كتابة الصمت وشعرية رواية الصوت
قراءة في رواية “بريق الصمت” لمنى أحمد البريكي
د. شفيع بالزين
إن الرواية باعتبارها عملا سرديا تخييليا لا تُقرأ في علاقة بالواقع بل في علاقة بالأدب أي تقرأ باعتبارها تناصا منفتحا وحواريا وتعدديا لا باعتبارها نصا منغلقا وأحاديا إذ الرواية تكتب في علاقة بنصوص أخرى ووفق علاقة تناصية أو حوارية. ومن هذا المنظور فإن “بريق الصمت” لمنى البريكي لئن كانت رواية الصمت التي تعالج قضية الإنسان المصاب بالصمم أو المحروم من السمع (والنطق) أو “ذوي الاحتياجات الخاصة” فإن هذا الموضوع لا يهمنا باعتباره حالة اجتماعية أو ظاهرة واقعية تشمل قطاعا من المجتمع أو باعتباره وضعا إنسانيا مخصوصا علاقته بالآخر وبالعالم مختلفة (العزلة) بقدر ما يهمنا باعتباره تيمة غير مألوفة من تيمات الرواية المعاصرة تفرض بسبب خصوصيتها وصعوبتها رهانات وخصوصيات في الكتابة من جهة وتفرض إكراهات وتحديات من جهة أخرى. ولا ننكر أن هناك من قارب هذه الرواية من هذه الزاوية لكنه أرجع تفرد الرواية إلى عوامل أخرى منها عوامل فنية جمالية (الحوارية- تعدد الأصوات- القطع مع الرواية الكلاسيكية) أو عوامل مضمونية فكرية (الانتصار للفرح والسّعادة الرّوحية في تحدّ للسّلطة- خوالج المرأة الدّفينة وهي تصارع لإثبات ذاتها- كفاحها في إثبات هويّة مسلوبة). غير أن هذه السمات في نظرنا وإن ثبتت صحتها ليست هي ما يصنع فرادة الرواية وأهميتها ولذلك سنتناول الرواية لا في علاقة بالواقع ولا في علاقة بالرواية الكلاسيكية بل سنقرؤها في علاقة بالروايات والمراجع التي تناولت هذه التيمة ويحتمل أن الكاتبة اطلعت عليها وتأثرت بها أو استلهمت منها وقد تكون حاولت تغييبها والتحرر من سلطتها لكنها في جميع الأحوال أقامت معها ضرورة علاقة تناص معلنة واعية أو ضمنية غير مقصودة. والسؤال المطروح: إلى أي مدى وفقت الكاتبة في إبداع عمل روائي غير مسبوق في الرواية العربية من جهة وتحدي الكتابات السابقة في هذا المجال بالتقاطع أو التناص معها مع تحقيق التفرد والخصوصية اللذين هما شرط الإبداع والإقناع من جهة أخرى؟
أما النصوص التي يبدو أن رواية “بريق الصمت” كتبت من خلال علاقة تقاطع وتناص معها فهي “صرخة النورس” لديلابوري و”عالم الصمت” لماكس بيكارد وخاصة “يدا أبي” لمايرون أولبرغ الذي كان حاضرا أكثر من غيره وفاعلا بأشكال مختلفة في هذه الرواية رغم أنه سيرة ذاتية و”بريق الصمت” رواية. ويتجلى التناص في مستويات عديدة منها العتبات (العنوان- الصورة- النصوص المصدرة- الفصول والعناوين الفرعية) والشخصيات المتقابلة على أساس انتمائها إلى عالم الصمم أو إلى عالم السمع، والسرد والحوار الإيمائيان أو الإشاريان المهيمنان على السرد القولي أو الكلامي، وثنائية القطيعة والتواصل، وثنائية الخضوع والمقاومة، وإدانة عالم السمع والمجتمع والسلطة والاحتجاج على عزلة الأصم، والكتابة من منظور التفاؤل والأمل وقصة الصراع والإرادة الإنسانية. ووفق هذه المرجعية التناصية يجوز لنا أن نقرأ “بريق الصمت” باعتبارها رواية الصمت/الصوت أي تسريدا لعالم الصمت وهاجس الصوت الذي يخيم على الشخصية الرئيسية (أروى) التي تعاني من الصمم. ولدينا من القرائن ما يكفي لتسويغ هذه القراءة سواء منها قرائن من خارج الرواية أو من داخلها. أما القرائن المتناصية الخارجية فتتمثل في المرجعيات التي أشرنا إليها، وفي قراءات النقاد مثلما نجده في قراءة الطاهر مشّي التي يتحدث فيها عن “مساءلة الصّمت” ويرى أن “الصّمت ضاجّ بأصوات المتعبين” وأن “أروى التّونسية الفلسطينيّة