قصة قصيرة
رحيل خيرفي
المقطع الثالث
لاذت ملابسه النظيفة ــ التي استُحضرت ــ خلفها.
نادت الكنّة على العمّة، من خلف الباب:
ــ هل تحتاجين شيئا أيتها العمّة؟
قالت :
ــ لا أحتاج.
كانت ذراعا المريض، تزحفان بعناء لكي تستلقيا على عطفيها، وبدا جسده على نحو واضح، مدعوما بزندين سافرين، يستلقي رهالُ لحمتهما اللدنة على جسده ، بشكل يوحي اليه، بالفةٍ مفتقدة، ونسمةٍ شفيفةٍ من إثارةٍ لمشاعره الكابية .
قالت:
ــ كيف أصل الى أسفل جسدك؟
عَبَرَت بساقيها. وسط الطست. حاوية إيّاه، بذراعيها ، لاصقة قدميها بالتعاقب. متّكئة الى الخلف ، بحيث : أمسى بإمكانها ، أن تمرر يديها بالصابون الى أسفل. وخرطت بعناية دائبة ، تلك الظُلمة، وعلى نحو سريع. مارّة ، بإمعان حتى طرفيه.
قالت الكنة من خلف الباب:
ــ أتحتاجين ماء دافئا أيتها العمّة؟
قالت:
ــ لست بحاجة.
سكبت الماءَ على قمّة الرأس و الوجه. سكبت على الظهر. سكبت على الصدر. مُتيحة للماء أن يندلق ، من صدرها على الثديين، الى حوضها و بين الردفين.
رفعته بنصف استلقائة. منحرفة عن الطست. دافعة إيّاه الى أمام. و شرعت يداها تمّرّان بالمنشف : من قمّة رأسه حتى قدميه. ثم امتدت يمناها، لاقطة ملابسه قطعة قطعة . متيحة لنفسها :أن تتريّث، و تأخذ نفسا هادئا، يفعمها .. ذلك العطر المنبعث من جسده ، و فروة رأسه.
اكتست الوسادة ، بشرشف نظيف. الفراش و الغطاء كذلك.. أراحته على فراشه و غطّته . طلبت مشطاً لتسرّح شعر لحيته ، و فروة رأسه، فبدا بوضع أفضل .
نادت على الكنّة ثانية:
ــ اسرعي يا بنيّة .
فتحت الباب.. وقبل أن توصده.. لاح الفيء و قد زحف في فناء الدار, ناءت الكنّة بثقل الطست .
قالت العمّة :
ــ ناوليني مكنسة أيتها النادرة.
قالت الكنّة :
ــ خذي راحتك أيتها العمة، و استبدلي ثيابك بهذه.
قالت العمّة :
ــ فدتك عمّتك أيتها النادرة.
عادت الكنّة بالمكنسة. كنست بخفّة، وعلى نحو هادئ و سريع. ثم دفعت بنار متوقدة. أوصدت الباب. ونثرت الحرمل و البخور، لكي يكون الملاذ عبقا و منعشا. رتّبت ما تبعثر من محتويات الغرفة. ساعدت عمّتها على خلع ملابسها و استبدالها بغيرها. اُعيد فتح الباب و النافذة.
كانت عينا المريض تتفرّسان بالوجوه. زوجته الكبيرة و ابنه و الكنة و الصغار.
قال الابن مخاطبا أباه:
ــ امرأة أبي تنتظر هناك ، حتى ينجز الطبخ.
قال الأب أنا جائع.
هرعت الكنة ، لكي تنبئ الزوجة الصغيرة .
قالت الصغيرة و كأنها صعقت :
ــ وطلب أكلا؟!!
قالت الكنّة:
ــ يا لك من قاسية!.. أتعلمين إنك غائبة عنه؟
تذوّقت الكنة الحساء و صاحت :
ــ ملح.. قليلا من الملح.
رشّت الملح وخاطت بالحساء فصار جاهزا. أحضرت الضرّة الصغيرة.. إناءً و ملعقة.
قالت الكنّة:
ــ يحتاج لفترة حتى يبرد . لا تجعلي الناس يغتابونك يا أُخيّة . احمليه بنفسك.
أعان الولد أباه. لكن الأم : طلبت أن يسنده الى حضنها. و بدأت تنفخ بالملعقة.. كان المريض ينصرف بعينيه الى الصغيرة. والتي أقعت عند الباب، حاشرة ذراعيها تحت شالها. مُتّكئة على كفّيها، المنكفِئتين على ركبتيها .الواحدة فوق الأُخرى.
قال الابن:
ــ لا تجلسي هكذا يا زوجة أبي.. تعالي هنا.
تململت، وظلّت مقرفصة. شبحت عيناه الى اقعائها. وهباء الشمس يربض أمامهما . استمرّت الكبيرة تطعمه، فأشار بيده معلنا كفايته.
قالت الضرة الكبيرة:
ــ هل تحلق وجهك؟
هزّ رأسه رافضا. أسجته على فراشه .بدا وجهه نظيفا و ممتقعا. ظلّت عيناه تبحثان.
قال الابن:
ــ اقتربي منه يا زوجة أبي.
زحفت باتجاهه. جاعلة هباء الشمس يسقط على كتفها.
قال الإبن:
ــ إنه يبحث عنك.
اقتربت.. سقطت يده الى جانبها . تحاشت أن تمحي المسافة مع اليد، التي بدت خابية الحركة. عزفت إرادتها أن تعود الى جانبه.
قالت الكنّة للزوجة الصغيرة :
ــ إنه راغب.. أن يمسك بيدك. اقتربي أكثر.
* * *
كانت حصيلةٌ من الهباء تنزلق من كتفي الضرة الصغيرة . وينسكب شيؤه في حجرها ، زاحفا بين المجتمعين.. بفيض من الحزن.
انتبهت الكنة الى حركة مريبة، صدرت عن العمّة . لاحت شفة المريض تقصر. ومنخراه .. يرتجفان. ووجهه مائل الى الشحوب.
أشارت الزوجة الكبيرة الى ابنها :
ــ ساعدني.. على أن نُقبّل رأسه ، في الجهة الصحيحة واجلس خلفه.
همت عيناها و أنّت بصوت خفيض، سرعان ما تعالى . وانتحب الباقون . دأبت يده الراجفة ، باحثة عن شيء. استمرّت الظلال.. زاحفة على الجدار المقابل .
أوحت ملامح الفيء.. أن الشمس الغاربة، ماضية في الأفول . والظلال.. يهبط بدثاره.. على رحبة المكان. والملامح.. توشك .. أن تندرس .
موسى غافل
Discussion about this post