فى مثل هذا اليوم14يوليو1958م..
انقلاب عسكري في العراق يطيح بالنظام الملكي، ومقتل الملك فيصل الثاني وأفراد أسرته.
انقلاب 14 تموز 1958 وتعرف أيضًا بالثورة 14 تموز 1958، وهو الانقلاب الذي أطاح بالمملكة العراقية الهاشمية التي أسسها الملك فيصل الأول تحت الرعاية البريطانية، وقتل على إثرها جميع أفراد العائلة المالكة العراقية وعلى رأسهم الملك فيصل الثاني صاحب ال23 سنة وولي العهد عبد الإله ورئيس الوزراء نوري سعيد.
قام الانقلاب بقيادة عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف وباقي تشكيلة الضباط الأحرار وتم على إثرها تأسيس الجمهورية العراقية. وبقي العراق دولة اشتراكية ذات حزب واحد بحكم الأمر الواقع من عام 1958 إلى 2003. تبع هذا الانقلاب انقلاب آخر أطاح بعبد الكريم قاسم، وأعدم في انقلاب 8 شباط 1963.
وقد اختلف المؤرخون في تقييم نظام الحكم الملكي كما اختلفوا في تسمية الحركة ما بين الانقلاب والثورة.
الجذور التاريخية لتفاقم أزمة الحكم الملكي
تأسيس الدولة العراقية
على وفق التحليل التاريخي للأحداث هنالك دائماً عوامل مباشرة وأخرى غير مباشرة والتي لعبت أدواراً مختلفةً تسببت بقيام حركة 14 تموز 1958، فهنالك أسباب غير المباشرة تمثلت في أزمة الحكم الملكي في العراق والتي تتلخص في طبيعة البنية التحتية التأسيسية للحكم الملكي والتي ولّدت تيارين متناقضين في الأيديولوجية والمرجعية الوطنية والسلوك السياسي في مواقفهما تجاه ما كان يعصف العراق والمنطقة العربية من أحداث جسام كالحروب العالمية والمعاهدات مع الدول الكبرى والأحلاف التي كان الغرض منها جر المنطقة العربية إلى سياسة المحاور والاستقطاب الدوليين، وآخر تلك الأحداث هو تأسيس الدولة اليهودية في فلسطين.
العوامل غير المباشرة لقيام ثورة تموز 1958
هنالك جملة من العوامل التاريخية التي تراكمت وتمخض عنها قيام حركة تموز 1958 م. منها إجهاض ثورة رشيد عالي الكيلاني وإخفاق الحكومات العربية في حرب فلسطين عام 1948 م، ثم دخول حكومة نوري السعيد في سلسلة من المعاهدات وآخرها حلف بغداد التي كبلت العراق ببنود هيمنة جائرة على سيادته وموارده وقراره السياسي، وبعد بروز المد الوطني والقومي العربي المعادي للهيمنة البريطانية والفرنسية والأمريكية، والتأييد الجماهيري الكاسح لهذا المد الذي تزعمته القيادات الثورية الشابة في بعض بلدان الوطن العربي والتي كانت رائدتها حركة تموز 1952 في مصر، وتصاعد المد الجماهيري المؤيد للحركات الثورية الوطنية والقومية ليشمل دولا عديدة مثل الأردن الذي رفض الدخول في حلف بغداد، وأضحت حكومة نوري السعيد ورقة محروقة متهمة بما سمي «بالعمالة» لبريطانيا.
ومن وجهة نظر الدول الغربية فإن سلسلة المعاهدات مع العراق وبعض الدول العربية وآخرها حلف بغداد ما هي إلا صفقة إستراتيجية الغرض منها هيمنة بريطانيا وفرنسا ومن ثم لاحقاً أمريكا على المنطقة لدواعي إستراتيجية أهمها الوقوف بوجه الإتحاد السوفيتي والسيطرة على منابع النفط واستيلاء الولايات المتحدة على إرث بريطانيا وفرنسا خصوصاً بعد حرب السويس أو ما سمي بالعدوان الثلاثي على مصر، ووقوف حكومة نوري السعيد بشكل معلن مع دول العدوان.
العوامل المباشرة المسببة لقيام حركة 14 تموز
يجمع المؤرخون على أن العوامل المباشرة للحركة كانت بسبب ردة الفعل الجماهيرية الغاضبة على احتلال بريطانيا للعراق بعد إسقاط ثورة رشيد عالي الكيلاني عام 1941 وإعدام الضباط الأحرار والوطنيين من الضباط المشاركين في الثورة، وكذلك من العوامل الأخرى، هزيمة الحكومات العربية في حرب فلسطين إبان حرب 1948، علاوة على جملة من العوامل الداخلية الأخرى كتردي الأحوال المعيشية والإجتماعية والتي يمكن إجمالها بالتالي:
مر الحكم الملكي بجملة من الإخفاقات أدى تراكمها إلى ظهوره بمظهر الحكم العاجز عن تلبية تطلعات الجماهير وتحقيق أهدافها وأن الحكم الملكي ظهر بمظهر النظام المرتبط بمصالح البريطانيين ضد مصالح الشعب. وهم يرون أن فرضيتهم هي من العوامل المسببة لقيام «الثورة». والتي يجملونها حسب التسلسل الزمني بالآتي:
الاعتقاد بالهيمنة البريطانية على السياسة والأحلاف ومعاهدات الانتداب، حيث يرى البعض أن هم بريطانيا هو إلحاق العراق بالسياسة البريطانية وأن يكون تابعا لها ومنفذا لاستراتيجياتها بواسطة ربطه بمعاهدة 1922 ثم معاهدة 1926، ثم معاهدة 1930 ومعاهدة 1948 ثم تلى ذلك حلف المعاهدة المركزية – السنتو المعروف بحلف بغداد والذي كان يضم العراق وإيران وتركيا وباكستان. وكان الشارع العراقي معبأً ضد الحلف والحكومة العراقية خصوصاً الخلاف بين مصر وسوريا من جهة والعراق من جهة أخرى، حول حلف بغداد، بسبب تعبئة إذاعات دمشق والقاهرة والتي كانت تهاجم الحكومة العراقية، وكان بعض العراقيين يرددون ما تذيعه دمشق والقاهرة من أفكار.
هيمنة الشركات الأجنبية على الاقتصاد بضمنها شركات النفط التي لعبت دوراً كبيراً في تقويض الاقتصاد العراقي لاسيما بعد ربط الاقتصاد العراقي بالكتلة الاسترلينية مما أدى إلى تضخم العملة العراقية وغلاء الأسعار.
