براعة العنوان بين التعريف والتجهيل
قراءة تأملية
بقلم / محمد البنا
لنص * العازف *
ل / سيف بدوي
…………………
النص
العازف
——–
كادت أن تدهسه ..
… … لقد قفز من أمامها كبرغوث .. تلك القفزة التي أعادت له الفرصة في استكمال الحياة مثلما أعادت إليه ذكرى فتوة ابلاها العمر وانتهكتها لحظات الخسران المتوالية ..
كانت السيارة قد ابتعدت نحو نهاية الطريق حين نظر إليها بالتفاتة الناجي .. وعلى هذا الرصيف الواطئ صعد كمن يصعد تلا منحدرا .. غير أنه صعد ، اخرج من جيبه جنيهات من المعدن بحرص .. احصاها : جنيه .. اثنين .. ثلاااث .. ونصف .. وربع فضى لامع ، وقف مترددا .. فهي لم تكمل الخمسة جنيهات .. ولكنه اغمض عينيه كطفل وخطي خطوتين ليقف أمام الرجل ويضع في يده كامل ثروته قائلا : ( خمس سجاير ) !
رفع الرجل كفه وأماله قليلا فتراصت العملات في يده في خط مستقيم منتظم .. ثم رفع عينيه نحوه .. وما لبث أن اسقطها جميعا في علبه الحلوى الشامية فاختلطت بما بها من عملات مستديرة منطفئة كالحة ..ثم مد أصابعه نحوه ممسكة بخمس سجائر .
خطوات قليلة ويصل مدخل البيت .. كان خلالها يطرد فكرة أن يشعل إحداهن ،كمن يطرد ذبابة لحوحة متثاقلة .. لقد نجح في أن يصل دون أن يشعلها .. هاهو وعاء البن .. لا بأس .. فيه أثر من البن ولكنه يكفى لصنع ثلث هذا الفنجان .. لا بأس .. هاهي السجائر .. وبعد قليل سترافقها القهوة المرة ..
أوقف يده قبل أن يلقى بما تبقى في الفنجان من بقايا البن المتيبسة في القعر .. إذ راودته فكرة أن يضع هذا على ذاك ليمتلئ الفنجان .. وساعتها يستطيع أن يشرب سيجارتين معا . وهو ما كان .. أطفأ الموقد ثم حمل الفنجان بكل ما تعلمه من حرص على مدى نصف قرن قضاه على ظهر هذه الحياة .
اذن .. ها هو فنجان القهوة .. وها هي السيجارة .. وها هو عود الثقاب الخشبي .. كادت الحفلة أن تكتمل .. لم يبق سوي أمر اخير ليضمن الا تفسد حفله أي مفسدة مما اعتادها وحفظها .. ولم يفلت منها ولو لمرة واحدة .. لكنه الليلة كان قد قرر أن يوقف هذا الهراء اللزج ..
.. وقف ونظر نظرة عامة على المشهد .. اطمأن إن كل شئ في موضعه تماما .. ثم أدار وجهه نحو موقد الغاز وفتحه .. ثم قفز مسرعا نحو مقعده .. التقط السيجارة .. أشعلها .. وأخذ نفسا هادئا عميقا من تبغها الرخيص .. وأتبعه برشفه من قهوته المرة .
#saif_badawe
…………..
القراءة
أول ما يطالعنا عند قراءة أي إبداعٍ هو عنوانه، فهو مدخلنا الرئيس للمتن، وأيضًا النافذة التي تسمح بمرور قبس ضوء، أو المصباح الذي يلازمنا ونحن نتحسس مواضع أقدامنا بين فراغات الكلمات والجمل، وهو المساعد الأول في بناء الفكرة المرتجاة إن أحسن المبدع اختياره؛ علا بناؤه، وإن أساء اختياره؛ كان معولًا لتهدم طوابق البناء، وعنوان قصتنا ” العازف ” وكما نرى فأنه عنوانٌ معرف لا تجهيل فيه، وكما أعلم وتعلمون ..أن التعريف تحديدٌ لماهية ما وقصرها عليها وتخصيصه بها فلا إطلاق فيها- الماهية – ولا شمولية.
