قراءة في ( انكفاء ) القصة القصيرة جدا
للكاتب السوري ” محمد يوسف حسن ”
نص قصة ( انكفاء ) ..
جرها عريسها إلى غرفة
نومهما، مختالة بثوب زفافها الأبيض، مشت الهوينى باستحياء، مطرقة الرأس تكللتها حمرة الخجل طوال الحفل، كان كلما اقترب منها ابتعدت، وهي تنتشي وتتخيل وجه أبيها فتنكفئ .
محمد يوسف حسن
قراءتي للقصة :
تكمن جمالية القصة القصيرة جدا من خلال تكثيف فكرتها، واختيار مفرداتها بدقة بالغة، ومن خلال دلالة الرموز التي يريد الكاتب إيصالها للقارئ .
يبدو عنوان قصة ” انكفاء ” مرآةً للنص، وشارحاً له ..الانكفاء والتراجع عن فعل شيء ما، هذا المعنى يقدّمُ خلفيةً واضحةً عن دلالة القصة.
بدأ الكاتب ” محمد يوسف حسن” قصته بالفعل ” جرّها ” وهذا الفعل يوحي بالقسوة والعنف والقوة، فالجرّ وما يوحيه تتابع حروف جَرَرَ، الجيم والراء من التتابع والشدّة، يدّل على عدم رغبة المجرور بالجرّ، تتضحُ الصورة بالفاعل الذي قام بفعل الجر وهو ” عريسها”، إذاً شخصيات القصة ” عريس وعروس”، والمكان ” غرفة نومهما” ، إذا هي ليلة الزفاف أو الدخلة . يصفُ بعدها الكاتب حالة العروس في ليلة العرس، حيث تكون في أبهى صورتها وحلتها، تغترّ بجمالها وبثوبها الأبيض الجميل، اللون الأبيض الذي اختير لدى بعض الشعوب ليكون رمزاً للفرح والسعادة، على حين تختار مجتمعاتٌ أخرى كالهند لون ثوب الزفاف للعروس ملوناً زاهياً بألوان الوردي واللون الأحمر، بينما يكون لون الحداد والحزن لدى الهنود هو اللون الأبيض كرمز للنقاء، وهذا التقليد كان مخصصاً للملكات الحاكمة في فرنسا، فاختارت ماري ملكة اسكتلندا اللون الأبيض كرمز للحزن، على حين اتخذ التايلانديون اللون الأرجواني لوناً للحداد، واستخدم المصريون عادة الذهب أو اللون الأصفر لمن وافتهم المنية، ولم يكن هذا مجرد إشادة بإله الشمس رع، بل أيضاً لأنّ الذهب غير قابل للتلف ، ويرمز إلى الآخرة .
إذاً اللون الأبيض هو السائد في معظم بلاد الشرق والبلاد العربية كلونٍ للفرح والسعادة، وهذا اللون ماثل في معتقدات العرب القدماء، وقد فضّلوه على اللون الأسود؛ رمز الموت والظلام والحزن والليل والغراب والقبر. حتى القرآن الكريم أشار لذلك ” وإذا بُشّر أحدهم بالأنثى اسودّ وجهه وهو كظيم ” ، ” يوم تسوّد وجوه وتبيّض وجوه “، فاللون الأبيض عند العرب كان رمزاً للنور والضياء والخير والسعادة والصفاء والنقاء .
أما الصفة الثانية للفتاة العروس التي وصفها بها الكاتب فهي صفة الحياء، ” مشت الهوينى باستحياء “، وتلك أخلاق الفتيات العربيات، صفة الحياء والخجل، وإن كانت لفظة حياء تقال للرجل، ولفظة الخجل تُقال للمرأة، فكلتاهما تصبان في قالب الأنوثة الجميلة، المشي بهدوء واتزان ، لا بتسرع وخفة واضطراب، ويقال في الأمثال : ” في التأني السلامة، وفي العجلة الندامة “، هذا مفهوم الهوينى أو التأني، والحياء هو تلك الصفة الرائعة التي تميّز الفتاة، والتي تفاضل بها أقرانها من الفتيات الأخريات … ثم صفة الخجل، ” تكللتها حمرة الخجل طوال الحفل “، قد يبدو للقارئ أنّ الكاتب كرّر كلمة الخجل، لكنّه في المرة الأولى ذكر كلمة استحياء، والحياء فيه جمالية ورونق للفتاة، وللإنسان بشكل عام ..أما الخجل فهو صفة رديفة بالمعنى لكلمة استحياء، مع اختلاف بسيط أنّ الخجل قد يكون حالة مرضيةً تمنع عن الإنسان اختلاطه بالآخرين على الشكل السليم، أو تعامله معهم . كما تسبغه حالة من الانعزال والانطواء السلبي، فالخجل يبدو كالحاجز المرتفع الذي يمنع التقدم والتطور” قل ربي لا يتعلم اثنان مستحٍ أو متكبر “، وخجل الفتاة العروس ،هنا، طيلة الحفل ربما يكون نابعا عن أنّ العريس أكبر منها سناً، لذلك كانت كلما اقترب منها ابتعدت، فابتعادها قد يكون نابعاً من إجبارها على الارتباط به ” جرّها ” أو لكبره في السنّ.
ثم هذا التأرجح في وصف مشاعر العروس، كانت تنتشي فرحةً مسرورةً عندما تتخيل وجه والدها، قدوتها الأولى في الحياة، ” كل فتاة بأبيها معجبة “، لكنها لدى اصطدامها بالواقع الحقيقي ورؤيتها وجه عريسها، تنكفئ وتبتعد عنه، هل انكفاؤها بسبب أنٔ لا شبيه لأبيها أبداً ؟؟ .. الفتاة في واقعنا تبحث عن رجل ترى فيه صورة والدها وصفاته التي تحبها، من طيبة وكرمٍ وحبّ وحنانٍ ومروءةٍ واحتواء.. لكنها عبثاً من غير جدوى تحاول إيجاد فتى أحلامها، أو رجل أحلامها.
لن يكون هناك رجلٌ شبيهٌ بوالدها، لذلك فضّلت الانكفاء والابتعاد، لاتريد تلك الحياة المناقضة لحياتها في بيت أسرتها حيث والدها الماثل في مخيلتها أبداً؛ الجبل الثابت، والبحر المعطاء، والامتداد اللامتناهي … لم تجد العروس في عريسها صورة والدها التي تحبّ، ففضّلت الانكفاء .. هذا ما عبّر عنه فرويد في نظرياته بعلم النفس، عقدة الكترا وتعلقها بالأب، الأب القدوة والمثل، وقد تكون حال آلاف الفتيات في مجتمعاتنا الشرقية والعربية خاصة، حال تلك الفتاة العروس في قصة الكاتب ” محمد يوسف حسن “، والتي لم يذكر لها اسما محدّداً، فالفتاة العروس هي رمز لكل فتاة متعلقة بأبيها، وتبحث عن شبيهه ولا تجده، فتفضّل العيش وحيدة سعيدة بما حملته من ذكرياتها السابقة .
قصة قصيرة معبرة جداً عن واقع حياتي معاش للمرأة، استطاع الكاتب بحرفية كبيرة وبكلمات محدودة دقيقة وصفه والتعبير عنه، كما استطاع الولوج إلى أعماق صفات المرأة وتوصيف حالتها النفسية في ليلة زفافها، موظفاً الرموز والدلالات اللغوية والتراثية التي أثرت القصة وأغنتها .
بقلم رولا علي سلوم
Discussion about this post