أدى احتلال العراق من قبل بريطانيا أثناء الحرب العالمية الثانية وإسقاط حكومة ثورة مايو 1941 بزعامة رشيد عالي الكيلاني، وما لقيه الضباط من التنكيل والإعدام، إلى ارتفاع درجة السخط بين صفوف الشعب الذي انعكس على أبنائه في القوات المسلحة.
حملات تقويض الجيش العراقي حيث تنبه الإنجليز إلى حالة السخط والغليان بين صفوف الشعب والجيش بشكل خاص بعد الضربة الموجعة بعد احتلال العراق إبان الحرب العالمية الثانية وإسقاط الثورة الشعبية التحررية التي قام بها رشيد عالي باشا عام 1941، وتنبهوا إلى ذلك فاشعروا السراي الحكومي بضرورة تقليص عدد وحدات الجيش العراقي، وتسريح أعداد كبيرة من ضباطهومراتبه ونقل الضباط الآخرين إلى وحدات نائية، وإشغال أفراده بالتدريبات، طوال فصول العام. بدأت خلايا سرية من الضباط في العمل بين صفوف الجيش، ومحاولة التكتل لإنشاء تنظيم سري للضباط.
انعكست نتائج حرب 1948 على شكل إحباط جماهيري عام، فالعراق الذي شارك بخيرة قطعاته في القتال وحقق انتصارات مهمة على الجبهة بقيادة الفريق راغب باشا الذي حقق انتصرات لامعة مطوقا تل أبيب وصل على مشارف البحر إلا أن تدخل القائد البريطاني كلوب باشا الذي كان يرأس القيادة العامة للحرب لم يصدر الأوامر بالتقدم في ساحات القتال، حتى شاعت على الألسن باللهجة العراقية العامية «ماكو أوامر» ورجع الجيش العراقي من فلسطين بعد أن أعلنت الهدنة سنة 1949 وكان لهذه العودة أثرها السيء في نفوس الشعب.
أدى نجاح حركة الضباط الأحرار في مصر، خلال «ثورة» 23 يوليه/ تموز 1952 التي أدت إلى تقويض النظام القائم في مصر، وثورة 1948 في اليمن ضد الحكم الملكي الإمامي والتي قادها الضابط اليمني العراقي جمال جميل رغم إسقاطها بعد نجاحها وإعلان الجمهورية ومقتل الإمام، أدت إلى تشجيع الضباط العرب عموما والعراقيين بشكل خاص بالثورة على نظام الحكم.
تتويج فيصل الثاني 1953
وقع العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956 من قبل بريطانيا وفرنسا وإسرائيل بسبب تأميم مصر لقناة السويس، وقد شجبت الحكومة العراقية العدوان ومع قيام الاتحاد العربي – الجمهورية العربية المتحدة بدأ الشعور القومي لدى فئة من العراقيين بالظهور. وفي 14 فبراير 1958 تم إعلان الاتحاد العربي الهاشمي بين العراق والأردن؛ فيما يراه البعض ردًا على قيام الجمهورية العربية المتحدة بين مصر وسوريا. وقابلت الأوساط القومية الاتحاد العربي بالاستنكار، واعتبرته مفرّقاً للصف العربي. داعين إلى الانضمام إلى الجمهورية العربية المتحدة بدل هذا المشروع الذي رؤوا فيه حلفا أكثر منه وحدة.
قام نخبة من طلائع الضباط المستنيرين بتشكيل «تنظيم الضباط الوطنيين» الذي أسماه الإعلاميون لاحقا بتنظيم الضباط الأحرار أسوةً بتنظيم الضباط الأحرار في مصر وذلك في نهاية عام 1949 م، وبعد الهدنة مع إسرائيل وانسحاب الجيش العراقي، وذلك برئاسة الرائد رفعت الحاج سري، والتي كانت تعد أول نواة لتنظيم عسكري داخل الجيش، ومع رفعت الحاج سري كان ذا رتبة متوسطة إلا أنه كان يتمتع باحترام كبير من الجميع لأخلاقه العالية وسلوكه القويم، وبعد سنة 1952 م، عقب نجاح حركة تموز في مصر التي أعطت دفعا كبيرا للتنظيم تحول أسلوب عمل التنظيم إلى أسلوب الاجتماعات المنظم بدلا من اللقاءات السريعة والجلسات التي تميزت بالطابع الشخصي. وتوالى تشكيل عدد من الخلايا والتنظيمات في معسكرات وثكنات مختلفة استنادا للعامل الجغرافي والمكاني، ومن أشهرها خلية العقيد رجب عبد المجيد التي تشكلت في سبتمبر/ ايلول 1952 م.
كانت الطبيعة الغالبة لتأسيس تلك التنظيمات هو الالتقاء الفكري والانتماء السياسي لضباط كل خلية من خلايا تلك التنظيمات، فمنها كان تجمعا لضباط ذوي ميول قومية وأخرى ذات ميول وطنية ليبرالية وأخرى شيوعية وأخرى إسلامية وغيرها من الخلايا التي انضمت لاحقا، بين عامي 1956 و1957 م، للتنظيم الأقدم والأكبر «تنظيم الضباط الوطنيين» ذو التوجهات الوطنية والوحدوية والذي كان يتزعمه رفعت الحاج سري ذو التوجه الإسلامي والذي أصبح عقيدا في ذلك الوقت. وكان يجمع كل تلك التيارات والشخصيات مبدأ معارضة الوضع القائم. أي أن بعضها كان يؤمن بتغيير النظام الملكي إلى جمهوري، وآخر كان يؤمن بانقلاب كانقلاب بكر صدقي أو ثورة رشيد عالي الكيلاني أي تغيير سياسة وعقيدة الحكم دون المساس بشكل النظام.
محاولات التنظيم الفاشلة لقلب النظام الملكي
حاول التنظيم القيام بعدة محاولات للانقلاب على الملك، ولكنها باءت جميعًا بالفشل ومنها :
1 ـ محاولة تنظيم الضباط الوطنيين سنة 1949 م، أثناء الاحتفال بعودة بعض فرق الجيش من فلسطين ولكنها فشلت لعدم حضور الملك فيصل الثاني والمسؤولين الكبار في الدولة.
2 ـ محاولة العقيد رفعت الحاج سري في سنة 1950م.
3 ـ محاولة في 1950، ولكنها ألغيت لعدم حضور نوري السعيد رئيس الوزراء.
4 ـ محاولة في (11 ذي القعدة) سنة 1955م، وصفها المقدم عبد الغني الراوي بمنتهى الدقة والإحكام، ولكن قادة التنظيم رفضوها.