لنتفحص الآن ماهية اللفظة لغويًا؛ نجد أنها ذات شقين كلاهما لا يمت للآخر بصلة، متباعدين بعد السماء عن الأرض، متمايزين كعذوبة ماء النهر وملوحة ماء البحر فاتفاقهما الحروف ذاتها كما الماء واختلافهما ملوحة وعذوبة.
الشق الأول : العازف..صفة علم يمتهن العزف على آلةٍ موسيقية أو مجازًا العزف على الكلمات.
الشق الثاني : العازف..حال علم يعزف عن أشياء، فهو عزوف والأشياء معزوفٌ عنها أي متروكة ممجوجة مهملة.
والسؤال الملح يا سادتي..أي الشقين يقصد ؟
والإجابة – كما أرى – أنه يقصد كليهما معًا، فهو عازف صفة وحال في آن؛ هكذا قال لي متن نصه.
ولنراه عازفًا يعزف على الكلمات بمهارة؛ ننظر إلى بداية المتن إذ يقفز بخفة من أمام عربةٍ مسرعة، مشهديةٌ حية ناطقة كعزف موسيقى آلة كمان هادئة ثم فجأة يشتد ساعد النغمة فتصعد أعلى درجات السلم الموسيقي في لحظة..هى القفزة في متن قصتنا، ثم تعود للهدوء حيث يتخافت ضجيج السيارة بابتعادها، وملاحقته بنظرته، ويتكرر العزف في عده للنقود المعدنية إذ يتنامى للأذن صوت رنينها، يلاحقه تكرار موسيقي آخر حين يلقيها البائع في علبة حلوى – نغمة أخرى لآلة أخرى، وهكذا يمضي بنا العازف على الكلمات عزفه حتى اللحظات الأخيرة – بعد أن أعد أوركسترا كاملًا مكونًا من فنجان قهوة وسيجارتين وموقد غاز وعود ثقاب- لينهي سيمفونيته بأعلى درجات صخبها متمثلا سرديا تخيليا بانفجار ختامي.
ولنراه عازف يعزف عن أشياء؛ ننظر إلى ..(ذكرى فتوة ابلاها العمر وانتهكتها لحظات الخسران المتوالية .. ) ونتبعه حيث يذهب ليقول (لم يبق سوي أمر اخير ليضمن الا تفسد حفله أي مفسدة مما اعتادها وحفظها )، ثم نرى استمراريته حين يصر قائلًا (قرر أن يوقف هذا الهراء اللزج .. )، ومن ثم ينهي مشهدية عزوفه عن الحياة برشفة قهوة واشعال عود ثقاب لينفث نفسه الأخير من دخان سيجارته.
والآن حان وقت التحدث عن الحقل الدلالي ونجاعته في التدليل لكلا شقيّ العنوان
الشق الأول : تسوقنا كلماته الموظفة بعناية ودقة اختيار إلى استيعاب ما سبق وبينّاه عن ماهية العازف ..( قغز / فرصة / استكمال / صعد / منحدرا / المعدن / عملات / اسقطها / احصاها / مترددا/ نهاية/../../..)
الشق الثاني : تتداعي الكلمات المعبرة عنه بطلاقة طوال المتن السردي..( تدهسه/ انتهكتها / خسارات/ حياة / الواطئ/ مفسدة % أطفأ / أشعل / نهاية /../..).
ملحوظة : إشارة لبعض الهنات البسيطة مثل ( ابلاها…أبلاها // تلا..تلاً // اخرج..أخرج // اغمض..أغمض // ..وباقي الهمزات المماثلة // علبه..علبة // رشفه..رشفة ).
تحية لإبداعك أستاذنا القدير
محمد البنا…القاهرة في ١٨ يونيو ٢٠٢٣
Discussion about this post