ورقات 3 :
” مبدعون غادرونا في صمت
لكنهم في الذاكرة يقيمون ”
الشاعر محمد الصغير أولاد أحمد :
عرفته في أواخر سنة 1974 في مدرسة بئر الباي حيث كنا درسنا في نفس القسم في شعبة تنشيط الشباب والطفولة وافترقنا بعد التخرج هو في ميدان الشباب بسيدي بوزيد وأنا في ميدان الطفولة في بنزرت ولم نلتق إلا في بداية تسعينات القرن الماضي بحيث جمعتنا الكتابة والشعر .
وهو شاعر ومبدع تونسي من مواليد 4 أبريل 1955أي في منتصف الخمسينات من القرن الماضي في سيدي بوزيد . عاش في بيئة فقيرة وقاسية في فترة خروج الاستعمار الفرنسي وبداية بناء الدولة التونسية. بحيث بدأ تعليمه في كتّاب القرية، فتعلم القراءة، وحفظ القرآن ثمّ دخل المدرسة الابتدائية بمنطقة النوايل في سيدي بوزيد ومنها حصل على شهادة التعليم الابتدائي عام 1968. ولم تكن هناك في تلك الفترة مدرسة ثانوية في مدينة سيدي بوزيد فانتقل إلى ولاية قفصة لمواصلة تعليمه الثانوي. وانتقل إلى العاصمة التونسية حيث واصل دراسته بالمدرسة العليا لإطارات الشباب بمنطقة بئر الباي بين 1975 و1977 وحصل على شهادة منشط شباب. في عام 1978 عاد إلى سيدي بوزيد وحصل على شهادة البكالوريا، وسافر إلى فرنسا حيث درس علم النفس في جامعة رامس.
محمّد الصغير أولاد أحمد بدأ تجربة الكتابة الشّعريّة في أواخر السّبعينات، إثر إنهاء دراسته، وكان قد دافع عن الكرامة والحريّات و لكنّه سُجن في منتصف الثمانينيات وحُجبت العديد من قصائده. تولّى إدارة بيت الشّعر من سنة 1993 إلى سنة 1997 . و كان معجبا بالشعراء ( محمود درويش – نزار قباني – عزالدين المناصرة – مظفر النواب ) وغيرهم من الشعراء العرب.ونشر أعماله في العديد من المجلات والجرائد العربية .
من أشهر قصائده قصيدة ” نحب البلاد كما لا يحب البلاد أحد ” و ” نساء بلادي نساء و نصف “.
له العديد من المقالات الصحفية المنشورة هنا وهناك في تونس وخارجها.
صدر له :
(1) نشيد الأيام الستة : مجموعة شعرية صدرت سنة 1984
(2) ليس لي مشكلة : مجموعة شعرية صدرت سنة 1998 عن دار سراس للنشر .
(3) جنوب الماء : مجموعة شعرية صدرت سنة 1992 عن دار سراس للنشر
(4) حالات الطريق : سنة 2013
وكتابان نثريان :
(5) تفاصيل : سنة 1991
(6) القيادة الشعرية للثورة التونسية : سنة 2013
في 15 أكتوبر 2015 كرمت وزارة الثقافة الشاعر في المسرح البلدي بالعاصمة بإشراف وزيرة الثقافة « لطيفة الأخضر » وبمشاركة عدد من الشعراء والفنانين والمبدعين اعترافا بما قدمه من إنتاجات قيمة.
توفي يوم 5 أفريل 2016 بالمستشفى العسكري بتونس بعد معاناة وصراع مرير مع المرض.
“””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””
” ليس لي مشكلة ”
للشاعر المرحوم محمد الصغير أولاد أحمد
” هوية إنسانية بامتياز. يتجسّد فيها المقدس والوطني”
قراءة بقلم الشاعر عمر دغرير:
بعد كتابه ” نشيد الأيام الستة ” في عهد الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة والذي اكتشفنا فيه ملامح شاعر غاضب وثائر ضد السلطة الأمر الذي جعل النظام التونسي آنذاك يأ مر بحجزالكتاب لفترة تجاوزت 4 سنوات بحيث لم يتم تسريحه إلا في سنة 1988.
