الموروث بين الوهم والحقيقة
قراءة بقلم
محمد البنا
لنص * لا ليس جسدي *
للقاصة المصرية / هيام علي
…………………….
النص
” لا ليس جسدي ”
ولدت من داخل رحم أم نقية تبغض الرذيلة ، جدران البيت تؤيد كلامي؛ هنا صورة الفاتحة منقوشة على الجدار بلون ذهبي ناصع، وهنا آية الكرسي، وهنا وهنا وهنا.
ذات وقت سمعت أبي يقول: هذا البيت عمره من زمن الزمن؛ عاصر أجيالًا وأجيال، سئمت كلامه الذي يعاد كل يوم، وأمي لا تلتفت إليه، فهى في عالمها الآخر، في رقبتها حبات المسبحة وفي صدرها ورقةٌ مطويةٌ على شكل مثلث مغطاه بقطعة قماش بداخلها طلاسم لا أفهمها، ذات مساء، أتت إلينا امرأة خمسينية العمر ومعها فتاة تسحبها من يدها، عيناها زائغتان كأنها تبحث عن شيءٍ فقد منها، استقبلتهم أمي كالعادة وأطلقت البخور ثم أشارت إلي، فتحت لهم حجرة الجلوس دخلا ودخلت أمي معهما، وبنظرة أخرى منها قمت بغلق الباب، إلا أنني لم أفارقه؛ أتلصص، أترك لأذني العنان كي تسمع صرخات الفتاة، وأمي يعلو صوتها تردد آيات من القرآن ممتزجة ببعض الكلمات..ساعة كاملة وهم على هذا الحال، فجأة فُتح الباب وإذا بأمي أمامي تنهرني ككل مرة أن لا أقف هنا وإلا ستصيبني لعنة في يومٍ ما،خرجت الفتاة تصحبها تلك المرأة وبهدوء أخرجت منديل أبيض به بعض النقود؛ أعطتها لأمي.
كل يوم تراودني الكوابيس والأحلام المزعجة؛ أرى صورهم على الجدران عيونًا ترمقني، يخترقون صدري، يتحسسون جسدي، أشعر بنشوةٍ غريبة، ولكني سرعان ما أستفيق على صداعٍ يجتاح رأسي؛ نساء الحي كلما هممت بالخروج إلى الشارع أراهم يتهامسون فيما بينهم، ولا أسمع منهم سوى كلمة واحدة
” الكافرة بنت الكافرة ”
لماذا؟ فأمي هي من تقوم بفك الأعمال والعكوسات والأسحار لهم!
حينها كنت صغيرة، وعندما كبرت أفقت على كابوس مرعب؛ كنت أرى أمي داخل نفس الحجرة تطلق البخور، واحدة تدخل وأخرى تخرج ، وأبي ينظر في صمت من على كرسيه المتحرك.
بدأت أمي تعلمني أصول المهنة ويوم بعد يوم أصبحت ماهرة بل تفوقت عليها أيضا، بدأت أقرأ في كتب السحر السفلي والسحر الأسود ، وغيرها من الكتب الصفراء، وأصبح بيتنا لا يخلو أبدا ممن يحتاجونني لأمرٍ ما.
قالت لي أمي يوماً: نحن نساعد هؤلاء كي تستقيم الحياة لهم ولنا والجميع يستفيد
قلت : هل تتذكرين تلك المرأة التي أتت إلينا البارحة التي كانت تحب شابًا متزوجًا من ابنة عمته ؟
– نعم أتذكرها، ماذا بها؟
أنت تعلمِ جيدًا ماذا كانت تريد
– نعم أعلم، كانت تريد التفريق بين هذا الشاب وزوجته كي تتزوجه هي
– وهل هذا حلال يا أمي؟
– نعم حلال يا ابنتي، لأن تلك المرأة تعشق هذا الشاب، وإن لم تتزوجه في الحلال ربما فعلت معه الحرام، فنحن مجرد سبب كي يجتمعان معًا كل سؤال أسأله له جواب مقنع من أمي!
النهار للوافدين من كل حدب وصوب، أما الليل فلهم؛ تترى صورهم كل ليلة على الجدران، يأمروني وأنا أطيع، وكلما أطعت؛ أعطوني سرًا من أسرارهم.
صراع داخلي يميتني كل ليلة بين الخطأ والصواب، أتعرى وهم يشاهدون جسدي.. لا لا ليس جسدي، أقسم لكم أنه ليس جسدي فأنا ولدت من رحم أمي نقية!
هنا سمعت ضحكاتهم وهم يسخرون مني ومن أمي، ثم يقتربون أكثر فأكثر وأنا مسلوبة الإرادة ليس لي حيلة سوى الإنصياع لهم، كل يوم يزداد وجهي شحوبًا وجسدي نحافة.
كرهت أمي، وتمنيت أن تموت كي أستريح . ذات صباح، استيقظت على صراخها اتجهت نحوها فإذا بها تنعي أبي.
بموته مات كل شيء؛لم يزرنا أحد ولم يعزينا أحد، هنا علمت أن أمي كانت على خطأ، وأنها ملعونة في السماء وعلى الأرض، وأنا مثلها تماماً. خرجت إلى الشارع في الخفاء كي لا يشاهدني أحد وينعتني بالكافرة بنت الكافرة، حتى حل المساء شعرت بالتعب؛ عدت إلي البيت وقبل اقترابي شاهدت ألسنة اللهب تخرج من البيت قضت عليه تماماً، فحمدت الله أنني خارجه، وكذلك ابنتي التي في رحمي، فأنا كما تعلمون أمٌ نقية، وولدت من رحم نقية.
