الكلام في بريق الصّمت أو عندما يفصح الضّد عن ضدّه
قراءة في العتبات ا
بريق الصّمت رواية حديثة ومن وجوه الحداثة في الرّواية أن تتعدّد الأصوات فيها ولكن عن أيّ أصوات نتحدّث في رواية قد نعدم فيها صوتا واحدا إذ أنّها تحتفي بالصّمت وقد تنظّر له وفي حضور الصّمت تخرس الأصوات وينضب معين الكلام.
ولأنّنا لم نكن من أهل ” خذ هذا على الحساب وقد أقرأ الكتاب” فإنّنا لن نحكم على الرّواية من عنوانها.
لن ندّعي أنّها رواية متناقضة تدّعي التّعدّد الصوتيّ وهي الّتي تحتفي بالصّمت. بل سنبحث في حيثيّات الصّمت، فقد يكون أشدّ بلاغة من الكلام، يلوذ به النّبهاء ، يختبئون خلفه،ليقولوا لنا الكثير.
ولنفكّ مغالق الصّمت ونفتضّ أسراره سنلج عالم الرّواية ولأنّ ولوج عالم الرّوايات كولوج البيوت يكون من عتباتها فإنّنا سنقف على عتبات الرّواية عسانا نستقي بعض أخبارها ونفكّ بعض ألغازها. ألم يقل سعيد يقطين “أخبار الدّار على باب الدّار”.
أولى العتبات كان غلاف الكتاب وهو الّذي يلفت انتباهنا أوّلا بمجرّد أخذنا للكتاب
غلاف الرّواية تضمّن صورة لم تكن منتقاة انتقاء عشوائيّا من الصّور الكثيرة المكدّسة في أرجاء الشّبكة العنكبوتيّة ولا كانت صورة فوتوشوبيّة عبثت بها هذه البرمجيّة الوافدة الّتي قد تخفي العيوب وتجمّل العاهات ولكنّها تقتل روح الصّور كفعل موادّ التّجميل في نسائنا.. بل كانت لوحة فنّيّة بأنامل سارّة الفنّانة التّشكيليّة
سارة رسمت هذه الصّورة تعبيرا عن الصّمت فليست الصّورة سوى إشارة إلى تلك الفئة من النّاس الّذين ظلمتهم الحياة فخلقوا صامتين لا حول ولا قوّة لهم فهم محرومون من التّواصل مع من حولهم.
لكن هل كانت الصّورة فعلا تعبّر عن الصّمت ألم يُقلْ “إنّ الصّورة تغنيك عن ألف كلمة”. الصّورةُ قالت الكثير هنا عن سارّة الرّسّامة الّتي آمنت بأروى تلك تثرثر يداها ويتكلّم عقلها على صمتها استمدّت من تجربة هذه المريدة معنى أن تقاتل في سبيل فكرة وإذا كانت أروى تقول على الورق وتتكلّم بالقلم فإنّ سارّة قد قالت بالفرشاة والمحمل فأحسنت القول.
فهؤلاء الصّامتون صمدوا أمام ظلم الحياة إذ خانتهم لغة الحروف والكلمات فخلقوا بديلا لهم لغة الإشارات والحركات وفي كلّ إشارة آلاف الكلمات وفي كلّ حركة آلاف الجمل.
لون الغلاف كان لونا أبيض وأسود واللّونان يحيلاننا على السّينما الصّامتة حيث كانت الكاميرا لاتعرف إلاّ التقاط الإشارات والحركات أمّا الصّوت فمقطوع. بل إنّ اللّون الأسود هو عنوان للحزن وكان الحزن صموتا.بل إنّ أشدّ أنواع الحزن ذلك الذي يقترن بالصّمت فنحن نقف صامتين مصدومين أمام هزائمنا الشّديدة في الحياة ونقف صامتين أمام قبور من نحبّ منهارين لشدّة فاجعة الموت.
بيد أنّ اللّون الأسود الصّامت يتدرّج شيئا فشيئا حتّى يغدو أبيض ناصعا. وكان الأبيض لون الفرح الثّرثار.. لون الثّلج الّذي تلبسه الطّبيعة فتخبر عن حكايات كثيرة حكايات الخصب والحياة.. لون الفستان الّذي ترتديه العروس فيحكي عن جمال النّهايات في قصص الحبّ.