كشف التنظيم
رفيق عارف رئيس الأركان العامة
تمتْ محاولات محدودة من قبل تنظيم الضباط الوطنيين للقيام بحركة لقلب نظام الحكم الملكي لعدم تيسر الفرصة السانحة. وبعد اجتماعات متلاحقة لقادة التنظيم استغرقت سنتين، تم الاتفاق على اغتنام أية فرصة تسنح لإحدى القطعات العسكرية التي يسمح لها بالمرور في بغداد للقيام بالحركة. كما اتفقوا على مساندة القطعات غير المشاركة في حالة سماعها بالقيام بالحركة في حالة تعذر تبليغ القطعات جميعها ولدواعي أمنية.
تنبهت الحكومة لوجود هذا التنظيم في صيف عام 1956 م في منطقة الكاظمية حيث تسربت معلومات عن تحركات الجيش إلى مديرية الاستخبارات العسكرية الملكية، ومنها الكشف عن الاجتماع الذي شارك فيه العقيد رفعت الحاج سري، والعقيد الركن عبد الوهاب أمين، والمقدم إسماعيل العارف، والمقدم صالح عبد المجيد السامرائي. وبعد إجراء التحقيق معهم، تم تفريق هؤلاء الضباط وإبعادهم عن الوحدات ذات التأثير الفاعل، وأخذت الحكومة تعد العدة لإجهاض التنظيم عن طريق نقل قادته من أماكنهم إلى أماكن أخرى وتعيين بعضهم كملحق عسكري في السفارات في الخارج، مما جعل قيادة التنظيم تنتقل من رفعت الحاج سري إلى الفريق نجيب الربيعي الذي انتخب رئيسا للتنظيم خلفا لسري. وبعد نقله هو الآخر آلت القيادة إلى عبد الكريم قاسم، وانقسم هذا التنظيم إلى عدة خلايا لتسهيل الأوامر والعمليات. بعض التحاليل السياسية تشير إلى أن تسريب المعلومات كان من أحد الضباط المشاركين في التنظيم وتشير إلى عبد الكريم قاسم تحديدا (راجع مقالة الضباط الوطنيين).
الأردن يبرق أسرارًا خطيرة
مراسم توقيع بروتكول الاتحاد العربي الهاشمي بين الملكين فيصل الثاني والحسين بن طلال
وفي مطلع تموز وبعد قيام الاتحاد الهاشمي عام 1958 بين العراق والأردن طلب الملك حسين بن طلال العاهل الأردني، من الملك فيصل الثاني ملك العراق إرسال قطعات عسكرية عراقية للمرابطة في الأردن. سافر بناء على ذلك رئيس الأركان الفريق رفيق عارف إلى عمان للتباحث مع نظرائه الأردنيين في التدابير اللازمة لتحرك هذه القطعات وقابل الملك حسين وأخبره بحضور بهجت التلهوني رئيس الديوان الملكي الأردني بأن العراق قرر دعم الأردن بإرسال قطعات فاعلة حيث اتفقا على بعض التفاصيل اللوجستية والتعبوية بهذا الصدد، إلا أن الملك حسين لمح وبدبلوماسيته المعهودة بأن لديه معلومات عن وجود تنظيم سري مشابه لتنظيم الضباط الأحرار في مصر، وقد أبدى الفريق رفيق عارف استغرابه نافيا تلك المعلومات، فاستدعى الملك حسين ضابطين أردنيين كانا في زيارة عسكرية للعراق واطلعا على الأوضاع الداخلية للجيش العراقي، وعادا بمعلومات تفصيلية عن وجود نشاطات لإعداد حركة عسكرية.
رفيق عارف مع الحسين بن طلال
عاد الفريق رفيق عارف إلى بغداد في يوم 11 تموز مغتاظا من الإنذارات الأردنية بعد أن قال لرئيس الوزراء الأردني آنذاك السيد سمير الرفاعي وبحضور رئيس الأركان الأردني، أنه «لا يجوز أن نصدق الإشاعات التي تريدنا أن نعتقل ألف ضابط عراقي من أفضل ضباطنا». وتقرر بعد ذلك تم إرسال اللواء العشرين بقيادة العقيد الركن عبد السلام عارف الذي يحوز على ثقة رئيس أركان الجيش يوم الرابع عشر من تموز إلى الأردن وهو اللواء الذي نفذ الحركة التي أطاحت بالنظام الملكي.
في نفس السياق، أكد الملك الحسين بن طلال للفريق غازي الداغستاني قائد الفرقة الثالثة، والتي يفترض أن يتوجه أحد ألويتها إلى الأردن، بأنه توافرت لدى أجهزة الاستخبارات العسكرية الأردنية، معلومات تؤكد نية بعض الضباط القيام بانقلاب، وأنه اتصل بابن عمه ملك العراق طالبا منه أن يبعث شخصا يثق به لإطلاعه على معلومات خطيرة، والتقى الملك برئيس أركان الجيش العراقي آنذاك الفريق رفيق عارف في معسكر اتش 3، قرب الحدود الأردنية ـ العراقية، وسلمه قائمة بأسماء الضباط الذين يعتقد بأنهم يعدون للانقلاب، ولكن رئيس أركان الجيش الفريق رفيق عارف فند جازما للملك حسين وجود مثل تلك الحركة لسببين: الأول ورود اسم العميد عبد الكريم قاسم وهذا مدعاة استغراب لأنه من أخلص الضباط للعرش والحكومة حتى أن الكثير من الضباط يخشونه لولائه للحكومة والعرش. أما السبب الثاني كما قال رئيس أركان الجيش العراقي، فهو أن أعداء المملكتين وعلى الأخص بعد إعلان الاتحاد الهاشمي هالهم الاتفاق الوحدوي بين القطرين فأخذوا يحيكون الدسائس لعرقلة الاتحاد، فعمدت تلك القوى إلى استخدام الطابور الخامس ليبث الإشاعات التي درجت على تلفيقها لغرض زعزعة استقرار الدولة الفتية.