اتّخذت الصّمت سلاحا” وفي مقدمة حمد حاجي للرواية التي يتحدث فيها عن “الحوراية بالصمت” و”رواية الصمم” و”الصمت الاختياري” و”الصمت الاضطراري”. وأما القرائن النصية الداخلية فتتمثل خاصة في العتبات عنوانا وصورة وشواهد وتصديرا، وفي كثافة لغة الإشارة والسرد الإشاري الذي يسند عمل القول أو اللاقول إلى اليدين أو العينين لا إلى الشفتين (سألتها يوما يداي بإلحاح– استدركت بيدين- صمت مفاجئ طبق على يدي- سألتني عيناها- غمغمت يداي بالقول-غرقت يداي الفصيحتان في سديم الصمت…). ويتجلى الصمت في الرواية في شكلين أساسيين شكل حرفي صريح أو حقيقي وشكل مجازي رمزي. والصمت الحقيقي نفسه نوعان: اضطراري ناتج عن الصمم واختياري كقول أروى: “لماذا اتخذت الصمت خِلا ودودا” وقولها: “لجأت إلى الصمت معطفا يسور روحي” أو “كان صمام أمان اتخذته بلا وعي”. وأما الصمت المجازي فيتخذ أشكالا متنوعة يتجلى حينا في حالة العزلة والوحدة والاغتراب التي تختزلها عبارة “ذاتي المغتربة”، ويتبدى حينا آخر في وضع الهامشية وصعوبة الاندماج حيث تقول: “هل جربت معنى العيش على هامش حياة لم تتمنها؟ أسيرة زنزانة وطن كل ما فيه يرفضني”، وتتحدث عن صعوبة الاندماج في “مجتمع الأسوياء” الذي تقابله بعالمها باعتباره “عالم الصمت”. وقريبا من هذا الوضع، تضيف إليه الساردة-البطلة ما تعانيه من الميز الاجتماعي الذي يتعرض له الصُّمّ حيث تقول: “نحن مختلفون نعم لكن اختلافنا ليس نقصا”. ويزداد وضع المرأة الصماء سوءا بما تتعرض له من سوء المعاملة والإهمال حيث تقول: “ماذا سأفعل ليتقبلوا وجودي بينهم؟ خيط رفيع يشدني إليهم… ما أشد قربي منهم وما أبعدهم عني”. ولكن رواية “بريق الصمت” باعتبارها أنموذجا لرواية الصمت لا تقتصر على كتابة الصمت وسرد عالم البطلة-الصماء باعتباره عالم الصمت والعزلة الذي يفرض على الذات الانسحاب من العالم ويدفعها إلى الاستسلام والانطواء، وإنما هي رواية تنطلق من الصمت لتكشف عن عالم صاخب مليء بالحركة ضاج بالأصوات وهو ما يعني أن رواية الصمت هي في جوهرها رواية الصوت، وأن عالم الأصم ليس عالما صامتا جامدا بل هو عالم ضاج مفعم بالحركة والحياة وليس عالم الاستسلام والتشاؤم وإنما هو عالم التفاؤل والكفاح والمقاومة وصرخة احتجاج على عالم السمع الأصم. وهو ما يعني كذلك- من الناحية السردية- أن لبطلة رواية “بريق الصمت” برنامجا سرديا اتصاليا مخصوصا يتمثل في “كسر جدار الصمت” وتحقيق التواصل مع العالم والاتصال بالآخر. ومثلما اتخذ صمت الصماء أشكالا عديدة تجلى صوت المقاومة بداخلها في أشكال أكثر تنوعا. فقد ظهر حينا في صورة الاحتجاج والتنديد حيث تتخذ اليدان بدل الشفتين هيئات مختلفة للتعبير عن الرفض والاحتجاج كقولها: “ارتجفت يداي محتجة” وقولها: “انخرطت في إيماءات منددة بما بدر منه” وقولها: “احتجت يداي بإشارات غاضبة متدفقة كسيل عاصف”. وفي مواجهة الصمم تلجأ البطلة إلى الاستعانة بالذاكرة السمعية وتتعلم القراءة ولغة الإشارات وتج في الكتابة بواسطة الحاسوب “مؤنسا وأنيسا” فتلجأ إليها “رديفا للمقاومة وإعلاء لصوت كتمته سنين طوالا احتجاجا ورفضا” بل “كانت الكتابة حياة فهمت بها أن الصمت رداء شفاف لا يخفي عري الكلمات ونصاعة الحقيقة” وانتهى ذلك إلى مشروع كتاب في شكل “مذكرات زمن أخرس”. وفضلا عن ذلك تستعين البطلة الصماء بالوسائل العلمية وتستفيد من التقدم العلمي المتحقق في مجال الصمم فتحاول أن تستفيد من الدكتورة التي أجرت بحثا يمكّن الأصم من استعادة قوة السمع، وتشتغل في شركة توفر “خدمات مبتكرة تسهل على الصم حياتهم