فى مثل هذا اليوم6اغسطس1998م..
حنان عشراوي تقدم استقالتها من الحكومة الفلسطينية.
يمكن تفسير الضجة المثارة حول استقالة الدكتورة حنان عشراوي من اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية بأكثر من سبب، أهمها من دون شك أن الأمر نادر الحدوث. لا أحد يستقيل من اللجنة التنفيذية أو من المناصب العليا في الهرمية الوظيفية في فلسطين، لو استثنينا سابقة أو ثلاثاً ظهرت كحوادث أبرزها اعتذار محمود درويش عن الموقع عشية توقيع اتفاقيات أوسلو، والتي جاءت في سياق تحفظه عن الاتفاقية من جهة، ورغبته في التفرغ للكتابة من جهة أخرى. يمكن إضافة استقالة إدوارد سعيد من عضوية المجلس الوطني، أيضاً، معترضاً على الاتفاقيات التي رأى أنها صفقة خاسرة للفلسطينيين. وسيبدو الأمر أكثر مأسوية عندما نتذكر أن المستقيلين، درويش وسعيد، هما من كتب “وثيقة الاستقلال” التي تبنتها منظمة التحرير.
من الصعب الحصول على استقالة طوعية من اللجنة التنفيذية. لا تحسب استقالات ممثلي الفصائل القائمة على احتجاجات ومناورات سياسية، إذ إنها في أفضل أحوالها أقرب الى تعليق العضوية أو تجميدها الى حين التوصل الى تفاهمات أو نشوء ظروف تقتضي العودة عنها.
في التفاصيل، يشكل ممثلو الفصائل النواة الصلبة ضمن مكوّنات اللجنة التي هي المؤسسة الأعلى في هيكلية المنظمة، وهم الى جانب الأمناء العامين للفصائل الأكثر ثباتاً في المشهد، يصعب تبديلهم أو زحزحتهم عن المقعد، ولو من باب تداول السلطة داخل فصائلهم، بينما حسم بعض الأمناء العامين الأمر عبر الجمع بين المنصبين.
يمكن احتساب التوقيت أيضاً، التوقيت يشكل جانباً من الرسالة دائماً، فالاستقالة حدثت بعد عودة العلاقات مع سلطات الاحتلال، وبعد أن لم يحدث أي تغيير في تركيبة المنظمة، وبعد أن أصبح واضحاً أنه لن يحدث، وبعد فشل “المصالحة” للمرة العاشرة.
كما لا يمكن تجاهل رحيل أمين سر اللجنة التنفيذية الدكتور صائب عريقات وخلو الموقع الثاني في النظام السياسي الفلسطيني.
تفتح استقالة حنان عشراوي من عضوية اللجنة التنفيذية باباً مغلقاً على أسئلة كثيرة. الدبلوماسية وعضو وفد المفاوضات الشهير الى جانب الراحلين فيصل الحسيني وحيدر عبد الشافي، السيدة الناجحة ذات الثقافة العالية، والإعلامية التي حققت حضوراً متميزاً في تقديم صورة حضارية وذكية للخطاب الفلسطيني الموجّه للغرب، الشاعرة والأكاديمية…
استقالة هادئة في مرحلة قاسية، بدت غير مثبتة في البداية وأقرب الى شائعة يمكن نفيها، قبل أن تتأكد وقبل أن يقبلها الرئيس الفلسطيني، ولكنها أدرجت مبكراً بنداً في سيرة عشراوي في “الموسوعة” الشخصية على شبكة الإنترنت.
عشراوي التي أوضحت بعد الضجّة المثارة حول استقالتها، الأسباب التي دفعتها لاتخاذ القرار، وهي، أي الأسباب، تكرار لمطالبات شعبية ومتداولة على نطاق واسع وغايات متعددة. تقوم جميعها على عبارة “إعادة إصلاح المنظمة واستعادة دورها ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني”.
منذ فترة طويلة أضاف الفلسطينيون الى حلمهم التاريخي بـ”العودة” أحلاماً جديدة تتمتع بالقدم والمبالغة مثل: “إصلاح المنظمة”، “المصالحة”، “إنهاء الانقسام” و”الانتخابات”، ما شكّل لديهم جدول أحلام طويلاً ومرهقاً.
تبدو المنظمة مثل عربة مترهّلة تتدحرج وحيدة على منحدر بينما تتساقط أحمالها وتتفكك على الطريق، لتعود على شكل أحلام.
كان ياسر عرفات يعرف جيداً أن المنظمة لا تمثل الفلسطينيين فقط، ولكنها أيضاً تمثل الحضور العربي في المشروع الفلسطيني، لذلك كان يحرص على وجود ممثلي الدول الفاعلة، أنظمة دول الطوق على وجه الخصوص، البعث بجناحيه السوري والعراقي، اللذين تناوبا على الانشقاق عن المنظمة ومحاولة تفكيكها والاستيلاء على قرارها طوال عقدي السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، وكان يترك للنظامين، بما فيهما النظام المناوب الذي يقود الانشقاق في حينه، حقائب جاهزة في عضوية اللجنة التنفيذية، ويترك مساحة للمستقلين، غير المستقلين غالباً، قنوات اتصال لا تغلق.
في الداخل كان يستقوي على اللجنة المركزية لـ”فتح” باللجنة التنفيذية للمنظمة، ويستقوي على اللجنتين بـ”القيادة الوطنية للفصائل والقوى والشخصيات الوطنية”، وهي جسد هلامي قابل للطي والنشر لجأ اليه عرفات في الكثير من القرارات.
وبرغم ذلك، كانت هناك دائماً مساحات كافية للحوار والاختلاف والنقد القاسي داخل الأطر وداخل النظام، هذا مفقود تماماً الآن، معظم النقد يأتي من الخارج ويمكن صده بسهولة، الخارج الذي تعدّد في العقود الأخيرة؛ خارج النظام وخارج الهيئات وخارج مناطق السلطة وخارج مزايا الولاء. خلال عمليات الصد والتجاهل كانت السلطة تواصل التهام حضور المنظمة ونفوذها ودورها، في عملية تحوّل مركّبة بديلاً كاملاً، السلطة بديلاً للمنظمة و”فتح” بديلاً للسلطة والقيادة بديلاً لـ”فتح” والرئيس “بديلاً” للقيادة، ما عزز الحواجز مع القاعدة وبين الوطن والشتات، بحيث تضاءلت حصة الشتات في المؤسسات الفاعلة والجسم الوظيفي لهيكليات العمل ومواقع اتخاذ القرار. في الداخل تجري محاولة دؤوبة لتجفيف مؤسسات المجتمع المدني، محاولة غير مدروسة وغير مخططة، ولكنها نتيجة حتمية لتراكم هذه التحولات واكتمال هذا الاستبدال.
أهمية استقالة حنان عشراوي تكمن في أنها حدثت فعلاً، وأنها ذكّرت بخيار الاستقالة، ليس ثمة أهميات أخرى ولن يغير غياب عشراوي من الواقع السياسي الفلسطيني،!!
Discussion about this post