ويذكر الداغستاني بأن الملك الأردني قد شعر بالإحباط من رد الفريق رفيق عارف وعدم أخذ معلومات غاية في الأهمية والسرية والخطورة على محمل الجد. لم يكتف الملك حسين بذلك بل بعث برئيس مخابراته آنذاك محمد الكيلاني قبل أسبوعين من الحركة ليخطر الحكومة العراقية بقرب ساعة الصفر وتنفيذ الحركة العسكرية التي أعدتها مجموعة من الضباط المعروف عنهم الولاء للعرش ولنوري السعيد، ومع ذلك، لم يلتفت أحد إلى التحذير. وأضاف الفريق غازي الداغستاني “إن بغداد كانت تعج بالإشاعات، حتى أن نوري باشا استدعاه وسأله: “هل تصدق أن عبد الكريم قاسم يتآمر لإسقاطي؟”. كان يقال عن قاسم بأنه جاسوس لنوري السعيد في الجيش ويسميه الباشا تحببا “كرومي”. وطلب نوري السعيد ملف عبد الكريم قاسم ولم يكتشف أي مؤشرات على استعداد لخيانة العرش والحكومة، ويذكر غازي الداغستاني بأنه قد أبدى امتعاضه من مراجعة ملف عبد الكريم قاسم ذلك قائلا لنوري السعيد: “إن عبد الكريم من الضباط المقربين المعروفين بالولاء للبلاط والحكومة ولا يمكن التشكيك به. إنه هو من يزودنا بالتحركات المشبوهة لبعض الضباط مما جعلنا نضعهم تحت سيطرتنا. جناب الباشا أنت أدرى بأن الوضع الداخلي لا يتحمل إحداث أي بلبلة داخل الجيش بسبب الظروف التي سببها الهجوم البريطاني على مصر وبمعاونة من فرنسا وإسرائيل. الموضوع أجج المشاعر منذ دخول إسرائيل في الهجوم.. لا أدري الإنجليز كيف يفكرون. الحكومة المصرية تكسب التأييد لأنها تنفذ سياسة مرغوبة من الناس المصريين وباقي البلاد العربية.”
العقيد عبد الكريم قاسم
وأكمل نوري السعيد قائلا: «هذه الوحدة الآن تلاقي تأييدًا كبيرًا من الشباب، تذكرهم بأيام زمان ومطالب العرب وجلالة الشريف حسين المعظم. كلنا مع الوحدة أكيد ونحن لدينا وحدة أيضا. الوضعية حساسة، ولكن الحكومة المصرية العسكرية مندفعة وليس لديها خبرة مع الإنجليز. تصرفوا بتهور في موضوع التأميم مما جلب لهم بلاء الحرب وأجج الغرب ضدهم وعاداهم. لا داعٍ، فالغرب مهتم بالشيوعية وانتشارها الذي يهدد العالم الحر والعراق أحد أعضائه المهمين. لذلك أي اعتقالات أو ضربة داخل الجيش نقوم بها سيكون رد فعلها لصالح أي عناصر طائشة التي تريد أن تعمل شيئا». بناء على ذلك اتفق نوري السعيد وغازي الداغستاني على اعتبار الموضوع مجرد إشاعات.
قادة الحكم الملكي أو الثلاثة الكبار
كان في الواجهة السياسية والإعلامية للنظام الملكي عند قيام الحركة الشخصيات السياسية التالية والتي كان يطلق عليها اسم الثلاثة الكبار وهم:
الملك فيصل الثاني
عبد الإله بن علي الهاشمي
الفريق أول نوري السعيد باشا
قادة الحركة واللمسات الأخيرة للخطة
زعيما الحركة قاسم وعارف
بدأ عبد الكريم قاسم حياته العسكرية ضابطاً برتبة ملازم ثاني ونقل للكلية العسكرية عام 1938 وفي عام 1941 تخرج من كلية الأركان العسكرية وشارك في عام 1948 في حرب فلسطين وفي عام 1955 وصل قاسم إلى رتبة مقدم ركن، وبعد أن أصبح عقيدا عين آمراً للواء المشاة 20. كان ينتمي إلى طبقة فقيرة وقد توفي والده وهو صغير في السن وكان يعاني من تشوه في الشفة أدى إلى عزلته ومن ثم تركت أثراً على مزاجيته وتفرده في المستقبل. كانت لديه صداقات محدودة أهمها علاقته بعبد السلام عارف وبعض الشيوعيين الذين تعرف عليهم عن طريق ابن خالته فاضل المهداوي، كل تلك العوامل أثرت على نشأته ومن ثم على مواقفه، إلا أنه عرف بمهنيته العسكرية العالية ووطنيته.
أما عبد السلام عارف فقد بدأ حياته المهنية عند التحاقه بالكلية العسكرية عام 1938 والتي تخرج فيها عام 1941 برتبة ملازم ثان. انضم إلى ثوار ثورة أيار/ مايس 1941 بقيادة رشيد عالي الكيلاني باشا رئيس الوزراء. نقل إلى البصرة بعد الإطاحة بحكومة الثورة حتى عام 1944. اختير عام 1946 مدربا في الكلية العسكرية. حصل على رتبة ركن عام 1947. اشترك في حرب فلسطين الأولى عام 1948. عند عودته من حرب فلسطين أصبح عضواً في القيادة العامة للقوات المسلحة. نقل عام 1950 إلى دائرة التدريب والمناورات. عام 1951، التحق بدورة القطعات العسكرية البريطانية في دسلدورف في ألمانيا الغربية للتدريب ثم نقل بمنصب مدرب أقدم فيها كضابط ارتباط مع الملحقية العسكرية للدورات التدريبية حتى عام 1956. عند عودته من ألمانيا نقل إلى اللواء التاسع عشر عام 1956. بُلّغ بالسفر إلى المفرق ليكون على أهبة الاستعداد لإسناد القطعات الأردنية أمام التهديدات الإسرائيلية. انضم إلى «تنظيم الضباط الوطنيين» عام 1957 ودعا إلى خليته العميد عبد الكريم قاسم، وكان عارف من المساهمين الفاعلين في التحضير والقيام بحركة 14 تموز 1958 حيث أوكلت إليه تنفيذ ثلاث عمليات صبيحة الحركة أدت إلى سقوط النظام الملكي.
عرف عبد السلام عارف بقوة إرادته وشجاعته وعمق مبادئه وحبه للتيار العروبي على الرغم من تسرعه في بعض المواقف في مستهل حياته السياسية والتي تلافاها عندما أصبح رئيسا للجمهورية. ويعود ذلك لأسباب تتعلق بانتمائه إلى عائلة متحدرة من منطقة قبلية من خان ضاري إحدى ضواحي الفلوجة، وكان جده شيخ عشيرة الجُميلات وخاله الشيخ ضاري أحد قادة ثورة العشرين ضد الاحتلال البريطاني بعد الحرب العالمية الأولى.
