ورقات 10
“مبدعون غادرونا في صمت
وهم في الذاكرة يقيمون ”
الشاعرة فاطمة بن فضيلة .
عرفتها عن طريق الصديقة الشاعرة راضية الشهايبي في 24 ساعة شعر وكذلك في ملتقى الومضة في خيمة الإبداع بمركز الإصطياف والتخيم بسوسة خلال سنة 2012 وكم أحببت قصائدها وأحببت بعد ذلك شجاعتها وتحديها لمرضها وتألمت كثيرا لتلك الرسالة التي كتبتها بتاريخ 12 جويلية 2022 وطلبت فيها من احبابها واصحابها الدعاء لها حتى يشفيها الله بعد تدهور حالتها الصحيّة. ولكن الموت كان أسرع من دعائنا , فبعد شهرين وتحديدا يوم الجمعة 23 سبتمبر 2022 وافاها الأجل وكان يوما حزينا لأهلها ولأصدقائها وصديقاتها في الحقل الأدبي والنقابي .
وفاطمة بن فضيلة هي أستاذة ونقابية و شاعرة تونسية كانت تابعت دراستها في معهد الصحافة وعلوم الإخبار في تونس، وحصلت على بكالوريوس في الصحافة وعلوم الأخبار . وتفرّغت لتدريس اللغة الفرنسية في المعاهد الثانوية. وكانت عضو اللجنة الثقافية بالاتحاد العام التونسي للشغل .وهي إضافة إلى موهبتها الشعرية التي برزت منذ زمن بعيد ,عملت في الترجمة , وترجمت مجموعة شعرية للشاعر العراقي عدنان الصائغ. كما أسست دار نشر خاصة بها اسمتها ( وشمة). وقدمت الكثير من الدواوين الشعرية . واستحقت العديد من الجوائز خلال مسيرتها الأدبية أبرزها عام 2006 حين تحصلت على جائزة زبيدة بشير للشعر. وهي تعتبر صوتا شعريا متفردا أثبتت من خلال مشاركاتها المتميّزة في جل التظاهرات الأدبية والشعرية الكبرى مقدرة كبيرة في فنّ النظم والإلقاء.
وقد أصدرت عددا من الدواوين الشعرية من بينها :
*” لماذا يخيفك عريي ”
*” رواه العاشقان ”
*” حمالة صدر بعين واحدة ”
*” أرض الفطام ”
وللتذكير فقد سبق أن كرّمت وزيرة الثقافة الدكتورة حياة قطاط القرمازي في مارس/ آذار 2022، الشاعرة فاطمة بن فضيلة، ضمن فعاليات الدورة الخامسة لملتقى ” معا للفنّ المعاصر” اعترافا بثراء تجربتها الإبداعية بين الشعر والرواية والترجمة.
وقبل نحو شهرين تقريبا نشرت الشاعرة رسالة إلى أحبابها وأصحابها دعتهم فيها إلى الدعاء لها بالشفاء بعد تدهور حالتها الصحية. وقالت في رسالتها المقتضبة التي نشرتها على صفحتها على “فيسبوك”:
” أنا الشاعرة فاطمة بن فضيلة، أكتب هذه الرسالة إلى أحبابي وأصحابي لأطلب منهم أن يكونوا معي في هذه الفترة الحرجة، فقط بالدعاء حتى أتجاوز هذه المحنة”.
توفيت الشاعرة والمربية فاطمة بن فضيلة يوم الجمعة 23 سبتمبر 2022،بعد صراع مرير مع مرض السرطان.
“”””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””
“
في جريدة المغرب بتاريخ 16 فيفري 2022
ورد مقال بقلم مفيدة خليل :
” طفلة تصنع بِلَعِبها العفويّ حياة أخرى للحياة”
ديوان شعر بروح مختلفة، زيّنت داخله الكلمات كحبّات اللؤلؤ في عنق الأميرات ديوان شعر كتب برائحة الخوف والتحدي، ديوان شعر وقصائد هي خلاصة لتجربة الكثير من النساء اللواتي يقضين الساعات تحت الة «الشيميو» وبعد كل ذاك الوجع والتعب يحملن انفسهن ويعدن الى الحياة الطبيعية مبتسمات وحالمات.
