لماذا نستمع إلى الموسيقى؟
في حديثٍ مثمرٍ شيّق دَاَرَ بيني وبين واحدٍ من مخضرمي الموسيقى حولي، طَرَحَ عليَّ سؤالاً حول أهميةِ الاستماعِ إلى الموسيقى، إذاً، ما أهميةُ الاستماعِ إلى الموسيقى؟
بدايةً، لقد تمكنت كلاً من علوم الأركيولوجيا الأنثروبولجية من معرفة جانب من طرقِ عيش الأقدمين ومعرفةِ حياتهم الاجتماعية وطريقة تنظيمِ مجتمعاتهم من خلال الفن بشكلٍ عام، الموسيقى جعلتنا نفهم بعض الجوانبِ الفكرية عندهم، بل وجعلتنا نفهم أيضاً السيكولوجيا الدينية عِندَ مجتمعاتِ ما قبل التاريخ، فالموسيقى لم تكن مجردَ لهواً أو ترفاً، سواءً أكانت رفيعةً أو وضيعة، بل كانت ضرورةً ملحّة من ضروراتِ المجتمعاتِ البشرية، إذ يُعتقد أن الموسيقى كانت جزءًا من تجارب الإنسان منذ العصور البدائية، وقد تطورت مع الزمن لتصبح جزءًا لا يتجزأ من حياة البشر في مختلف الثقافات والتواجد الجغرافي، يقول إرنست فيشر أنه “يكاد يكون عمر الفن بعمرِ الإنسان”، وبالاستعارةِ والاستفادة، أقولُ أن “عمر الموسيقى هو عمر الإنسان”، فهما -الإنسانِ والموسيقى- عنصرانِ متلازمانِ ابداً، لا يمكن فصل تاريخهما عن بعض، فهي علاقة ديناميكية معقدة تشكلت ظروفها وفقاً لمعطيات المجتمعاتِ البشرية والحضارية، ودليل ذلك هو تطور المدارس والأساليب الفنية والموسيقية عبرَ العصور، فتطور الموسيقى لم يكن إلا انعكاساً لتطورِ فِكرِ الإنسان.
أمَا لو توجهّنا إلى نظريات علم النفس، يقودنا هذا إلى توصيات بعض الأطباء والمشخصين بالاستماع إلى نوعٍ محدد من الموسيقى التي تجعل الإنسان يشعر بالاسترخاء، ويسمى هذا عند المتخصصين من أهلِ الخِبرةِ والعلم “العلاج بالموسيقى”، لكن لو أردنا أن نتعمق في علمِ النفس أكثر، يقسم الإنسان كل ما هو محسوس في حواسه الخمسة إلى ما هو حسن أو رديء، جيد أو سيء، جميل أو قبيح، سواءً أكان ذلك صوتاً أو طعماً أو رائحة أو مشهد، إن آذننا تعتبر أن النغمة الموسيقية هي ناتج للإيقاع الناشئ عن التذبذب الدوري بين مجموعةِ النغماتِ التوافقية “overtone”، التي تجتمع معاً لتكوّن النوتة الموسيقية، الصوت الجميل الصادر عن النوتة الموسيقية يجعل دماغنا يشعر بالمتعة، بل يذهب به الأمر إلى أكثر من ذلك، إلى النشوة الموسيقية (يوفوريا) التي قد يعتبرها دماغنا مكافئة ويحرر بسببها هرمونات تُشعرنا بالسعادة كالدوبامين مثلاً، إذ أن دماغ الإنسان لا يعتبر جميع الأصوات موسيقية ولا يثيره أي صوت، فصوتِ حفيف الأشجار بالليل لا يعجب دماغنا، بل ينذرنا بالخطر حسب علم النفس التطوري، وبالحديث عن علم النفس التطوري، هناك بعض الدراسات التي تُشير إلى أن الموسيقى عند الإنسان القديم كان لها دوراً في البقاء، إذ أن الأقدمين احتفلوا بصخبٍ وبهجة عِند الصيد والتزاوج، هذا الأمر عزز من توطيد العلاقات الاجتماعية فيما بينهم وعزز من تواصل الأفراد، وكان هذا الأمر مهم للغاية في المجتمعات البشرية القديمة.
