارد و الليل دامس ظلامه
والطفل شارد و ربما تمزقت آلامه
صغير فنظير العمر عقلة كبير
فاين من يحمية او من البلوي يجبره
فراشة التراب ربما توسد الصخورا
وكل من أه لم يكن فيه فخورا
سألته….
أما من نور في الحياة
أما من بسمه ربما تذهب المعاناة؟
اجابنى بحسره و دمعه سيالة
بنظره حزينه فلتسمعوا ما قال
دعونى ….
دعونى احكى ما ببالي
احكى و لا اظن ان منكم من يبالي
احكى و لا اسيء في كلامي
برئ لكن لا يري غير الظلام
وحيد فحياتة و لا مأوي ياويه
ولا اما تضمة و لا ابا يحميه
قلوبكم تفتت و صارت كالحجارة
ضميركم غفي هفي اردتكم القذارة
دعونى جميعا دوما القي العذاب
ظلام الليل موحش و الذئب ذو انياب
نظرت للسماء لم اجد غير السواد فكتفيت بالبكاء ما دهاكى يا بلادى
تركتنى اعانى و حدى في دجى الليالي
حتي الجماد يقشعر فالمكان خالي
وقد سالت الدنيا لم تسعفيني؟
لسمعى كلامي حين قلت زمليني
ابيتي ان تضمدى جروحك في قلبي
فى العسر لم اجدك اطفأت نور دربي
شربت كأس اليأس و الأسي خلف الستار
اريد ان اواصل لكن قواى خارت
ترون بالبصر و لا ترون بالبصيرة
بعد الحياة موت ايامنا قصيرة
تركتمونى و حدى من فضلكم ذروني
وواصلوا حياتكم ببسمه من دوني
ألم تروا براءةً تريد ان تطيرا
الم تروا و جها غدى عبوسا قمطريرا
ولن الومكم فربما ذلك ابتلائي
أن لم ترونى حيا ساكتب رثائي
والحبر دمعه تسيل قطره من خدي
قد عشت عيشا ظنكا…ولم يكن بودي
رجال الحق قالوا
الصابرون نالوا
والذهن حامل لم لا تحمل الجبال
وقد جفت عيوني من كثرة الدموع
وما نسيت ربى فسجودى او ركوعي
حياة اليوم مزحه كورده مسمومة
نظرت دوما للسماء كى اري النجوم
لاتلمنى ان كنت اكثرت الصراخ
فحالى حين قطعت اوتارة تراخى
من جائنى رحيما بادلتة احتراما
لكنكم لم تفعلوا كى تفعلوا الحرام
والراحمون رحمه من ربنا تاتيهم
اطفالكم امانة من السما في حميهم
وها انا حدثتكم فلتفقهوا كلامي
رسالتى مكتوبة بدمعه الايتام
4- هكذا ينطق (الدمع) كلماته ،ويقتضي تحليل (مداد )نصوصه في تلك الثنائية التفكيكية ،وهو يسيل من مقلتي ذلك اليتيم ، فالدموع مداد تحولت الى كلمات نطق بها صوت العقل : فعندما يقول الطفل اليتيم ((أن لم ترونى حيا ساكتب رثائي
والحبر دمعه تسيل قطره من خدي)).
وهكذا فاذا كانت البنيوية كما يراها الفيلسوف اللغوي الروسي رومان جاكبسون تستخدم اللغة كاداة تعليل لدراسة علاقات التعارض والتكافؤ ،سواء صوتًا او كتابة كبنية لتشكل نظاما من الاشارات التي تكونها ، فان الفرق بين البنيوية والتفكيكية ينتهي الى مكامن الفرق في ماهية المعرفة لدى كل جانب فبالنسبة إلى التفكيكين يرون المعرفة على أنها أمر حسي ومعنوي يتم إدراكه من قبل القارئ والمُتلقي للمعلومة، ويتم تحليلها بناءً على تجاربه الخاصة وثقافته، أما بالنسبة إلى البنيويين فيرون المعرفة على أنها أمر مادي يمكن تحليله وضبطه بقواعد يتقبلها العقل ويعمل على كشف حقيقتها.�ولكن تبقى التفكيكية المشرقية من جانبنا عند تناول موضوع (( الدموع)) كما يقول حسين الذكر في اظهار قوة الاختلاف بين الكلام والنص المحسوس الذي مداده قطرات دمع هي تجسيد لما بعد البنيوية post structuralism�حقا انها الحياة في اوجه العاطفة والحكمة والجموح والسكون والحب والكراهية وهي تسير وتتبدل في كل لحظة الى مستوى مختلف يحمل ثناءيات الاختلاف كلها وبلون اخر وطعم اخر وشخوص اختفت وشخوص ظهرت على مسرح التعاطي بين البشر ولكن جميع تلك الاحداث تلخصها قطرات (الدمع )وهي (مداد ) لكلمات نصوص تقتضي التفكيك لمعرفة عالم اخر لم يحتمله النطق او يوضحه مثلما يجسده مداد الكلمات وهي الدموع التي تحمل حقائق لحياة الصامته كالسيل الناطق …انها قصة الانسان في التبدل والتطور والتقدم والتقهقر حتى تضع الحياة اوزارها وتلخصها فوهات العقل الناطق لتنطلق منها (دمعة ) يقتضي تفكيك بنيات (مدادها )
انها الدمعة ، فهي (مداد صوت العقل ) الذي يخط حقيقة ذلك الصوت بنصوص ويفكك منطقها ويتحرى عوالمها.
Discussion about this post