ديوان شعر صدر الى النور بعد سنوات من التحبير واختيار الكلمات والكتابة .
«فالشعر دوائي، وبالشعر ازرع نفسي بحقول من زهور القوة والجمال»
كما تقول صاحبة “حمالة صدر بعين واحدة” الشاعرة والمربية والنقابية الشرسة فاطمة بن فضيلة التي اهدت ديوانها الوليد الى كل مريضات السرطان في احتفاء تونس باليوم العالمي لمرضى السرطان الموافق ل15فيفري من كل عام.
فاطمة بن فضيلة امرأة شاعرة مبدعة ومكتظة بالحياة، قاومت السرطان ولازالت تقاومه، كلما نخر القليل من الجسد واجهته بالحب والشعر، فاطمة صنعت من مرضها قوة، صنعت من وجع السرطان وألم الادوية ترياقا للمواصلة، فاطمة بن فضيلة استاذة تدرس تلاميذها وتعلمهم منهج الحب والأمل في الحياة لم تتقاعس عن مهنتها التي احبتها بشغف رغم الألم فاطمة امرأة تشبه الكثيرات من نساء هذا الوطن قوية وحالمة، يعجز السرطان وغيره من الامراض عن الحد من ارادة حب الحياة لديها، تكتب للحب وبالحب، تدافع عن المهرجانات الشعرية وتشارك فيها وتتنقل بينها بعزيمة جدّ مميزة، قد تسكنها صفرة في الوجه احيانا، تساقط الشعر كثيرا لكن جمال الروح ظل بهيّا، تراها منهكة وخائرة القوى تتحرك ببطء لكنها تصرّ على الحضور ومتى قرأت شعرها بعثت فيها روح اخرى ووقفت شامخة تعانق نخيل الجريد كما كانت في مهرجان توزر للشعر.
” أنا فاطمةُ يا أبي
أنا غفوةُ النّهرِ
أسيلُ من النّبعِ مجردةً
لأسقيَ الفراتَ
انزلقتُ من الأرضِ
و كانتْ هناكَ
معلّقةً في الأعالي
أنا غفوةُ النّهرِ يا أبتِ
أنا فاطمةُ ” .
“حمالة صدر بعين واحدة” تجربة شعرية انسانية، وثقت فيها الشاعرة لمعاناة النساء مع هذا المرض، كتبت للأمل رغم الالم، كتبت لهنّ تشجعهن على المقاومة، فاطمة كتبت للنساء اللواتي رحلن بسرعة بسبب التنقل المتعب بين الشمال واريانة اين يوجد المستشفى الوحيد المختص في علاج مرضى السرطان، كثيرات اخترن انهاء الصراع من الجولة الاولى فسبّب رحيلهنّ جرحا غائرا في الروح عالجته بالكتابة والرسم، الديوان تجربة الكثير من النساء التونسيات اللواتي يقاومن بصمت وينتصرن احيانا وبعضهنّ يقررن الرحيل.
فتجربة مرض السرطان فتحت افاقا جديدة للشاعرة، اكتشفت عالما من التعب اليومي والكفاح المستمر والتشبث بالحياة لنساء كثيرات يقاسمنها نفس المرض، تجربة مريرة كشفت لها الكثير من المعاناة لنساء يتحملن الم «الشيميو» والأدوية فقط ليواصلن حياتهنّ البسيطة، بعضهن يقطعن مئات الكيلومترات من اقصى الشمال وأقصى الجنوب ايضا وينتظرن الساعات ليجمع لهنّ الاطباء قطرات من الادوية المتبقية للتحصل على جرعة ثم تعود الى بيتها بالنقل العمومي وكأنهن كنّ في فسحة، ليولد الديوان كما تقول الشاعرة :
” صوت للواقفات،
صوت المبتسمات
وصوت المدافعات عن حقهنّ في الحياة،
هو صوت مقاومات السرطان
في زمن شحّت فيه قطرات الدواء” .
