وللأدب السردي هندسيات أخرى
قراءة تحليلية بقلم
الأديبة المغربية اللامعة/ رجاء بقالي Rajae Bekkali
لنص * المسرح الكبير *
للأديب المصري/ محمد البنا
…………….
النص
المسرح الكبير
………..
أجلس في زاوية بعيدة وحيدًا إلى طاولتي، أعاني من طوفان عواطفٍ حارة يجتاحني، تحمله رياحٌ خفيفة يلهب جلدي، أرمي ببصري يمينًا؛ يرتد خاسئا، فلا أثر لنسمة باردة تلوح في الأفق على اتساعه اللانهائي، ألتفت يسارًا؛ تعود عيناي محملتين بذلك اللاشيء المسمى فراغا، وأمامي- ليس بيني وبينها سوى آلافٍ من الطاولات الفارغة قلوبها- تجلس فاردةً ذراعيها البضتين بطول مسندي مقعدها، تختلس النظر لي بين فينةٍ وأخرى، أرخيت مجلةً كنت أتصفحها – بعد أن أغلقتها- جانبا، وفككت المحبسين العلويين من أزرار قميصي؛ فوجئتُ بنظرتها تعبر المسافات الزمنية بيننا في خطى متلهفة وتهمس لي
” سيدتي ترجوك..إن كنت تريد السباحة؛ لا تذهب لمسبحٍ آخر “.
محمد البنا….القاهرة في ٢٠١٤
معدلة بتاريخ ١٧ مايو ٢٠٢٣
…………….
القراءة
هندسة الروح تتعالى على هندسة المكان و الزمان ،
ما لا نراه بالبصر قد نسمعه روحا، فنراه….
و قد يكون هو الموجود يقينا..
هذا ما يمكننا كقراء ان نستشفه من نص يقفز فيه السرد خارج خطية الزمن و مادية المكان ملغيا الحدود بين المتناقضات،
في نوع من التناول الرؤيوي، الذي يتماشى و فيزياء الكم التي لا تؤمن بالتناقض ،بل بالتٱلف بين المتناقضات، في وحدة من تناغم أو تراكب مثيرة جوهرها اللامرئي.
البطل يجلس وحيدا في زاوية بعيدة إلى طاولته،
وعيه منصبٌّ على ذاته، على معاناته من طوفان عواطف حارة تجتاحه، يلهب جسده، تحمله رياح خفيفة..
تضاد أساسي لا تخفى تشابكات عناصره المتناغمة:
طوفان يجتاحه من عواطف حارة، يلهب جسده،
لكنه اللهيب الحار الذي تحمله فقط، رياح خفيفة..
البصر و هو مادي، يتوزع يمينا و يسارا، في تماه مع السمع، قلبا لأدوار الحواس على مسرح مفارق،
فالنظر يمينا لا يمنح البطل موضوعا للرؤية، – و كأنه يسعى إلى رؤية ما وراء الأشخاص المتجلين أمام بصره كموضوعات، يتوق إلى إدراكهم كذوات.
هذا ما يمكن أن يحيل عليه تركيزه الروحي و التأملي، الذي كان منصبا على صوت آت من بعيد قد تحمله الرياح الخفيفة، تنتشله من فوهة العواطف الحارة التي تلهب جلده.
النظر يمينا فشل في التقاط تلك النسمة الباردة من الأفق رغم اتساعه اللامتناهي.
لهذا حول البطل نظره الى اليسار، لكنه أيضا لم يظفر الا بذلك اللاشئ المسمى فراغا، الفراغ الذي شغل كل زوايا البصر المادي،
بما يحمله ذلك الفراغ من لهيب عواطف تتمرد على المعطى الموضوعي الخارجي، و تتجه لإحداث خلخلة في الهندسات المادية الى ما وراءها،
ليغدو المسرح بخشبته و شخوصه و عناصر الديكور فيه، مجرد مسرح ظاهري وهمي أو زائف لمسرح ٱخر يتوارى في البعيد.
هو يجلس إلى طاولته و إلى الفراغ اللامتناهي، يتوق إلى شئ ما، إلى نسمة باردة يراها بالسمع قبل البصر، لا تفصله عنها ” إلا الاف من الطاولات الفارغة قلوبها “، الطاولات التي تجلس اليها أجساد خاوية، تبتعد عنه بمسافات زمانية و مكانية قد تكون قصيرة فيزيائيا، لكنها ممتدة في اللانهائي روحيا..
البطل في لعبة سردية من السارد، واعية أو لاواعية، سيضع حجابا بينه و بين كل عناصر المكان و
الزمان حيث يُفترض أنه يجلس، يتخفى وراء مجلة يتصفحها،
يتعالى على( كمشة )الطاولات التي تحول بينه و بين تلك التي ستنبثق في لحظة، تخرج وعيه من دائرة ذاته، إلى دائرة الكائنات الخارجية.
هنا كانت المفارقة اللافتة جدا و التي تفصح عن ذكاء سردي واضح:
الصيغة الاستثنائية التي تضمر عكسا ما هو قطعي و مطلق الدلالة بالنسبة إلى وعي متيقظ، و ذات متقدة المشاعر تجيد قياس هندسات ماوراء الزوايا و الخطوط :
” لا تفصله عنها ( سوى ) الاف الطاولات الفارغة قلوبها”
ليصبح التناقض وحدة و تناغما،
فٱلاف الأجساد الفارغة قلوبُها، تحتاج فقط إلى يقظة روح لتنزاح من مجال الرؤية اللامادية. هي بقوانين اللازمان و اللازمان كأنها غير موجودة.