تمتد علاقة الصداقة والود بين العميد عبد الكريم قاسم والعقيد الركن عبد السلام عارف إلى عام 1938 حيث التقى عبد السلام عارف بعبد الكريم قاسم في الكلية العسكرية. وبعد أن تخرج عبد السلام من الكلية العسكرية التقى بعبد الكريم قاسم في البصرة في إحدى القطعات العسكرية بعد نقل عارف بسبب اشتراكه بثورة رشيد عالي الكيلاني باشا عام 1941، وأثناء اللقاءات التي كانت تجمعهما كانا يتداولان موضوعات الساعة يومذاك من سوء الأوضاع التي يعيشها المواطن العراقي من جراء سياسة نوري السعيد باشا رئيس الوزراء والأمير عبد الإله الوصي على العرش، وخضوعهما للسياسة البريطانية في العراق كما التقيا مرة أخرى في كركوك في عام 1947 وجمعتهما مرة أخرى الحياة العسكرية فالتقيا في الحرب الفلسطينية 1948 حيث أرسل قاسم إلى مدينة كفر قاسم وأرسل عارف إلى مدينة جنين وهما متجاورتان، فكانت تتم بينهما لقاءات باستمرار واستمرت علاقتهما حتى عام 1951 حيث فارق عبد السلام عارف رفيق سلاحه لمدة خمس سنوات حيث التحق في ذلك العام بالدورة التدريبية الخاصة بالقطعات العسكرية البريطانية التي كانت موجودة في مدينة دوسلدورف الألمانية الغربية واستمر في الخدمة هناك ضابطاً في الملحقية العسكرية حتى عام 1956.
بعد عودة عارف إلى العراق عام 1956 نقل إلى اللواء العشرين حيث انتمى إلى تنظيم الضباط الوطنيين وبعد عام على انتمائه التقيا ثانيةً عام 1957 حين فاتح العقيد عبد السلام عارف قيادة التنظيم لضم زميله العميد عبد الكريم قاسم للتنظيم. تردد التنظيم في ضمه بادئ الأمر. وبعد انضمام قاسم وبعد تغيب الفريق نجيب الربيعي عن اجتماعات التنظيم لأسباب تتعلق بالتحاقه بوحدته في أماكن مختلفة اختير الضابط الأعلى رتبةً حسب السياقات العسكرية العميد ناجي طالب للرئاسة المؤقتة للتنظيم لحين عودة الفريق نجيب الربيعي إلا أن تدخل العضو الفاعل في التنظيم العقيد عبد السلام عارف حال دون ذلك حيث طلب ترشيح زميله العميد عبد الكريم قاسم مبرراً إمكانيتهما بالعمل المشترك للقيام بالثورة كونهما يعملان في موقع عسكري استراتيجي قرب بغداد ومع وجود كتائب مدفعية ودروع ومشاة وأسلحة وصنوف ساندة أخرى وختم قوله مبتسماً لا زعيم إلا كريم، الأمر الذي أحرج المجتمعين فوافقوا على مقترحه.
العد التنازلي للتنفيذ
أتاح ترأس عبد الكريم قاسم للجنة العليا للتنظيم لعبد السلام عارف الفرصة للعمل المشترك مع قاسم لتحقيق آمالهما في إحداث تغيير في البلد. وبعد ورود بعض المعلومات للقصر الملكي ودار السراي للحكومة العراقية بأن تنظيما سريا قد تشكل هدفه إحداث تغيير في البلد سارعت الحكومة بإصدار تعليماتها لقيادة الجيش بإحداث حركة تنقلات شمل بها العميد عبد الكريم قاسم والعقيد عبد السلام عارف الذين نقلا إلى المنصورية في محافظة ديالى حيث تم تنسيب عبد الكريم قاسم آمراً للواء التاسع عشر، وعبد السلام عارف آمراً للواء العشرين الذين كانا تحت إمرة اللواء غازي الداغستاني قائد الفرقة الثالثة ومقرها في القاطع الأوسط للعمليات في محافظة ديالى شمال شرق بغداد.
في حركة سياسية لافتة للانتباه لامتصاص نقمة الضباط على الحكم وأحداث تفرقة في صفوف الضباط المشتبه بانضمامهم للتنظيم قام الوصي على العرش الأمير عبد الإله مع الملك فيصل الثاني برفقتهما الفريق نوري السعيد باشا رئيس الوزراء بزيارة عدد من القطعات العسكرية بضمنها معسكر المنصورية حيث عرض نوري باشا على عبد الكريم قاسم منصب نائب القائد العام للجيش الذي اعتذر عنه ولعبد السلام عارف منصب وزير الدفاع والذي كان مرشحا قريبا لرتبة عميد ركن الذي اعتذر عنه هو الآخر. فما كان من ديوان سراي الحكومة إلا أن يعالج الامر بنقل عبد السلام عارف مع عدد من الضباط المشتبه بانتمائهم للتنظيم إلى الأردن وهم من المعروف عنهم استيائهم المعلن اومشاركتهم بثورة رشيد عالي الكيلاني باشا عام 1941، حيث استغلت الحكومة قيام الاتحاد الفدرالي الهاشمي بين المملكتين العراقية والأردنية عام 1958 وتوتر الحدود الأردنية الإسرائيلية بسبب قيام الاتحاد من جهة وبسبب قيام الجمهورية العربية المتحدة من نفس العام من الجهة الأخرى.
في مطلع تموز من عام 1958، وعند صدور الاوامر بتحرك القطعات للمفرق بالأردن مروراً ببغداد دعا ذلك كل من قاسم وعارف لعقد اجتماع عاجل للتنظيم حيث ابلغا التنظيم الذي تلكأ كثيرا بالقيام بالثورة بأنهما سيقودا عدداً من ضباط التنظيم لاستغلال هذه الفرصة للإطاحة بالنظام الملكي. ثم اتفق عارف مع قاسم بإعطاء التنظيم فرصة أخيرة للتحرك من خلال ضم الفرق الأربعة العسكرية الموزعة في المحافظات العراقية الأخرى لمساندة تحرك قطعات المنصورية والذي كان يشغل منصب امر المعسكر حينها الرئيس الأول إبراهيم الشيخ علي ال غصيبه وهو أحد أعضاء تنظيم الضباط الاحرار منذ عام1955فذهب عارف وحده قائلا «انا والزعيم نخبركم لاخر مرة بانه في حالة عدم الاشتراك معنا فنقول لكم هذا حدنه وياكم».
عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف يتصلان سرا بعبد الناصر
بعد ظهور ملامح الاصطفافات الجديدة حول قيادات تنظيم الضباط الوطنيين بعد تمحور البعض حول قاسم وعارف والبعض الآخر حول القيادة التقليدية للتنظيم بزعامة الفريق نجيب الربيعي ومؤسس التنظيم رفعت الحاج سري الدين والعميدين ناجي طالب وناظم الطبقجلي. والبروز اللامع والشعبية الصاروخية الجلية للزعامة الجديدة للتنظيم للثنائي قاسم وعارف. حيث بدأت تتكتل حولهما بعض أعضاء قيادة التنظيم، وهذا التطور الهام عزز احتمال قيام الحركة ودفع هذا التيار إلى الاقتراب أكثر من العد التنازلي للتنفيذ وعلى شكل خطوات مدروسة تعبويا وسوقيا لامناص من اتخاذها إذا ما اريد للقيادة الجديدة لتحقيق اهدافها.