“حمالة صدر بعين واحدة” ليس فقط ديوان شعر بل خلاصة تجربة مع المرض هي امانة تحملتها الشاعرة لإيصال اصوات النساء وهي النقابية التي اختارت ان تكون صوت المستضعفين والحالمين، الكلمات صوت النساء اللواتي يجتمعن في انتظار الدواء، الكلمات هي قصصهن وأحلامهن المؤجلة بسبب المرض:
” حين اكتشفت مرض السرطان في العام 2017 قلت انني وجدت كنزا للكتابة غير متوفر للجميع، مع بداية حصص الكيميائي تعرّفت على نساء كثيرات وعرفت قصصهنّ وحكاياتهنّ وشاركتهنّ اوجاعهنّ” . وتضيف :
” حين اكتشفت مرضي بالسرطان، في البداية خفت كثيرا وشعرت انني في نفق مظلم وتائهة وحزينة، ثمّ قررت ان الوقت لا يصلح للحزن أصلا فالسرطان ذاك الغول الذي لا نتحدث عنه، إلا همسا ونخفيه كأنه الخطيئة الكبرى، ذلك المارد الجبار الدموي، اقلم سكاكينه واكوّره تحت وسادتي كأي شيء تافه وأنام كل مساء، انا لا أقاتله ولا أصارعه ولا أحاربه، أنا فقط أحيا وسأقتله مرتين، مرة لأنني احيا نكاية فيه ومرة لانّ حرفي لن يخذلني وان خذلني الجسد» حسب تعبير الشاعرة فاطمة بن فضيلة، مضيفة «انا لا اكتب لأنني قوية، بل انا قوية لأنني أكتب الكتابة انقذتني من الاستسلام للمرض”.
.
“حمالة صدر بعين واحدة ” تجربة شعرية انسانية، تجربة تكرم من خلالها فاطمة بن فضيلة النساء اللواتي قاومن السرطان ليواصلن الحياة، وهي ايضا تحية لمن غادرن وعجزن عن المواصلة مثل «ليلى» التي لازالت الشاعرة تتذكر ابتسامتها والتي رثتها في قصيد :
” جمعنا السرطان يا ليلى ولم يفرقنا الموت …
أكتب من مأتم
صديقتي في السرطان
توفيت البارحة
نهشها مثلما تنهش هذه القصيدة
كبدي الآن
المعزيات يرمقن اصابعي وهي تتحرك
فوق لوحة المفاتيح
والقصيدة تنهش أطرافي
منذ اسبوع اخبرتني أنها ستموت
لم ازرها
ماذا سأقول لذاهبة الى الموت
هل اقول لها مثلا
تدثري جيدا
الطقس بارد هناك
خذي معك بعض الكتب للتسلية
أم أرسل معها بعض المقالات
لأولاد أحمد
ورسائل مشفرة لشكري بو ترعة ”
“””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””
ونشرت مجلة أثير بتاريخ 19 مارس 2017 قراءة
في ” أرض الفطام ” للشاعرة فاطمة بن فضيلة تحت عنوان :
“أيّها الموت تمهّل قليلا إنّني أكتب”
بقلم الشاعر محمد الهادي الجزيري :
أعرفها، أعرف الطفلة الكامنة فيها ورغبتها في التحليق، أعرف مدى تجذّرها في أرض الكتابة وهوسها بالشعر وجنونها بالقصيدة ..حمامتها إن كتبتها وغرابها إن انتهت منه ..، هي فاطمة بن فضيلة جاءت إلينا مرتديّة جبّة جديدة ، نقرأ عليها ” أرض الفطام ” ، وهي أحدث ما سطّرت أناملها :
” في اليوم الواحد بعد العاشر كان الملح
يغطّي السفح …
نبتت في خدّ الجبل كويرات بيضاء…
أتشبثّ بالملح وأصعد
يسوق النهر خطاي وأصعد
يحملني الصلصال إلى الأعلى
يخيط الضوء خطاي على باب الغارْ.. ” .
