قراءة إيقاعية لنص ( العازف ) للكاتب الأستاذ/ سيف بدوي/
Saif Badawe
_____________________________________________
من العنوان يتبادر إلى الذهن مباشرة نوع ما من الإيقاع ( صوتي أو حركي ) / (سيميائي أو تمثيلي) ..
وبقراءة النص قراءة بعيدة عن العنوان وبمعنى آخر بتجاهل العنوان ، لايلبث القارئ أن يفطن إلى موسيقا بين السطور ، وهذا فعلا ماشدني وأنا أقرأ النص …
موسيقا أغلبها حركية تتسارع وتتباطئ بتسارع وتباطؤ الحدث ، وصراحة تذكرت الموسيقا الجنائزية ل ( موتسارت) ومن ثم بعد إعادة النص بريتم بطيء تذكرت ماقرأته منذ مدة عن الموسيقا الجنائزية ل ( هاينريش شوتز ) الألماني وقد كتبها حينها لجنازة الأمير ( هاينشريش فون رويس) حيث حدد الأمير نصوصاً معينة لتنقش على قبره وتلحن للعرض في جنازته ، فيه تدفق لحني وكلمات تأملية لمطربين “صولو ” يغنيه الكورس ثم يصل لأوجه في لحن قوي بشكل غير عادي وحيث يقاطع الجوقة الفرقة الأساسية بكلمات ( مبارك الموتى الذين يموتون …)
-الإيقاع أو الريتم : هو الجريان أو التدفق كما صنف في الكتب اليونانية …
– الإيقاع سينمائياً: هو الشعور العام لدى المتفرج بالحركة داخل الفيلم نتيجة اختلاف المعطيات من لقطة لأخرى بينما ( pace/ درجة السرعة فيه…)
– الإيقاع في الشعر : هو التناوب المتكرر للعناصر القوية في تدفق الصوت والصمت في الجمل….
-وما أكثر التعريفات والإيقاعات في أغلب مناحي الحياة ..
—————
وبالعودة للنص الحركي هنا …
أنا بمقاربة بسيطة قد وضعته مع الموسيقا الجنائزية …
حركةً وإيقاعاً وتمثيلاً وتطبيقاً…
السارد هنا هو الممثل ( الميت منذ أعوام والذي يحاول إعطاء صفة للموت لتكتمل السيمفونية وتتصاعد لتصل لحدود اشتراك الجوقة كلها في أداء اللحن الجنائزي )
بمعنى هو فاقد للأمل / لمعنى الوجود/ لأقل مقومات الحياة من عناصر أساسية وربما القليل من الرفاهية /
لكنه يحتاج لصافرة النهاية وهذه تأخرت حتى آخر قطعة نقدية …
منبع الحركة أو الاصوات في النص:
——————————————
( التراجع في الاستهلال أمام العربة / عد النقود وطرطقة المعدن وهو أقرب للإيقاع / عد السجائر .. وأخيراً الرقصة الأخيرة الحركية عند إعداد القهوة وأشعال السجائر / وبعدها صافرة النهاية وفتح أنبوبة الغاز لتنتهي السيمفونية بالتصفيق والحداد معا…
وكأنها الكلمات المكتوبة على قبر الأمير والتي ألفت وكتبت لتخلد وتلحن من قبل “شوتز “..
إذا فالإيقاع / العزف / النبض …الذي سينتهي مع القرار النهائي وإسدال الستار …
نص مميز متحرك
دام الإبداع
———————-
النص:
العازف
——–
كادت أن تدهسه ..
… … لقد قفز من أمامها كبرغوث .. تلك القفزة التي أعادت له الفرصة في استكمال الحياة مثلما أعادت إليه ذكرى فتوة ابلاها العمر وانتهكتها لحظات الخسران المتوالية ..
كانت السيارة قد ابتعدت نحو نهاية الطريق حين نظر إليها بالتفاتة الناجي .. وعلى هذا الرصيف الواطئ صعد كمن يصعد تلا منحدرا .. غير أنه صعد ، اخرج من جيبه جنيهات من المعدن بحرص .. احصاها : جنيه .. اثنين .. ثلاااث .. ونصف .. وربع فضى لامع ، وقف مترددا .. فهي لم تكمل الخمسة جنيهات .. ولكنه اغمض عينيه كطفل وخطي خطوتين ليقف أمام الرجل ويضع في يده كامل ثروته قائلا : ( خمس سجاير ) !
رفع الرجل كفه وأماله قليلا فتراصت العملات في يده في خط مستقيم منتظم .. ثم رفع عينيه نحوه .. وما لبث أن اسقطها جميعا في علبه الحلوى الشامية فاختلطت بما بها من عملات مستديرة منطفئة كالحة ..ثم مد أصابعه نحوه ممسكة بخمس سجائر .
خطوات قليلة ويصل مدخل البيت .. كان خلالها يطرد فكرة أن يشعل إحداهن ،كمن يطرد ذبابة لحوحة متثاقلة .. لقد نجح في أن يصل دون أن يشعلها .. هاهو وعاء البن .. لا بأس .. فيه أثر من البن ولكنه يكفى لصنع ثلث هذا الفنجان .. لا بأس .. هاهي السجائر .. وبعد قليل سترافقها القهوة المرة ..
أوقف يده قبل أن يلقى بما تبقى في الفنجان من بقايا البن المتيبسة في القعر .. إذ راودته فكرة أن يضع هذا على ذاك ليمتلئ الفنجان .. وساعتها يستطيع أن يشرب سيجارتين معا . وهو ما كان .. أطفأ الموقد ثم حمل الفنجان بكل ما تعلمه من حرص على مدى نصف قرن قضاه على ظهر هذه الحياة .
اذن .. ها هو فنجان القهوة .. وها هي السيجارة .. وها هو عود الثقاب الخشبي .. كادت الحفلة أن تكتمل .. لم يبق سوي أمر اخير ليضمن الا تفسد حفله أي مفسدة مما اعتادها وحفظها .. ولم يفلت منها ولو لمرة واحدة .. لكنه الليلة كان قد قرر أن يوقف هذا الهراء اللزج ..
.. وقف ونظر نظرة عامة على المشهد .. اطمأن إن كل شئ في موضعه تماما .. ثم أدار وجهه نحو موقد الغاز وفتحه .. ثم قفز مسرعا نحو مقعده .. التقط السيجارة .. أشعلها .. وأخذ نفسا هادئا عميقا من تبغها الرخيص .. وأتبعه برشفه من قهوته المرة .
#saif_badawe
Discussion about this post