هيام علي…مصر/ الفيوم في ٣ يوليو ٢٠٢٣
…………………..
القراءة
جرت العادة البشرية على منوال شبه ثابت، وهو توريث المهنة من ضمن المورثات الأخرى التي يورثها الأباء للأبناء، فابن الطبيب طبيبا وابن المهندس مهندسا وابن الفلاح فلاحا وهنا – في هذا النص – لم تشذ القاعدة عن سابق عهدنا بها، فها هى ابنة الساحرة ساحرة مثلها، ومن هنا أيضا ننطلق لنضيف ماهية” السلسال ” كموروث جيني يستمر في تناسله من أجداد الجدود إلى الجدود إلى الآباء فالأبناء فالأحفاد، وبعبارة أخرى..من السلف إلى الخلف.
وإن كانت القاصة قصرت الانتقال الجيني من الأم إلى الابنة ومن ثم تلميحًا إلى الجنين، فقد أصابت هدفين بحجر واحد ( الاقتصار)، أول الهدفين مفاده أن الأنثى هى الأصل وهى الواهب المانح خيرًا أو شرا، فاعتبروا أيها الذكور المنتخفين هواءً بفحولتكم الجوفاء، وثانيهما مفاده أنني – بدونك أيها الرجل – استطيع( الرجل هنا قعيد..لا حول له ولا قوة ).
فكرة النص مستقاة من واقعٍ معاش من آلاف السنين ومستمر إلى ما شاء..واقع السحرة والعرافين والدجالين ومرتادي أوكارهم من كافة الفئات المجتمعية غني وفقير، متعلم وجاهل، ذكر وأنثى.
اتكأت القاصة اقتداءً بآيتين من آي قرآننا الكريم، أولاهما (( فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه..))الآية ١٠٢ سورة البقرة.
وثانيهما (( قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا)) الآية ١٠٣ سورة الكهف.
ففي الاولى تعلم السحرة من الملكين هاروت وماروت السحر، وتغافلوا عن قولهما لهم (( إنما نحن فتنة فلا تكفر ))، بينما في الثانية حسبوا أنهم يقدمون الخير للناس ويدرءون الشر عنهم، كما جاء نصًا ( وإن لم تتزوجه في الحلال ربما فعلت معه الحرام، ..) وتغافلت الأم عن (( أولئك هم الذي كفروا بآيات ربهم )).
ذكرتني هذه القصة – معالجة سردية – بأفلام الرعب الأمريكية، عندما ينتهي الفيلم ببدء شر جديد، ومثيله في هذه القصة تبدى لي في نجاة الفتاة من الحريق مؤقتًا، وتلميحًا بالاستمرارية الشرانية بالإشارة إلى جنين في رحمها كما ورد نصًا ( فحمدت الله أنني خارجه، وكذلك ابنتي التي في رحمي).
اتقنت القاصة بمهارة استخدام الأسلوب التدويري السردي وغلفته بنكهة كوميدية ساخرة، إذ استهلت النص ب (ولدت من داخل رحم أم نقية ) وعادت لتنهيه في خاتمته ب (أمٌ نقية، وولدت من رحم نقية.) متكئةً على التكرار اللفظي والإضافة الاعتبارية والتقديم والتأخير ..وكلها تقنيات سردية مستقلة ولكن القاصة ببراعة وظفتها جميعها في جملتي البداية والنهاية.
اللغة :
اللغة المسرود بها المتن لغة بسيطة سليمة لغويًا، تراوحت الروح السردية بين روح لغة أمومية، وروح لغة صبية، وأخيرا روح فتاة واعية راشدة، والقارئ المتابع قد يدرك هذا التفاوت الصوتي بلاوعيه، فيحس بجماله دون الوقوف على مسببات هذا الجمال، والذي منها توظيف الكاتبة ليعض المحسنات البلاغية مثل ( صغيرة/ كبرت،، حدب /صوب، تمنيت/ تموت/ استيقظت/ اتجهت،، السماء/ الأرض،،..، ..،،..).
الخطاب السردي : نجحت القاصة في عرض رؤيتها للفكرة سردًا بانسيابية متناسبة مع عتبات المتن، كما نجحت في توظيف الحوار لتوصيف المشكلة ( حرمانية الاشتغال بالسحر)، دون اقحام صوت الكاتب الذي استعاضت عنه بالسارد ( ضمير المتكلم)، كما نجحت في نقل النص من التقليدية السردية إلى السردية الحداثية بإشراك القراء كفاعل أساس مشارك في بنية النص ( فأنا – كما تعلمون – أمٌ نقية).
الحقل الدلالي :
حفل النص بموحيات لفظية تترك أثرها في مخيلة المتلقي وتهيئه لبناء مشهدية واقعية..مثل ( السحر الأسود والسفلي/ الكتب الصفراء/ الكافرة/ التفريق/ الحلال/ الحرام/../..)
كما اجادت تمييز الفقرات السردية بحنكة ومهارة..
ذات مساء / ذات صباح / ذات وقت / كل يوم…
محمد البنا…القاهرة في ٣ يوليو ٢٠٢٣
Discussion about this post