ولأنه شاعر متفرد ويريد أن يعيش خارج السرب وليس له مشكلة مادام يتميز برحابة الصدر ويمتلك قلبا رقيقا وطيبا ويكتب بلغة قريبة منا. لغة مكتنزة بالكثير من المعاني . كتب مجموعته الثانية بهذا العنوان : ” ليس لي مشكلة”. وأظنه استنبط لنفسه مدرسة شعرية متفردة وقائمة على لغة سهلة وبسيطة من خلال كلمات في متناول الجميع بحيث جاءت قصائده مغايرة للنمط السائد وذات طراز خاص لم يسبقه له غيره . حتى أنه كتب يقول :
” شُفيتُ من الشِعر …
مَاعاد بي مَرضٌ
غيرَ خوفي على أمّةٍ قلقةْ …
ولكنّ أمرًا بسيطا يُحيّرني :
أنّ بيتَ القصيدةِ في المِشنقةْ …
وأنّي ذهبتُ مرارًا
إلى القبرِ
لكنّهمْ طردوني
ولمْ تحْتملني
سِوى الورقةْ… ” .
وهو بالفعل كان يحمل قلق هذه الأمة وحيرتها . وكان يخاف عليها من الخطر القادم مع تجار الدين بكل أطيافهم . علما وأنه خاض في حياته معارك قاسية مع الاسلاميين الذين كفروه واعتدوا عليه اكثر من مرة وخاصة تكفيره من الاخواني القرضاوي وبعض قيادات حركة النهضة .
والشاعر في هذه المجموعة بالخصوص أثبت انخراطه في تيار الشعر الملتزم فجاءت قصائده مزدحمة بالغضب والتوتّرإضافة إلى بعض التهكّم والسخرية. رغم غوصها في واقع البلاد العربية والعباد بصفة عامة .
في هذه المجموعة قسم الشاعر قصائده إلى ثلاثة محاور . محور( للحب) وآخر (ضد الموت) والثالث (للأحجار).
ولعلّ أجمل ما كتب في المحور الأول :
” إذا لمْ أمتْ فاعذِرُوني
لأنّ الحبيبَ وصَلْ …
وأحْرقَ إسْمي وجسْمي
وأشْعلني بالقُبلْ …
فلا تُطفِئوهُ لئلاّ …
ولا تُطفئوني
لكيْ لا تضِلّوا السُبلْ ..” .
وفي المحور الثاني وقد اختار له عنوان (ضد الموت ) كتب قصيدة وهو في السجن في شكل رسالة إلى صديقه الكاتب التونسي سليم دولة الذي قال عنه أثناء تقديمه لمجموعته ” تفاصيل ” :
” في كل المعارك التي خاضها أولاد أحمد مع رجال الدين ومناصريهم. كان جريئا في إرهاق الخطاب الديني بالأسئلة لينزع عنه حجاب التقديس وصبغة الإطلاقية. بحيث كانوا يتطيّرون منه ومن كتاباته لكونه يؤمن بإله أجمل من إلههم …” .
وقد كتب أولاد احمد في رسالته يقول :
” وتسيرُ وحدكَ
تقرأ الصحراءَ :
عاشقةٌ …
وقلْبُ الماءِ منْ حَجرٍ …
وزاهدةٌ
كزاويةٍ تُزارُ …
جبالُها تجْري
وأنجمُها السرابُ ..
زبدٌ…
رمادٌ…
وحشةٌ…
كفنٌ…
غيابُ .
عربٌ …
وفَضّلنا الكِتابُ …” .
أما المحور الثالث فقد خصه لأطفال الحجارة واستماتهم أمام دبابات العدوالصهيوني فقال :
” سَرقُوا كِتابي
ثمّ ابْني
ثمّ خُبزي
ثمّ أرْضي
ثمّ ماذا ؟
والقَمرْ …
لمْ يبقَ لي غيْر الحجرْ
ويديّ
والمقلاع
منْ مِنهمْ يبارزني إذَنْ ؟ ” .
وفي ديوان ” ليس لي مشكلة ” كتب أولاد أحمد يقول معبرا عن مناخه الشعري الجديد وهو يواجه خصومه الإسلاميين بالأساس :
” ليسَ لي مُشْكلةْ
ذاهبٌ لأرى اللهَ مُنفردًا …
سَاقولُ لهُ :
يا حَبيبي
اريدُ مكانا عدَا الأرضَ
والنارَ
والجنّةَ المُقفلةْ …” .