فالخطوة الأولى التي اتخذتها قيادة تيار قاسم \ عارف هي اما استقطاب أعضاء القيادة التقليدية للتنظيم واعضاء الحلقة الوسطية أو تحييدها. لضمان عدم انشقاق التنظيم من جهة ولضمان عدم تسرب الخطط للاستخبارات العسكرية والحكومة ونوري باشا من جهة ثانية.
اما الخطوة الثانية فتمثلت بالبحث عن دعم عربي أو دولي لموازنة الدعم العربي والدولي الذي تتمتع به الحكومة والنظام الملكي المتمثل باسناد المملكة الأردنية الهاشمية عربيا وبريطانيا دوليا. فبعد سلسلة من الاجتماعات السرية الهامة للقيادة المصغرة لتنظيم الضباط الوطنيين والتي شملت تيار القيادة الجديدة لقاسم \ عارف، توصلوا إلى قرار بضرورة مفاتحة الجمهورية العربية المتحدة «سوريا ومصر المتوحدتين ضمن اطار الاتحاد العربي» حيث وأثناء زيارة ميدانية لتفقد القطعات العراقية في الأردن سافر كل من عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف إلى الأردن وبعد اتصالات سرية مع حكومة عبد الناصر زارا أثناء اجازة نهاية الاسبوع سرا مدينة الرمثة الحدودية الأردنية، ومنها عبرا خلسة إلى الجانب السوري حيث اجتمعا في مدينة درعا الحدودية السورية مع موفد حكومة عبد الناصر وزير الداخلية عبد الحميد السراج ووزير المواصلات امين النافوري وأحمد عبد الكريم وزير البلديات, حيث سلماهم رسالة سرية وعاجلة إلى الرئيس جمال عبد الناصر طالبين دعم واسناد الجمهورية العربية المتحدة لحركة الضباط الوطنيين في العراق. وهذه الرسالة كما ارسلها نصا كل من عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف إلى حكومة الجمهورية العربية المتحدة معنونة إلى جمال عبد الناصر:
“رسالة من تنظيم الضباط الوطنيين العراقي إلى سيادة الرئيس جمال عبد الناصر المحترم
«نود تفضل سيادتكم باطلاع بان هناك تنظيماً سرياً في الجيش العراقي، وإن ضباط هذا التنظيم قد فاض بهم الألم وما عادوا يطيقون الصبر أو يقدرون عليه، وإنهم سوف يتحركون مهما كلفهم الأمر ضد نورى السعيد وكل من يمثله، ابتداءً من حلف بغداد، إلى التآمر على القومية العربية».
حيث ورد الجواب عاجلا بطريقة النصيحة التي سميت الاخوية «من ثوار مصر إلى ثوار العراق» وتلخصت بجملة نقاط هي:
1- برغم التقدير العالي لحكومة الجمهورية العربية المتحدة للثقة العالية من الضباط العراقيين ان أي تدخل بالأسلوب الذي يطلبه الضباط العراقيين يعد هيمنة من حكومة عبد الناصر على حركة العراق.
2- يمكن التنسيق العسكري في مجال المعلوماتي والسوقي والتعبوي.
3- تدعم حكومة عبد الناصر بشكل كبير الحركة عسكريا وتسليحيا واعلاميا, كما ستدعمها سياسيا ودبلوماسيا وفي المحافل الدولية كحركة عدم الانحياز الناشئة حديثا ومع الدول الكبرى كالاتحاد السوفيتي.
4- ان يتبنى الضباط العراقيين أسلوب الكتمان الشديد في تحركاتهم وانتقاء أفضل العناصر المهنية والمؤمنة والكتومة في صفحة التنفيذ.
5- من المهم جدا ان يتبنى امر اللواء الذي سيقوم من جانبه بمهمة التنفيذ ان يضع خطة تنفيذ الحركة لانه هو الادرى بقطعاته ونقاط قوتها ومراكز ضعفها، ولانه هو المعني بتحركات قطعاته وبمسارها وتوقفها.
وبناء على الرد الجوابي لعبد الناصر عقدت قيادة تنظيم تيار قاسم \ عارف اجتماعا حاسما اتفقوا بموجبه ان يضع عبد السلام عارف خطط تنفيذ الحركة طالما ان لوائه، اللواء العشرين هو المكلف بالتحرك للأردن من قبل رئاسة اركان الجيش والقيادة العامة للقوات المسلحة.
تولّى القيادة الرئيسية للعمليات منذ ذلك الحين رجلان مع دعم من هم بمعيتهم من ضباط أعضاء التنظيم، هما كل عبد الكريم قاسم آمر اللواء التاسع عشر وعبد السلام عارف آمر اللواء العشرين، وقد أخفيا الموعد المحدد لقيام الحركة، لضمان عدم تسرب الأخبار وفي يوم 13 تموز قام كلاهما بزيارة بغداد وتحديد مسار الحركة ومهام التنفيذ. وفي 10 تموز وبعد عطلة عيد الأضحى مباشرة صدرت الأوامر العسكرية من القيادة العامة للجيش بتحرك اللواء العشرين في 14 تموز إلى الأردن وكان اللواء العشرين أحد تشكيلات الفرقة الثالثة التي يقودها الفريق غازي الداغستاني في معسكر المنصورية، للوقوف في وجه التهديدات الإسرائيلية على الأردن، وكان قائد الجحفل أو القطعات المنتخبة من معسكرات مختلفة والمتجهة إلى الأردن، هو اللواء أحمد حقي. وعند ذلك اعتبر قادة الحركة بأن الفرصة مناسبة لتنفيذ حركتهم أو ثورتهم ضد الحكم الملكي.
وضع الرجلان خطط التحضير والقيام بحركة تموز 1958 وأُعطيت لخلية التنظيم من الضباط ممن تقرر إشراكهم في تنفيذ الحركة، حيث كان توجّس العميد عبد الكريم قاسم من تصرفات الحكومة وأي عملية ثورة مضادة فاتفق مع العقيد عبد السلام عارف بإنشاء غرفة عمليات سرية يديرها قاسم من مقرة في معسكر المنصورية برفقة امر المعسكر الرئيس الأول إبراهيم الشيخ علي ال غصيبه وبعض الضباط الاخرين من التنظيم وأُوكلت لبقية الضباط تنفيذ العمليات داخل وخارج بغداد مستغلين فرصة قيام الاتحاد الهاشمي بين العراق والأردن وتحرك القطعات العراقية لإسناد الأردن ضد التهديدات الإسرائيلية لقيام الاتحاد. كما اتفق التنظيم على عدم إخبار القوات الزاحفة من غير أعضاء التنظيم بما ستقوم به في بغداد من إعلان للثورة ؛ خشية من تسرّب أخبار ذلك إلى الحكومة وقيادة الجيش. وإصدار التعليمات للضباط أعضاء التنظيم، الذين سيقومون بمهام تنفيذ الحركة بعدم أخبار أي ضباط آخرين؛ للمحافظة على السرية والمباغتة، ومنعاً لتسرب أخبار الثورة.