أما السبب الأهم للاستماعِ إلى الموسيقى يكمن في أن الموسيقى تساعد الإنسان حتى يتذكر معانٍ أعمق، وهي ما يسمى بآلية التقييم المشروط حسب دراسةٍ جديدة في عِلم النفس قام بها كلاً من (د. باتريك جوزلين أستاذ علم النفس من جامعة أوبسالا في السويد و د. دانيال فياسفيل أستاذ علم النفس أيضاً من جامعة جوتبورج من السويد أيضاً)، توضح هذه الدراسة سبب استجابتنا العاطفية للموسيقى، إذ أن شعور الفخر الذي ينتابنا أثناء الاستماع إلى الموسيقى الوطنية مثلاً أو العاطفية، يكون مرتبطاً ومشروطاً بمناسبة معينة حدثت أثناء الاستماع إلى تلك الموسيقى، فالاستماع إليها يتسبب في أن تشعر بشعورٍ (إيجابيّ أو سلبيّ) حسب الحدث الذي بدأتَ تربطه بهاتهِ الموسيقى مع غياب عوامل الحدث، بمعنى أن مشاعر الفخر تُجاه موسيقاكَ الوطنية قد تكون مرتبطة ومشروطة بحدثٍ ما قد حَصَلَ أثناء استماعك لهذه الموسيقى، وليس من الضروري أن تعرف هذا الحدث، فكل شيء مسجّل في اللاوعي ومحفوظ فيما سيما “الذاكرة الضمنية” وهذه الذاكرة تأخذ حيزاً كبيراً من العقل الباطن، وحسب عِلِمِ الأعصاب، يرتبط ذلك في مناطق تحت قشرية في الدماغ تتضمن اللوزة الدماغية والمُخيخ، في الذاكرة العرضية يتم تشكيل صلة وثيقة بين موسيقى وحدث وشعور، أي أنك أثناء حدوث حدث محدد كان شعورك كذا وكانت الموسيقى المُرافقة في الخلفية كذا، عند لقاءك بمن تحب مثلاً (الحدث) كنت منتشياً من شدة السعادة بمحبوبك (الشعور) وكانت الموسيقى المُرافقة لذاك الحدث هي (what a wonderful world) للمغني الأمريكي (لويس آرمسترونغ)، لاحقاً، في كلّ مرةٍ سوف تستمع فيها إلى هذه الأغنية سوف تتذكر هذا الحدث، وقد تشعر وكأنك تعيش الشعور مجدداً، نتيجة لذلك، نستنتج أن اقتران مقطوعة موسيقية مع حدث عاطفي مثلاً، ستكون تنبيه عصبي فعّال في استعادة أحاسيسك ومشاعرك أثناء حدوثِ الحدث.
يرتبط الأمر أيضاً بما يُسمى بـ(ذاكرة الأحداث Episodic Memory)، وهي القدرة على تذكر واسترجاع الأحداث والتجارب التي مررت بها في الماضي، إنها جزء مهم من وظائف الذاكرة البشرية وتشمل الأحداث المهمة والتفاصيل اليومية على حد سواء، وتكمن أهميتها في بحثنا في أنها تستحضر موسيقى ما لذكرى ما، لكن ما يثير الاهتمام هنا هو قدرة الموسيقى على استحضار الذكريات بمشاعر أعمق، إذ أنه تم إثبات في بعض الدراسات التي قامت على مرضى الزهايمر أن إنصات المُصاب بالزهايمر إلى الموسيقى التي استمع إليها في شبابه تمكنه من استعادة بعض ذكرياته.
مُصطفى مليّس
21/آب/2023
Discussion about this post