وبمثل هذا الأسلوب الساخر كتب اغلب قصائد هذه المجموعة . سخرية لاذعة فيها القسوة الممزوجة بالمرارة، وفيها الجرأة والتحدّي في آن .
والمرحوم الشاعر أولاد احمد كان لايخاف الموت وكان دائم التشبث بالحياة و بالأمل وقد ختم المجموعة بقوله :
” الريحُ آتيةٌ
وبُيوتهمْ قشُّ
والكفّ عاليةٌ
وزُجاجهمْ هشُّ
لا تحْزنُوا أبَدًا
إنْ شرّدُوا طيرا
يَمْضي لهُ العشُّ …” .
وقبل أن أختم لا بد أن أشير بأن الشاعر اولاد احمد ساهم بصورة مباشرة في تطوير الشعر العربي الحديث وذلك بإدخال الرمزية في نصوصه التي يمتزج فيها الحب بالوطن والحبيب والغربة .
وقد قال عنه النقاد :
“هو هوية إنسانية بامتياز. يتجسّد فيها المقدس والوطني…” .
ولا بد أن نقر بأن المرحوم بالفعل نحت التاريخ واختزله في مفردات اللغة تماما مثلما ينحتها فنان مدهش عبر نوستالجيا فريدة تواكب حركة الحياة المتغيرة.
والملاحظ أن قصائده كانت أقرب إلى أن تكون سيمفونيات أدبية مفعمة بالموسيقى والإيقاع الشعري. الأمر الذي جعل بعض الفنانين يختارون قصائده لتأديتها غنائيا.
والملاحظ أيضا أن قصيدة “أحبّ البلاد كما لا يحبّ البلاد” هي أيقونة من أيقونات الشعر في تونس وفي الوطن العربي ويستحضرها الصغير قبل الكبير في حبّ البلاد وعشقها.
رحم الله الشاعر أولاد أحمد .
“””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””
في ( جنوب الماء ) الشعر هوالحياة والإرتواء.
قراءة بقلم الشاعر عمر دغرير :
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾ سورة الأنبياء الآية: 30
وهذا يعني أنه لولا الماء لما كان على وجه الأرض حياة. والمعروف ان الماء يروي الظمان ويروي النبات والحيوان. ولكن في رواية قديمة سال الحجاج المساور بن هند بن قيس بن زهير بن جذيمة العبسي وهوشاعر مخضرم عمر طويلا قال له :
” لم تقول الشعر بعد الكبر؟
فأجابه بدون تردد : أسقي به الماء. وأرعى به الكلأ.وتقضي لي به الحاجة. فإن كفيتني ذلك تركته…” .
وعلى هذا الأساس استفزني سؤال وأظنه استفز الجميع :
ما علاقة الشعر بالماء ؟ وهل للماء جنوب كما ورد في المجموعة الشعرية الثالثة للشاعر محمد الصغيرأولاد أحمد( جنوب الماء )؟
لقد صدرت المجموعة عن دار سراس للنشر سنة 1992 في طبعة أنيقة ضمت عشرين قصيدة . استهلها الشاعر بقصة المساور بن هند العبسي مع الحجاج . وأظنه تعمدها للتأكيد على أن هناك علاقة ما بين الماء والشعر . وأن الماء هو الحياة وأن الحياة فيها شمال وفيها جنوب وفيها رواء وفيها جفاف .ومن البداية وبالتحدي في صفحة 4 كتب أولاد أحمد :
” بين حبات المطر
أستطيع التعرف على دموعي…” .
وعموما في المجموعة قصائد متنوعة الأهداف وعميقة المعاني وكلها تشير إلى أن الشاعر أولاد أحمد لايكتب الشعر من أجل الشعر فقط وإنما ينحت أجمل الكلمات من أجل الحياة ومن أجل الشعب والوطن والحرية . وقد اعتبر في تلك الفترة من أهمّ الأصوات الشعرية المبدعة والمقاومة للاستبداد في المنطقة العربية علما وأنه اشتهر بقصيدة “أحبّ البلاد كما لا يحبّ البلاد” التي جاءت أول قصيدة في كتاب (جنوب الماء ) والتي اعتبرها الكثيرون أجمل أيقونات الشعر في تونس والتي بات يستحضرها الصغير قبل الكبير في حبّ البلاد وعشقها.