هذا المقطع موجود في ظهر الغلاف ، أرادت الشاعرة أن تبدأ به مرحلة جديدة في فنّ القول، فهي المعروفة بجرأتها وحماستها تخيّر القارئ بين شعرها المعروف وبين هذا الشجن الصاعد إليه من صلصال المفردات…، ثمّة ملح ..وثمّة ورود بيضاء وغار..ثمّة الكائن ينحت مسيرته ويستدعي ألفاظا جديدة عليه …فماذا تنوي فاطمة بن فضيلة أن تفعل القارئ الملهوف على شعرها الموسوم بالمرأة والعاشق والخيانة والغدر..ترى ماذا أعدّت لنا الشاعرة :
” إنّي أحبّكَ
والبلاد قتيلة
وطريقنا متنافر متعانق
متآلفان كغيمة ورذاذها
متداخلان كزهرة وأريجها
متقابلان كما السماء وظلّها
فوق المحيط مدارج وطوابق
متشابكان كغابة
أغصانها نحو الغزاة
بوارج وبنادق
إنّي أحبّك
والطريق فتيلة
والرافدان مفخّخان
مدافن ومحارق ” .
يا لهذا الوطن كم يكبر في الذات الشاعرة .وكم يتشعّب في داخلها، إذن نحن أمام امرأة نضجت وأضحى لها منافس لحبيبها اسمه : الوطن ..وكنيته الحريّة ، فكيف تكتب كلّ ذلك وهي الفارسة الجريئة التي لم تبخل بنبض ولا حركة ولا أيّ شيء .ولم تبح باسم من تحبّه، حتّى خرج منها صوت قويّ وجديد :
“كان يحنو على عاشقين
يمدّ من النعش كفّه
يسأل في نبرة حائرةْ
عرس من يا رفاق؟
ومن جمّع الأرض …
من وحّد الكون في نقطة دائرةْ
في الطريق الطويل المؤدّي إلى بابها المقبرةْ ” .
هكذا صوتها المغاير لما هو سائد ومختلف ..يأخذ شكل صوت الشهيد ..انفعالاته وهواجسه ويشرح الوطن لمن يبحثون عن معنى ما ..، في رحلة الوجود والعدم والتلاشي ..، هكذا تتحوّل فاطمة بن فضيلة إلى باحثة عن سبب للخلود والبقاء الأبديّ للجسد والروح والحبّ وكلّ المعاني التي شبّت عليها ….
في ختام الإطلالة على ” أرض الفطام ” أمرّ بكم بالشاعرة وهي تشرح كيف يحلو لها المشي فقط للمشي لا شيء آخر..فلا شيء يوقف رغبتها في الوصول …
” حين أحببتك أوّل مرّة
كان كلّ شيء واضحا كلغز مفتوح
لكن لفرط انشغالي بعينيك لم أنتبه
ليس هنالك حبّ أبديّ
ليس هنالك سعادة أبديّة
السير نحوهما هو الأبديّ
منذ الأزل ونحن نسير في معسكرات
مفتوحة على البرد والعطر والشمس
نصاب بالسّعال والدّوار
وحمّى المشي على الأقدام وحمّى العشق
لا شيء يوقف رغبتنا في الوصول” .
هذا قليل من كثير من ذات تونسية ..تكتب لعلّ الموت ينساها ..تكتب للحياة والخروج على القطيع ..أحيانا تغنّي للمعشوق كان وطنا أو وهما .. وأحيانا تقول بعض ما تريد ..وما تريد سوى تطويع الكلمات المتحجّرة، وهكذا نكون قد بلغنا جولتنا السريعة في ” أرض الفطام ” الصادر عن الدار التونسية للكتاب..ويستمرّ الإبداع ..
لروح الشاعرة فاطمة بن فضيلة الرحمة والسلام ولكل الأهل والأصدقاء الصبر والسلوان .
Discussion about this post