لذلك سيعبر رؤيويا كل تلك الأجساد ليراها… يرى تلك التي كانت في الموعد، تشغل بجسدها حيزا في الفراغ و تختلس النظر إليه بين فينة و أخرى..
يغلق المجلة التي كان يتصفحها، يرخيها على الطاولة – بما لكلمة إرخاء من دلالة على التريث و التمعن و الترقب الحالم، تطلعا الى الٱتي الوشيك – ثم يفك المحبسين العلويين من أزرار قميصه في حركة ممسرحة تمويهية لا يمكن تأويلها إلا و قد تلبس البطل دورا على دور، على المسرح الكبير، حيث فك المحبسين قد يحيل على التحرر من قيد الجسد و من اختناق الذات، وحدتها و اغترابها.
المجلة في النص لها دلالتان تتكاملان في قلب تناقضهما:
فهي الحجاب الذي حجب عن البصر رؤية المشهد في تشتت عناصره و صخبه ، لكنها أيضا الستار الذي أفسح المجال للوعي أن يعود إلى ذاته، يستبطن خبايا النفس، فتتيقظ الروح لترى حضور السيدة في قلب الغياب الموحش الذي عصف باللحظة، و ألقى بها في قبضة الفراغ، اللاشئ، مسلما ذات البطل إلى الوحدة و الانتظار. ذلك الانتظار الذي كاد يكون عبثيا بنكهة مسرحية تحيل على بيكيت، لولا أن جودو المنتظر، سيكون هنا همسَ الروح تدعو البطل إلى لعب الدور في ثنائية ذكر / أنثى على مسرح كبير.
كان على البطل إذن ان يزيح الحجاب المادي ليخرج من إسار الحاضر، يخلع قناع المشخص على المسرح كمعطى فيزيائي خارجي، يعبث بالديكور، الطاولات و المسافات ، الشخوص، و يخلق من تلك التي كانت تجلس إلى طاولة، فاردةً ذراعيها على طول مسندي مقعدها،
يخلق منها الذاتَ الأخرى المنتظرة، سيدةَ العشق التي خرقت الخطوط بين يمين و يسار، – و لا يهم من تكون السيدة، امرأة أخرى تتخفى وراء المشهد الصغير، بينما الماثلة أمام بصره جسدا لافتا هي مجرد حاملة لرسالة المرأة الأخرى، أم هما واحد، ذات أنثوية يخلقها من مخياله الهائم، من ذاته. تنبثق من زاوية البصر الأمامية صوتا هامسا ينفلت من عقال الأنثى الجسد، ينبئ بأنها تجلس جسدا يهفو الى الانطلاق،
و بأنها لا تغدو ان تكون مجرد أداة عشق لتلك الروح التي تسكنها، و التي أتت بها في الموعد، مخترقة أزمنة لا متناهية، متمردة على تعليمات مخرج لا يعرف أن الأقنعة تنهار على خشبة مسرح كبير، يجسد فيه الشخوص ادوارهم أرواحا، بينما عينا المخرجِ على الأجساد تلهو بلعبة العشق على المسرح الصغير..
ما لا نراه بالبصر نسمعه بالروح، فنراه نسمةً باردة ندية تنادي على لسان عاشقة أتت من اللازمان، من اللامكان، تهمس لذاك الذي تخفٓى وراء مجلة ليسمع همسا ليس كأي همس.
معزوفة عشقية تعطلت فيها حاسة البصر قصدا لتتفجر أنوار الحدس..
إلتقاطة رؤيوية شفيفة لسيدة الروح،
التي أصخت السمع الى همس البطل يلغي المسافات، يلهو بالزمن،
فراحت ترجوه البقاء على مسرح شاسع، و السباحة تحليقا في سديم الروح.
جمالية النص سردا و لغة تتجلى برأيي المتواضع في كون الكاتب، وضعنا كقراء في نقطة البين_ بين، الضاجة بالتناقضات المتداخلة و الفاتنة تأملا و تسٱلا:
الوهم / الحقيقة،
الحلم / اليقظة،
الجسد / الروح
و أرغمنا بشفافية و سلاسة على نزع أقنعتنا، و ولوج المسرح الكبير،
لنفاجأ بان الستارة لم و لن تسدل ابدا على مشهد كبير للبطل مندهشا من سيدة العشق المنتظرة من زمان، تطل خلف الجسد، في اعتراف عبقري بأن هذا الجسد الأنثوي مجرد أداة، وسيلة، بل هو في لحظة التلاقي الروحي الاستثنائي لا يتجاوز كونه عبدًا، ينطق بأن سيدته، سيدة العشق الروحي فكت شيفرات رسائله، ( رسائل البطل)، و ها هي تدعوه إلى عدم ترك مسبح مفارق نزلا إليه معا تحليقا، ذات لازمان، و ذات لا مكان….
و تهمس اليه:
” سيدتي ترجوك ، إن كنت تريد السباحة ، لا تذهب إلى مسبح آخر”
ما أجمل هذا الهمس، الاستثناء، في خطاب العاشقين..
و الأكثر جمالا أنه همس امرأة أخذت مبادرة الارتقاء بالرجل خارج دائرة المادي، فكان لها دور السيدة حقا على مسرح كبير سيكون فيه البطلُ العاشقَ المريد.
و لنا أن نتخيل المشهد الأول بعد
المشهد الأخير،
في المسرح الكبير………….
رجاء بقالي..المغرب في ٤ يوليو ٢٠٢٣
Discussion about this post