في مثل هذا اليوم20 اغسطس1914م..
ألمانيا تحتل بروكسل في الحرب العالمية الأولى.
حرب بدأت أوروبية وانتهت عالمية، أشعل شرارتها طالب جامعي بعد اغتياله ولي عهد النمسا عام 1914، وانتهت بصراع عنيف لأربع سنوات شاركت فيه أكثر من 70 دولة، راح ضحيتها نحو 22 مليون إنسان، ومهدت لتغييرات سياسية كبيرة، وكانت وراء ثورات في دول عديدة.
الأسباب المباشرة وغير المباشرة
رغم أن السبب المباشر لنشوب الحرب العالمية الأولى حادثة اغتيال ولي عهد النمسا فرانز فرديناند مع زوجته من قبل طالب صربي يدعى غافريلو برينسيب في 28 يونيو/حزيران عام 1914 أثناء زيارتهما لسراييفو.
لكن الدارسين يرصدون جملة من الأسباب غير المباشرة، مهدت لقيام الحرب، من أبرزها توتر العلاقات الدولية في مطلع القرن العشرين بسبب توالي الأزمات، كأزمة منطقة البلقان وتصارع الدول الأوروبية للسيطرة عليها وطرد الخلافة العثمانية منها، سيطرت على إثرها النمسا على البوسنة والهرسك عام 1908، واشتعلت حربا البلقان الأولى والثانية.
بالإضافة إلى الصراع بين فرنسا وألمانيا وإيطاليا على النفوذ في شمال أفريقيا، أدى نمو النزعة القومية داخل أوروبا وتطلع بعض الأقليات إلى الاستقلال إلى تأزم العلاقات بين الدول توترت على إثرها العلاقات الدولية عام 1913.
يضاف إلى ذلك تزايد التنافس الاقتصادي والتجاري بين الدول الإمبريالية لاقتسام النفوذ عبر العالم والسيطرة على الأسواق لتصريف فائض الإنتاج الصناعي والمالي، والتزود بالمواد الأولية، فضلا عن دخول الدول الإمبريالية في تحالفات سياسية وعسكرية، أدت إلى سباق تسلح بين الدول المتنافسة التي رفعت من نفقاتها العسكرية.
وبعد حادثة اغتيال ولي عهد النمسا، وجهت النمسا إنذارا لصربيا في 23 يوليو/تموز 1914 تطلب فيه الموافقة خلال 48 ساعة على 10 مطالب، ورغم أن صربيا وافقت على معظم هذه المطالب، إلا أن النمسا عدتها رفضا وأعلنت الحرب على صربيا في 28 يوليو/تموز رغم المساعي الدولية لحل الخلاف.
بعد إعلان النمسا الحرب على صربيا، بدأت آلية التحالفات الأوروبية تتفاعل، حيث ناصرت روسيا صربيا وأعلنت الحرب على النمسا لرغبتها في السيطرة على المضائق، ذلك غير استيائها من الأمير الألماني الذي يحكم ألبانيا، والتعاون العسكري بين ألمانيا والدولة العثمانية، مما جعل ألمانيا تعلن الحرب على روسيا في 1 أغسطس/آب 1914، وبعدها بيومين على فرنسا.
كانت دوافع ألمانيا من الحرب رغبتها في تحقيق مكاسب سياسية واقتصادية، أما بالنسبة لبريطانيا فأرادت القضاء على التمدد الألماني والبروسي، وما لبثت أن أعلنت هي الأخرى في 4 أغسطس/آب الحرب على ألمانيا.
وفي 6 أغسطس/آب أعلنت الإمبراطويرة النمساوية (النمسا والمجر) حربها على روسيا، وتلاها إعلان فرنسا وإنجلترا الحرب على النمسا في 10 و11 أغسطس آب.
تشكلت مجموعتان الأولى سميت بقوات الحلفاء (الوفاق الثلاثي) ضمت فرنسا وبريطانيا وصربيا والجبل الأسود وبلجيكا، والثانية دول الوسط (المركز) مشكلة من النمسا وهنغاريا (المجر) وألمانيا، ثم انضمت اليابان إلى الحلفاء لرغبتها في بسط نفوذها على الصين، والسيطرة على منطقة شانتونغ الصينية التي كانت تحت سيطرة ألمانيا، فالتحقت الصين بدورها إلى صف الحلفاء.
كان موقف الدولة العثمانية الحياد أولا، لكنها اضطرت للوقوف بجانب دول الوسط في 3 نوفمبر/تشرين الثاني دفاعا عن حدودها المهددة من نفوذ بعض الدول من صف “الحلفاء”، وتوسعت التحالفات مع اتساع دائرة الحرب إما طمعا في السيطرة، أو رغبة بالاستقلال.