و(جنوب الماء) هو عنوان المجموعة وفي نفس الوقت عنوان قصيدة اختزل فيها كعادته السخرية والتمرد على كلّ الولاءات العمياء متحديا كلّ الأصنام التقديسية. مخلخلا بالكلمات الصاعقة فكرة السلطة والدكتاتورية منحازا إلى هموم الحياة اليومية للشعب الكادح والمظلومين من العباد في هذه البلاد .
ولأنه يعتبرالشعر ماء يروي العطاشى والمحرومين فقد بدا قصيدته بدعوة إلى حب الشعر وعشق اجمل الكلمات التي لها طعم المدام وقد تنفع العباد وهو القائل :
” فإن حلو الكلام
لمسكر كالمدام
ونافع للعباد …
أدر علينا الكؤوسا
وعبها بالهواء …
فقد نطيل الجلوسا
عيوننا في السماء …
تصطاد غيما عبوسا
حتى يجود بماء…” .
وفي نفس المجموعة نشر قصيدته المشهورة ” إلاهي أعني عليهم ” وهو المعروف بمعارضته الشديدة لحكم الإسلاميين مباشرة بعد ما سمي بالثورة في تونس وتحديدا فترة حكم الترويكا.وقد أثارت ضجة كبيرة في الساحة الأدبية والسياسية في تلك الفترة ولعلها استمرت حتى بعد وفاته . علما وأنهم اتهموه بالزندقة والكفر وتعرض إلى العنف والتهديد بالقتل من قبل بعض الأصوليين على شبكات التواصل الاجتماعي .
والملاحظ أن الشاعر في هذه القصيدة نجده يسخر من الإسلام السياسي ومن أدعياء الحقيقة والقائمين باسم الربّ الواحد الأحد والماسكين برقاب العباد البسطاء على الأرض المغتصبة . حتى أنه إستعرض فيها ما حدث من تجاوزات وممارسات لهؤلاء الملوك والرؤساء الذين إذا دخلوا قرية أفسدوها باسم الدين والآخرة .وهوالشاعر الرافض لواقعٍ تتحكّم فيه أنظمة قمعيّة. بينما الشعب يعيش الصمت والفقروالحرمان
ويستمر تمرده ومشاكساته وسخره من هؤلاء التقاة حتى أنه يدعو ربه إذا كان لابد أن يدخله الجنة المشتهاة فلن يكون مع الأتقياء. وقد وصل به الأمر إلى الإقرار بأنه نشر كتابا جديدا منتصرا فيه للحب والفرح والحرية وهذا ما يفترض أن يقوم به الأنبياء من مهام فضل منهم حتى اننا نجده يقول :
” إلاهي :
سمعت تقاة يقولون عنك كلاما مخيفا
فحادفتهم بالكتاب
استوى حية
لدغتهم جميعا
وعادت كتابا
إلاهي العلي …
ألا يمكن القول أني نبي ؟…” .
والملاحظ أيضا أن في كل قصائد المجموعة تحضر بامتياز الفلسفة والتاريخ والجغرافيا والدين والعاطفة ولعلها طريقة من طرق أولاد أحمد المتمرّدة والمتفردة في آن . قصد الوصول وبلغة واضحة وبسيطة إلى قلب القارئ ودعوته إلى النهوض إثر كل سقوط .
وكما عودنا في كل مجموعاته الشعرية لابد من تواجد لقصائد تتغنى بالنضال الفلسطيني من أجل استرجاع حقه في الوطن وفي الحياة فنراه يختم ( جنوب الماء ) بقصيدة بعنوان ” حركات فلسطينية ” لها أكثر من دلالة و قد جاء فيها :
” حجر
يحط على الجنود … وينفجر …
حجر لتحرير الحجر …
حجر ينادي :
يا حجر
هذي بلادي
وأنا وحيد كالحجر…” .
وفي الختام (جنوب الماء) هي فلسفة شاعر كان متمكنا من أدوات اشتغاله ويدرك تمام الإدراك بأن الشعر قد يعوض الماء للإرتواء . وأظنه عاش صادقا في وفائِه للكلمات ومؤمنا بالشعر وبماء الحياة . رحم الله الشاعر محمد الصغير أولاد أحمد .
Discussion about this post