عبد السلام عارف يشرع بتنفيذ خطته لاحتلال بغداد
سير قطعات اللواء العشرين إلى الأردن
المقالة الرئيسة: خطة حركة 14 تموز 1958
اختار عبد السلام عارف لنفسه تنفيذ عدد من العمليات وهي السيطرة على مقر قيادة الجيش في وزارة الدفاع والسيطرة على مركز اتصالات الهاتف المركزي والسيطرة على دار الإذاعة إضافة إلى أهدافا أخرى حيوية كالسيطرة على القصر الملكي وقصر نوري السعيد ومعسكري الرشيد والوشاش.
وفي يوم 14 تموز، تهيّأ اللواء العشرين بقيادة عبد السلام عارف للتحرك لبدء تنفيذ الحركة. حيث درس الأعضاء البارزين للهيئة العليا لتنظيم الضباط الوطنيون وبحضور العميد الركن عبد الكريم قاسم خط سير الرتل المزمع سلوكه عبر بغداد، كما استمعوا إلى إيجاز قدّمه العقيد الركن عبد السلام عارف عن الخطة التي وضعها ضمن تحرك لوائه للسيطرة على بغداد ويمكن وصف خطة عارف وخط سير القطعات بالتالي:
تقع على خط سير القطعات الذاهبة للأردن المواقع المهمة التي تشكل أهدافا إستراتيجية لتنفيذ الحركة ونجاحها فيما إذا تمت السيطرة عليها. فيمر خط السير المخصص للقطعات، بضمنها اللواء العشرين الذي سيقوم بتنفيذ الحركة والذي يتكون من أربعة كتائب أو افواج وذلك عبر عدد من النقاط والمواقع الإستراتيجية الهامة والتي لا مَناص من السيطرة عليها حيث كان الرتل الذاهب أصلاً للأردن سيمر قاطعا بغداد من الشرق إلى الغرب، أتيا من لواء «أو محافظة» ديالى في الشرق حيث معسكر المنصورية ومتوجها عبر جنوب بغداد نحو الطريق الدولي الموصل للحدود الأردنية.
فبدئا بالتحرك من معسكر المنصورية يمر خط السير عبر طريق بغداد – ديالى القديم مرورا بشرق بغداد من جهة منطقة المشتل المؤدي إلى بغداد الجديدة المجاورة لمعسكر الرشيد في الزعفرانية وهو المحطة الهامة الأولى التي سيسيطر عليه بأحد الكتائب الأربعة، ومن ثم التوجه إلى الباب الشرقي حيث جسر الملكة عالية «جسر الجمهورية حاليا» وهو المحطة الثانية المهمة لتامين تدفق قطعات اللواء للعبور إلى جانب الكرخ. ومن هنا يجب أن تتقسم الكتائب المتبقية إلى ثلاثة أرتال للاستكمال السيطرة على قاطع الرصافة قبل العبور إلى الكرخ، فيذهب الرتل الأول للسيطرة على قاطع مديريات شرطة باب الشيخ وهو أحد أهم مراكز الشرطة الذي يتضمن غرفة حركات الداخلية المكلف بمهمة الاتصال بوزارة الداخلية ورئاسة الوزراء عن أي تهديد امني ومنها يتم قطع الاتصالات الهاتفية للبدالة المركزية، ثم يتوجه لاحتلال وزارة الدفاع وهي أيضا مقر القيادة العامة للقوات المسلحة في الباب المعظم ثم يسطر الرتل نفسه على معسكر الحرس الملكي في الكرنتينة المجاورة وبعد ذلك يسيطر على مقرات البلاط الملكي في الكسرة المجاورة أيضا. وبعد عبور جسر الملكة عالية يوجد موقعين هامين يجب السيطرة عليهما واحتلالهما الأول قصر الزعيم البارز نوري السعيد ومحطة دار الإذاعة العراقية في منطقة الصالحية المتاخمة للجسر، وهي أهم النقاط التي يجب السيطرة عليه لإذاعة البيان الأول للحركة وتوجيه القطعات والجماهير عبر الإذاعة. ومن جسر الجمهورية يستمر خط السير للتوجه عبر كرادة مريم «المجمع الرئاسي أو المنطقة الخضراء حاليا» ثم الحارثية حيث معسكر الوشاش المسيطر على قاطع الكرخ ويليه قصر الرحاب مقر إقامة الملك وولي العهد عبد الإله وهو أحد أهم النقاط الإستراتيجية ليأخذ شارع اليرموك المتوجه إلى غرب بغداد إلى الطريق الدولي نحو الحدود الأردنية.
اتخذ عبد السلام عارف عدد من الإجراءات داخل اللواء العشرين الذي بإمرته هدفها ضمان نجاح تنفيذ الحركة منها، أصدر أوامره باعتقال كل قادة القطعات العسكرية والتي ستشارك في الجحفل والتي ستمر عبر خط سير القطعات الذاهبة للأردن، أي القطعات المزمع تنفيذها للحركة من غير تنظيم الضباط الوطنيين وعيّن بدلاً عنهم ضباطًا من التنظيم ثم أصدر عدة أوامر هامة، وهي:
أ ـ يتسلم العقيد عبد اللطيف الدراجي قيادة اللواء العشرين مع عبد السلام عارف لكي يتمكن الأخير من التحرك بمرونة لقيادة العمليات والسيطرة على القطعات والوحدات الأخرى ومعالجة أي طارئ، إضافة إلى قيادة الكتيبة الأولى من اللواء التي تكلف بعدد من المهام على رأسها، الاتصال بأعضاء تنظيم الضباط الوطنيين في معسكر الرشيد ودعمهم للقيام بتنفيذ الخطة التكميلية وهي السيطرة على وحدات المعسكر والانطلاق مع وحدات اللواء العشرين لإتمام المهمة، وفي حالة فشلهم يستمر اللواء العشرين بالمهمة وحده الذي سيتوجه لاحتلال قاطع شرطة باب الشيخ وقطع الاتصالات الهاتفية المركزي ثم السيطرة على جسر الملكة عالية في الباب الشرقي. وعند مرورها في منطقة الصالحية تحتل القطعات دارالإذاعة.
ب – يتوجه الرائد بهجت سعيد إلى قصر نوري السعيد رئيس الوزراء للقبض عليه.