الاجتماعية وتمكنهم من التواصل مع عالم الناطقين في عدة مجالات” كما تشتغل على بحث تكنولوجي حول البرمجيات المهتمة بمساعدة الصم والبكم لإنشاء برمجية ينزلونها على هواتفهم تساعدهم على الاندماج في محيطهم وعلى التحصيل الدراسي، إضافة إلى عملها في قناة يوتيوب لتقديم دروس وتراجم بلغة الإشارة لفائدة الصم والبكم. وهكذا نجحت البطلة تدريجيا في كسر جدار الصمت والعزلة وتحقيق التواصل مع الآخر والعالم حيث تقول: “بدأ الجدار الفاصل بيني وبين الآخرين يتلاشى” ولكن الأهم من ذلك أنها نجحت في التحرر من عقدة الصمم وتحقيق التصالح مع الذات والتعامل مع الصمم لا باعتباره عاهة ونقصا بل باعتباره خصوصية وعلاقة مختلفة مع الذات والآخر والعالم. تقول: “سأبقى كما أنا… ما الذي سيتغير إن أنا تكلمت؟”. ولعل علاقتها بابنتيها خير شاهد على المصالحة مع الذات فمن جهة لم يكن الصمم حائلا بينها وبين صغيرتيها. ونتيجة للاختبار الرئيسي- بمفهوم غريماس- تنتهي الرواية باختبار تقويمي تُكافَأ فيها البطلة على كفاحها لكسر جدار الصمت بأن تنجب ابنتين ناطقتين وتحقق حلمها بأن تصبح أما ناطقة “فانكسرت أغلال زنزانة حبست فيها صوتها طوعا”. ولا ننكر أن لنا مآخذ على هذه الرواية منها ما يتعلق بالبطلة التي لا يخلو بناء شخصيتها من تناقض وتهافت فمع المكانة التي يشغلها الحب في حياتها وتعلقها الشديد بحبيبها فإنها تهجره أولا لمجرد أن والدته الفرنسية تعاملت معها بطريقة عنصرية في أول زيارة لها فآثرت الكرامة على الحب، ثم تتخلى عنه عند أول لقاء معه بعد غياب طويل بعد أن تكتشف أنه فقد بصره، وهي التي عانت طويلا من سوء معاملة الناس لها بسبب فقدان السمع. ومن هذه المآخذ كذلك التنازع السردي بين شخصيتي حياة وأروى، واحتلال شخصية حياة والدة أروى بالرعاية والتنشئة مساحة هامة من الرواية مما جعل تيمة الصمم أو قضية الصمت والصوت تفقد شيئا من أهميتها بسبب حضور قضايا أخرى تطرحها شخصية حياة لا صلة لها بقضية الصمم. ومن المآخذ التي تقلص من شعرية الرواية كثافة حضور الخطاب التعليمي والسياسي المباشر على لسان الشخصية مما يجعل القضايا مطروحة على نحو صريح ومباشر ويتحول الخطاب الروائي من خطاب سردي تخييلي إلى خطاب وعظي أخلاقي وهو ما يبرر استحضار القارئ وتوجيه خطاب مباشر له مثل قول الساردة: “ألم أقل لك أيها القارئ أن الكتابة ترحل بي؟” وقولها: “إذا كان وقتك يسمح بنصف ساعة فقط قصصت عليك حادثة”. ولكن هذه المآخذ لا يمكن أن تقلل من قيمة الرواية ولا تجعلنا ننكر أنها كتابة جديدة بل مغامرة تتجرأ على موضوع مسكوت عنه أو مهمل في الرواية العربية من جهة وهو موضوع الصمم وشخصية فاقد السمع. ومع أن الكاتبة لم تتعمق أو تتوغل جيدا أو بما يكفي في عالم الأصم النفسي والذهني والاجتماعي واللغوي للنفاذ إلى تفاصيل حياته وتمثله للعالم وتواصله مع المجتمع أو في عالم الصمت والنطق والإشارة، فإن “بريق الصمت” تبقى عملا روائيا متميزا وغير مسبوق بما تطرحه من قضايا وما تشكله من شخصيات وما تتوسل به من خطاب سردي مخصوص بمرجعياته وسجلاته واستعاراته ليتناسب مع عالم الأصم باعتباره عالما محروما من الكلام والصوت. ولعل ما يزيد الرواية طرافة وعمقا المقاربة التقاطعية التعددية باعتبار الشخصية الصماء هي شخصية المرأة التونسية وهو ما يسمح للكاتبة بأن تدرج قضية الصمم ضمن إطار أوسع لتعالج قضية التمييز في بعدها الشامل بالتقاطع بين التمييز ضد المرأة ( النسوي- الجندري) والتمييز ضد الأصم (الفئوي) والتمييز ضد العرب (العنصري).
Discussion about this post