ميلان الكفة لصالح دول الوسط
دامت الحرب أكثر من أربع سنوات، تحولت خلالها من حرب أوروبية إلى حرب عالمية، وشهدت الحرب الأوروبية (1914-1916) فترتين، عرفت الأولى بحرب الحركة والثانية بحرب الخنادق، وأخذت الحرب طابع الثبات في المواقع، وقامت الجيوش المتقابلة على الجبهات بحفر الخنادق وتحصينها وتجهيزها، واستخدمت أسلحة جديدة مثل الدبابات والطائرات.
بدأت الحملة الأولى بالجبهة الغربية في 20 أغسطس/آب 1914 بعد أن استطاعت ألمانيا احتلال بروكسل عاصمة بلجيكا، مما مكنها من احتلال الجزء الشمالي من فرنسا، لكن سرعان ما انقلبت الموازين في معركة المارن في 6 سبتمبر/أيلول وأوقفت فرنسا التمدد الألماني، وتحول الألمان من وضع الهجوم إلى الدفاع في حرب الخنادق مع الحدود السويسرية.
وقد استطاع الألمان (حلف الوسط) عام 1915 تحقيق عدد من الانتصارات على الحلفاء، فاستعمال الغواصات ساهم بقلب الموازين، فألحقوا الهزيمة بالروس في معركة “جورليس تارناو” واحتلوا بولندا ومعظم مدن لتوانيا، وحاولوا قطع خطوط الاتصال بين الجيوش الروسية وقواعدها للقضاء عليها.
ورغم أن الروس حققوا بعض الانتصارات الجزئية على الألمان فإن خسائرهم الباهظة (حوالي 325 ألف أسير) لم تسمح لجيشهم باسترداد قواه، وأدى النجاح الألماني على الروس إلى إخضاع البلقان، وعبرت القوات النمساوية والألمانية نهر الدانوب لقتال الصرب وألحقوا بهم هزيمة قاسية.
كما استطاع الألمان في نفس العام تحقيق انتصارات واضحة على بعض الجبهات، وبقيت جبهتهم متماسكة أمام هجمات الجيشين الفرنسي والبريطاني.
في المقابل كان للدولة العثمانية دور مهم لدى دول الوسط، وذلك لتحكمها في مضيقي الدردنيل والبوسفور، حيث أغلقتهما أمام إمداد روسيا من قبل فرنسا وإنجلترا، فردت دول الحلفاء في 18 مارس/آذار 1915 بحملة الدرنديل للسيطرة على المضائق، لكنها انهزمت واضطرت للانسحاب نهاية 1915، وأعلنت حصارا بحريا على شواطئ الشام تسببت بزيادة سوء الوضع الاقتصادي.
وقع صدام بين الدولة العثمانية والوجود البريطاني لطرد الإنجليز من المنطقة العربية، لكن الإنجليز تمكنوا بالنهاية من إحكام قبضتهم على قناة السويس، واحتلال بغداد، كما أحبطوا الثورات التي اندلعت في مصر وليبيا واليمن، بالإضافة إلى استطاعتهم تحريض الشريف حسين لإعلان الثورة “العربية الكبرى” في 10 مارس/آذار 1916، التي ساعدت بإشغال الدولة العثمانية.
وازدادت حدة المعارك خلال عام 1916، وشهد معركتي “فردان” التي دامت سبعة أشهر، و”السوم” التي استمرت أربعة أشهر، وجرتا على أرض فرنسا وظهرت الدبابة لأول مرة في ميادين القتال، وأُجبِرَتْ ألمانيا على التقهقر، وقُضِيَ على جيشها المدرب لتعتمد على المجندين من صغار السن.
ورغم إخفاق الإنجليز في الاستيلاء على غزة أبريل/نيسان – مايو/أيار 1916، إلا أنهم نجحوا في احتلال القدس في ديسمبر/كانون الأول في العام نفسه، ليستطيعوا بعدها التقدم نحو الشمال واحتلال دمشق وحمص وحماة وحلب.
دخول أميركا يقلب الموازين رغم انسحاب روسيا
وتميز عام 1916 بحرب الغواصات التي كانت إحدى نتائجها دخول الولايات المتحدة الأميركية الحرب، فخلال هذا العام وقعت حرب في بحر الشمال بين الأسطولين الألماني والإنجليزي عرفت باسم “جاتلاند”.
كما لجأ الألمان إلى محاولة إغراق أي سفينة تجارية لتجويع بريطانيا وإجبارها على الاستسلام، وكان من بين السفن التي تم إغراقها عدد من السفن الأميركية الأمر الذي دفع الولايات المتحدة إلى الدخول في الحرب إلى جانب دول الوفاق في 6 أبريل/نيسان 1917.