ت ـ تكلف الكتيبة الثانية بقيادة المقدم عادل جلال بالتوجه لقاطع الباب المعظم لاحتلال وزارة الدفاع ثم تطويق معسكر الحرس الملكي في الكرنتينة لشله عن الحركة وحصار الديوان الملكي في الكسرة.
ث ـ يعين المقدم فاضل محمد علي قائدًا للكتيبة المدرعة الثالثة المكلفة باحتلال الكرخ بالتعاون مع قطعات منتخبة من معسكر الوشاش الذي يقوده الزعيم عبد الرحمن عارف «شقيق عبد السلام عارف» المكلف بالسيطرة على الشوارع والنقاط المهمة في قاطع الكرخ.
ج ـ يتوجه الرائد عبد الجواد حامد الجومرد على رأس سرية خاصة للتوجه إلى منطقة الحرثية لحصار قصر الرحاب حيث يقيم الملك فيصل الثاني، وولي عهده الأمير عبد الإله لاعتقالهما.
د – وبعد إنجاز المهام الرئيسية والتي روعي أن تتم أغلبها بشكل متزامن يتوجه عبد السلام عارف بنفسه لإذاعة البيان الأول.
وبهذه الخطة المحكمة استطاع عبد السلام عارف إحكام قبضته على بغداد، وتوجه إلى مبنى الإذاعة وألقى بيان الثورة.
وعند بدء تحرك القطعات الروتيني بدأ وكان كل شيء يمر بهدود ورتابة كما خططت له القيادة العامة للقوات المسلحة، إلا أن نذر عاصفة عاتية قد هبت بعد مرور القطعات في بغداد بقيادة اللواء أحمد حقي الذي تجاوز بغداد مارا بالفلوجة القريبة حيث نجح الضباط بتنفيذ الخطة للإطاحة بالنظام، وقد تولى العقيد الركن عبد السلام عارف بفاعلية وشجاعة قيادة القطعات الموكلة له منفذا جميع العمليات الموكلة إليه والتي أدت إلى سقوط النظام الملكي، وكتب رسالته الشهيرة لوالده عند الشروع بالحركة طالباً رضاه والدعاء له بتحقيق النصر أو الدعاء له ليتقبله الله شهيدا في حالة وفاته حيث أذاع عارف بنفسه البيان الأول للحركة صبيحة 14 تموز 1958.
في هذه الأثناء كان العميد الركن عبد الكريم قاسم يراقب عن كثب سير الأمور ويشرف على العمليات من مقره في معسكر المنصورية في محافظة ديالى المتاخمة لبغداد، حيث كان قائدًا للواء التاسع عشر الذي لم يكن مخططا ذهابه مع القطعات الذاهبة للأردن، فلما بلغه احتلال عبد السلام عارف لبغداد لحق به وسمع من مذياع سيارته صوت عبد السلام عارف وهو يلقي بيان الثورة، وإعلان قيام الجمهورية العراقية. وبعد سماع النباء بإذاعة البيان الأول، خرجت الجماهير عن بكرة أبيها على شكل موجات هائجة ومظاهرات تأييد ومناصرة تملأ شوارع العاصمة والمدن الأخرى وأصبح العهد الملكي بين ليلة وضحاها من ذكريات الماضي كما أصبح في تلك اللحظات الحرجة مكروها من غلبية فئات الشعب.
ردود الأفعال العربية والدولية
كان وقع الحدث عربيا ودوليا كبيرا وبدرجات متفاوتة حسب مواقف هذه الدولة أو تلك، فتلقت الجمهورية العربية المتحدة النبأ كالصاعقة وبعث قادتها برقيات التأييد والدعم حتى أن عبد الناصر ألقى خطابا خاصاً أعلن فيه أن أي اعتداء على ثورة العراق يعتبر اعتداء على اتحاد «مصر وسوريا» كما أرسل الوفود الرسمية والشعبية لدعم الحركة بضمنها وفد الأحزاب الشعبية بعد أقل من أسبوع داعين ومرحبين لدخول العراق في الاتحاد العربي «الجمهورية العربية المتحدة» ،. أما الولايات المتحدة الأميركية فقد أصدرت أوامرها بإنزال قوات الأسطول السادس المتواجد في البحر المتوسط في لبنان للتأهب للدخول إلى بغداد وإعادة النظام الملكي بناء على إستراتيجية أميركية وضعت بشكل بيان سري وقعة الرئيس الأميركي ايزنهاور عام 1952 يتضمن ضرورة تطويق الاتحاد السوفيتي في الشرق الأوسط بعدد من الدول الحليفة والحفاظ على منابع النفط ولو استلزم احتلالها أو إحراقها. أما الاتحاد السوفيتي فقد كان من أوائل الدول التي اعترفت بالجمهورية الجديدة.
أما بريطانيا التي تلقت صفعة كبيرة وهي التي خططت للهيمنة على العراق لفترة ثلاثمائة سنة من خلال تطوير علاقاتها التجارية والعسكرية وإرسال المبعوثين والتجار والجواسيس ودعم الثورة العربية الكبرى وغير ذلك، فكانت تعتبر العراق جزءًا من بقايا مستعمراتها أو الكومنولث، فقد كان وقع الخبر عليها كالصاعقة وباديء الأمر فقدت توازنها السياسي فقامت بإعلان إنذار لقطعاتها العسكرية في الخليج وخصوصا الكويت والبحرين وبإنزال قوات عسكرية أخرى في الأردن بغية التدخل لإعادة الأوضاع في العراق وحماية الأردن من عمل ثوري مشابه، ثم لاحقاً فضلت استخدام سياسة امتصاص الغضب والتخطيط الهادئ للحفاظ على مكانتها ومصالحها في العراق خصوصا النفطية، فاستناداً إلى مركز الوثائق البريطانية تم التوقيع على اتفاقية بموجبها تحافظ بريطانيا على مصالحها في العراق بضمنها استمرار عمل شركات النفط البريطانية. ثم اتفقت بريطانيا مع فرنسا وإسرائيل بلعب أدوار سياسية لتقويض الحركة فأخذت في تفتيت التحالف الثوري والوحدوي، فحرّكت ضدهم التيارات الدينية الإسلامية وأظهرت من خلال وسائل الإعلام الموالية لها الموجهة للتيارات الماركسية والشيوعية بأن اللعبة أمريكية وأدعت للوطنيين ارتباط الحركة بالخارج، وبالفعل بدأ الخلاف يبدأ بين أفراد الشعب العربي والعراقي خصوصا الذي انعكس على قادة الحركة المنتمين إلى تيارات مختلفة.!!!!!
Discussion about this post