عنوان الكتاب: ويعتبره جميل حمداوي المدخل الرّئيسيّ للعمارة النّصّيّة بل إنّه إضاءة بارعة وغامضة وسؤال إشكاليّ يتكفّل النّصّ بالإجابة عنه
الصّمت كان حاضرا بكلّ بهرجه في العنوان فالكاتبة أضافت للصّمت بريقا يجعله متوهّجا يعشي الأبصار وتنضاف إلى غياب حاسّة السّمع غياب حاسّة البصر.
لكنّ الصّمت إذا اقترن بالبريق قد يقدّم وجها آخر متفرّدا للحكاية فالصّامتون الّذين لا يقنعون بصمتهم و الّذين لا يلعبون دور الضّحيّة بل يتحدّون واقعهم ويتجاوزون عاهتهم ليقولوا بأفعالهم ما خطّطوا له في أذهانهم و الفعل نافذ بل أشدّ نفاذا من القول لو تعلمون
ألم تتحدّ البطلة صمتها وثرثرت على الورق حتّى فاض المداد ألم تتصالح مع هويّتها وتردّ الاعتبار لنفسها و أسرتها ألم تهجر حبيبا مازال حبّه يعرّش في قلبها تعريشا؟ بل إنّ اللّون الأحمر الّذي اختارته الكاتبة للعنوان كان عنوانا للثّورة والثّورة كانت في منطلقها كلمات ترتفع بها حناجر المظلومين و تتفجّر كقنابل موقوتة في وجه الظّالمين.
في داخل الكتاب صور خمسة
صورة أولى تضمّنت رسم امرأة يلتفّ حول عنقها ثعبانا فكأنّه يخنقها ويمنع عنها الكلام و خلفها ترتفع أصابع يد خمسة تعني أن توقّف واصمت عن الكلام
في الصورة أيضا توقيع أروى الصّمّاء حجّة دامغة على الصّمت يعرّش في هذه اللّوحة تعريشا توقيع الصّمت على صور الكتاب كان بمثابة تراسل مع توقيع حنظلة الصبيّ على رسومات ناجي العليّ الرّسّام الفلسطينيّ وبين التّوقيعين تآلف و تخالف فأمّا التّآلف فمردّه أنّ هذه الصّور تقرأ الواقع وتنقده شأنها شأن الكلمة أمّا التّخالف فمردّه ردّة الفعل فإن كان حنظلة قد قرّر أن يصمت و يعقد ذراعيه و يدير وجهه للقارئ غضبا من تهاون العرب بقضيّة وطنه ومات ناجي العليّ ومازال حنظلة يدير ظهره فإنّ بطلة سارّة على المحمل التّشكيليّ وبطلة منى على الورق قرّرت أن لا تدير ظهرها بل واجهت مجتمعها بوجه مكشوف بل تحدّت هذا المجتمع الّذي يتنمّر عليها وهي الصّمّاء
صوت المرأة متعدّد في عتبات الصّور كما في الرّواية فهي أروى الصّمّاء وحياة الّتي خانها زوجها و أمّ آدم الّتي تغار على ابنها من حبيبته و نجلاء الّتي أحبّت فرميت بخمسين ألف حجر وهي فلسطين الطّفلة المحروقة الأصابع فكأنّ التعدّد الصّوتيّ انعكس على الصّورة ألم نقل إنّنا بإزاء رواية بوليفونيّة.
الإهداء
من عتبات النّصّ الإهداء وإهداء هذه الرّواية قد يوحي لنا بأنّه يكرّس حكاية الصّمت فالكاتبة أهدت كتابها لأب رحل والرّاحلون كانوا دائما صامتين
لكن أليس الحديث عن هؤلاء الرّاحلين يبعث ذكراهم في نفوسنا من جديد والذّكرى ثرثرة تقرع كناقوس يبدّد صمت النّسيان
المقدّمة
يقول جيرار جينات أنّها تختزل رؤية المؤلّف وموقفه و مشروعه من الكتاب
والأستاذ حمد الحاجّي قدّم النّصّ و اعتبر أنّه نصّ صامت يكتفي بالايماءة والإشارة
” أنا أشير إذن أنا موجود”
فالبطلة كانت الرّاوية وكانت أيضا خرساء
بل أشار حتّى إلى الصّمت الّذي تجلّى شكليّا في الرّواية من خلال الفراغات
Discussion about this post