وكانت الولايات المتحدة قبل دخولها الحرب تعتنق مذهب “مونرو” الذي يقوم على حياد أميركا في سياستها الخارجية عن أوروبا، وعدم السماح لأية دولة أوروبية بالتدخل في الشؤون الأميركية، لكن الضغوط الصهيونية بعد الحصول على وعد بلفور من بريطانيا، وخوف الولايات المتحدة من تحالف المكسيك مع ألمانيا لاسترجاع أراضيها جعل الكونغرس الأميركي يوافق على دخول الحرب.
استفاد الألمان من نجاح الثورة البلشيفية في روسيا في أكتوبر/تشرين الأول 1917 وتوقيع البلاشفة اتفاقية صلح برست ليتوفسك في الثالث من مارس/آذار 1918 التي خرجت بموجبها روسيا من الحرب.
وقد شجع خروج روسيا من الحرب القيادة الألمانية على الاستفادة من قواتها التي كانت على الجبهة الروسية وتوجيهها لقتال الإنجليز والفرنسيين، فاستطاع الألمان تحطيم الجيش البريطاني الخامس في مارس 1918، وتوالت معارك الجانبين العنيفة التي تسببت في خسائر فادحة في الأرواح، والأموال.
في المقابل، استفاد الحلفاء من الإمكانات والإمدادات الأميركية الهائلة في تقوية مجهودهم الحربي، واستطاعوا تضييق الحصار على ألمانيا على نحو أدى إلى إضعافها، فبحلول صيف عام 1918، كان يتم إرسال عشرة آلاف جندي يوميا إلى فرنسا.
كما أرسلت الولايات المتحدة سفينة حربية إلى منطقة مياه “سكوبا فلو” لتنضم لأسطول مدمرة غراند البريطانية للمساعدة في حراسة القوافل، وأرسلت عدة أفواج من قوات مشاة البحرية الأميركية إلى فرنسا.
في محاولة لمنع استفادة الحلفاء من دخول أميركا الحرب قامت ألمانيا بـ”هجوم الربيع 1918″ (هجوم لودندورف) على امتداد الجبهة الغربية في 21 مارس/آذار وعملت على تقسيم القوات البريطانية والفرنسية، وكانت تأمل في إنهاء حربها قبل وصول القوات الأميركية التي كان لديها عدد كبير من الجنود.
قام الحلفاء بهجوم مضاد في معركة أميان 8 أغسطس/آب 1918، التي مهدت لهجوم “المائة يوم”، وقد شاركت أكثر من أربعمائة دبابة و120 ألفا من قوات الحلفاء، ووقعت عدة معارك منها معركة ألبرت بوم 21 أغسطس/آب ومعركة أراس الثانية التي تضمنت معركة سكارب، ومعركة خط دروكورت كيويانت، مما أجبر ألمانيا على التراجع وطلب الهدنة.
وفي سبتمبر/أيلول 1918 أطلقت القوات الأميركية والفرنسية هجوما نهائيا على خط هيندينبيرغ في معركة غابة أرجون، وبعدها بأسبوع تعاونت الوحدات الأميركية والفرنسية على التغلغل إلى مقاطعة شامبانيا الفرنسية، وبدأت معركة بلانك مونت ريدج وأجبر الألمان على التراجع نحو حدود بلجيكا، كما استطاع الفيلق الكندي والجيش البريطاني الأول والثاني اختراق خط هيندنبيرغ ووقعت معركة كامبري الثانية.
انهارت قوات “دول الوسط” بسرعة وكانت بلغاريا أول من وقعت على الهدنة في 29 سبتمبر/أيلول 1918 في سالونيك، وتوالت الانهيارات وتوقيع اتفاقيات الاستسلام، لتوقع ألمانيا هدنة “كومبين” مع الحلفاء داخل إحدى مركبات السكك الحديدية في 11 نوفمبر 1918 الساعة الخامسة مساء، ويدخل وقف إطلاق النار حيز التنفيذ في الساعة الحادية عشرة من اليوم الحادي عشر من الشهر الحادي عشر.
الخسائر البشرية
تسببت الحرب في خسائر بشرية كبيرة حيث لقي أكثر من 8.5 ملايين جندي مصرعهم و20 مليون جريح، وقتل أكثر من 13 مليون مدني، وأسر أكثر من 29 مليون شخص منهم مدنيون، وتكبد الجيش الصربي أكبر الخسائر بخسارة ثلاثة أرباع جنوده (130 ألف قتيل و135 ألف جريح).
كانت معركتا فردان والسوم عام 1916 أكثر المعارك التي وقعت فيها خسائر كبيرة، فتسببت معركة الفردان لوحدها بـ770 ألف عسكري بين قتيل وجريح ومفقود، بينما تسببت معركة السوم في مليون و200 ألف عسكري بين قتيل وجريح ومفقود.
تسببت الحرب أيضا بأسر 6 ملايين سجين، ووضع 20 مليون مدني تحت الاحتلال عام 1915، ولجوء أكثر من 10 ملايين في جميع أنحاء أوروبا، ورملت الحرب 3 ملايين امرأة، ويتمت 6 ملايين طفل.
النتائج السياسية
عقد مؤتمر الصلح في فرساي في مطلع العام 1919 بحضور مندوبي 32 دولة، وحضر مندوبو الدول المهزومة للاستماع للشروط التي صدرت بحقهم، بينما وقعت المعاهدة بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة فقط.
بناء على معاهدة الصلح التي وقعتها ألمانيا في 28 يونيو/حزيران 1919 قسم جزء من أراضيها ووزع على الدول المجاورة، وحملت مسؤولية أضرار الحرب.
تبعتها النمسا بتوقيع معاهدة “سانت جرمان” التي فصلت هنغاريا (المجر) عنها في 10 سبتمبر/أيلول 1919، ثم وقعت النمسا معاهدة مع بلغاريا في 27 نوفمبر/تشرين الثاني 1919، ومع هنغاريا معاهدة “تريانون” في 4 يونيو/حزيران 1920.
كما وقعت الدولة العثمانية معاهدة “سيفر” في 10 أغسطس/آب 1920، والتي اعترض عليها العثمانيون فاستبدلت بمعاهدة “لوزان” عام 1923، وبقيت حدود “تركيا” ضمن إسطنبول وجزء من الأناضول.
خلفت الحرب خسائر اقتصادية كبيرة، فانتشر الفقر والبطالة، كما عانت الدول المتحاربة من أزمة مالية خانقة بسبب نفقات الحرب الباهظة، فازدادت مديونية الدول الأوربية وتراجعت هيمنتها الاقتصادية لصالح الولايات المتحدة الأميركية واليابان.
وتغيرت خريطة أوروبا بعد الحرب، فتفككت الأنظمة الإمبراطورية القديمة، وسقطت الأسر الحاكمة، كما تغيرت الحدود الترابية للقارة الأوروبية بظهور دول جديدة، وقامت الثورة الروسية التي طبقت أول نظام اشتراكي في إطار الاتحاد السوفياتي.
تم إنشاء عصبة الأمم المتحدة في مدينة جنيف السويسرية، والتي لم تسمح بانضمام “دول الوسط” في البداية، وتم حلها في النهاية.
انضمت الخلافة العثمانية إلى دول المركز في هذه الحرب، فمثل ذلك بداية النهاية للتاريخ العثماني، ووضعت هزيمة ألمانيا ومعها الدولة العثمانية مصير المشرق العربي في أيدي بريطانيا وفرنسا.
كان الشريف الحسين بن علي شريف مكة يحلم بإنشاء دولة عربية كبرى، وكانت علاقته بالخلافة العثمانية سيئة جدا، وكانت بريطانيا حريصة على اجتذاب العرب إلى جانبها فدخلت في مفاوضات سرية معه، وتم تبادل رسائل بينه والسير هنري مكماهون مندوب بريطانيا في مصر والسودان.
تعهدت بريطانيا بإعطائه دولة عربية كبرى فدخل الحرب إلى جانبها معلنا ما عرف بـ”الثورة العربية” ضد العثمانيين في يونيو/حزيران 1916 بمشاركة ضابط الاستخبارات البريطاني لورنس الشهير بلورنس العرب، واستطاعت الحركة السيطرة على الحجاز بمساعدة الإنجليز.
وتقدم ابنه فيصل نحو الشام فوصل إلى دمشق بعد خروج العثمانيين، وأعلن فيها قيام الحكومة العربية الموالية لوالده، الذي كان قد أعلن نفسه ملكا على العرب، غير أن الحلفاء لم يعترفوا به إلا ملكا على الحجاز وشرق الأردن.
وعلى الرغم من وعود بريطانيا للعرب، فقد أجرت مفاوضات واتفاقيات سرية مع فرنسا وروسيا تم بموجبها اقتسام تركة الدولة العثمانية بما فيها البلاد العربية، ثم انفردت بريطانيا وفرنسا في اتفاقية سرية عرفت باتفاقية سايكس بيكو (1916) نسبة إلى كل من المندوب البريطاني مارك سايكس والمندوب الفرنسي فرانسوا جورج بيكو.
وبموجب هذه الاتفاقية التي فضح أمرها بعد الثورة البلشفية في روسيا سنة 1917، تقاسمت فرنسا وبريطانيا البلدان العربية وأُخضعت كل مناطقه للاستعمار تحت اسم الانتداب، وفي نفس السنة أعلنت بريطانيا وعدها لزعماء الصهاينة بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، فيما عرف بوعد بلفور الصادر في 2 نوفمبر/تشرين الثاني 1917.!!
Discussion about this post