ورقات 15
“مبدعون غادرونا في صمت
وهم في الذاكرة يقيمون ”
الشاعر شكري بوترعة :
عرفته في منتدى انانا في أواخر سنة 2010 ثم في “أكاديمية الفينيق “سنة 2011 ولم ألتق به أبدا لكن تعرفت على شقيقته الشاعرة ضحى بوترعة في بعض الملتقيات ومن خلالها تعرفت على شكري الشاعر الذي اعتبره كما يعتبره غيري خصوصا في تلك الفترة مثالا للمبدع الصادق الراقي, وأظنه بذل من جسده وروحه في سبيل الكتابة حتى استنفذ آخر قطرة من حياته ,ولعله كان يعلم أن الموت يخاتله ,بل كان شبه متأكد أن الموت, قاب نبضين أوأدنى. فكتب قصيدة حزينة أظنها من أجمل كتاباته جاء فيها :
” كنت في نفق السؤال وحيدا
والموت يأخذني من يدي
ويقول لي :
إمض إلى فسحة في الغيب ولا تخف,
لا طائرات في السماء السابعة,
والموت فيه أكثر براءة.
كنت أرى الملائكة يعدون لي إلى العشرة ,
كي أستفيق,
لكني قلت :
كأن أعود من الموت ,
أو من شارع لم أكن فيه,
ففي الحالتين أنا أتيه ,
وبوصلتي السراب .
لأمت إذا , وأكون أكثر شيوعا في الغياب .
وأتخلص من عداوتي الدموية معي ,
فاسمعي يا دودة القز الصغيرة ,
يلزمك عمل كثير.
روحي عارية ,
ولست صوفيا كي أتعود الشوك رداء .
ولست نبيا كي أشرب الماء.
من السحاب
سأكون جاهزا بعد قليل.
سأكون في كامل موتي
كي أفكر بهدوء ,
فلا تقبضوا علي في أحلامكم
كي أعود
وأبتكر سفرا جديدا للخلود…” .
والشاعر شكري بوترعة هو مبدع تونسي من مواليد مدينة قفصة في 02 سبتمبر 1970 أين تلقى تعليمه الإبتدائي والثانوي .كتب الشعر منذ نعومة أظفاره ونشر كتاباته في الصحف والمجلات الورقية والإلكترونية ,و يعتبره الجميع رائدا من رواد قصيدة النثر في تونس وفي العالم العربي حيث كون مدرسة شعرية خاصة به .وتتلمذ على يديه الكثير من الشعراء. ويُذكر أنه كان كثير التغني بالموت في كتاباته, وكان يميل إلى العزلة والوحدة.
تحصل شكري بوترعة على العديد من الجوائز التونسية والعربية :
– جائزة ملتقى ابن منظور الاولى بقفصة سنة 2003 .
– جائزة مفدي زكرياء المغاربية بالجزائر سنة 2005 .
– جائزة جرسيف للشعر الاولى بالمغرب سنة 2014 .
وله 4 مجموعات شعرية :
* ” سونيتات لسيدة النهر” صدر في تونس سنة 2007.
* ” لا شيء يحدث الان” صدر عن دار ادباء للنشر والتوزيع في دمشق سنة 2008.
* ” ثمة موتى يستدرجون القيامة” صدر عن دار انانا للنشر والتوزيع في تونس سنة 2011.
* ” جنازة الاسلوب ” عن دار الهامش للنشر والتشكيل في المغرب سنة 2014.
وللشاعر شكري بوترعة علاقة غريبة مع الموت و قد كتب في آخر أيامه :
” اكْتشفتُ الليلة ان باب غرفتي لا يتسع لمرور النعش …
والموت قريب جدا مني …
وصيتي ان أدفن في غرفتي …
أنا الآن جاهز للرحيل
لك جرسي يا موت
ولك كرسيك على طاولة هذا المساء الحميمي… ”
وافته المنية صباح يوم الأحد 24 سبتمبر 2017 بعد صراع ومعاناة طويلة مع المرض.
رحم الله الفقيد وأسكنه فراديس جنانه وألهم الأهل والأصدقاء والأسرة الثقافية والأدبية الصبر والسلوان .
“”””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””
في مجلة ثقافات نشرت الصحفية والكاتبة التونسية بشرى بن فاطمة مقالا عن المرحوم شكري بوترعة جاء فيه :
” الشمس تشرق من جهة اليأس”
وخلود شاعر تحدى ” الموت ببلاغة العشب ” .
يقول شكري بوترعة :
” … مستوحشا مثل رقيم تقرأه الخرائب
أوزع البحر على السفن..
أوزع انشطاري على الجهات التي عضّها الملح ,
لم أكن في ذاك الرنين الذي يبزغ منه دم الهالكين ,
وكنت سجين المكان الذي لست فيه ” …
فقدت الساحة الثقافية في تونس مؤخرا الشاعر شكري بوترعة الذي غيّبه المرض عن سن تناهز 57 سنة كانت عطاء شعريا وتنوعا حرفيا ومجازيا أثر في الحضور الأدبي التونسي والعربي فهو سليل عائلة تقرض الشعر وتراوغ الحرف إبداعا وصناعة جمالية تصل إلى أبعد مدى التعبير تميّزه لم يكن صدفة بل معايشة لكل ما ميّز جغرافيا الوطن التي أثّرت على تضاريس جسده وعمقت الجراح السرمدية حين فتحت مسام اللغة على ثقوب الذاكرة التي فجرها الراحل صورا ومجازات تفوّقت على الغموض المعتاد في الرمزية الشعرية بسلاسة المحاكاة، فشعره يعتبر ظاهرة في مدرسة الشعر الحديث في تونس والعالم العربي بشهادة شقيقته الشاعرة ضحى بو ترعة التي قالت :
” لم يكن شكري يدرك أنه يكتب أشياء تذهل عمق الدهشة إلا في سنة 2002، حين قرأت أوراقه المبعثرة التي كان يخط عليها خواطره ونصوصه التي داعبت خيال المجاز وأذهلتني، فنشرت له أحد النصوص في مواقع الكترونية عربية فكانت الدهشة التي تجاوزتني وغمرت شكري وخلقت شكري الشاعر بكل عنفوانه المروّض للحرف فكان يكتب ويكتب بتفرد وكبرياء رغم حرفيته لم يكن يحب الظهور ولم يركض أبدا وراء الاعلام ليكتب عنه كان يترك نصوصه وقصائده هي التي تحكي عنه وهي التي تثبت وجوده وبقاءه.. شكري لم يرث الشعر مني أو من خالي الشاعر التونسي الكبير عامر بوترعة، شكري خلق بصمته بأحاسيسه وصدقه وعزلته المختارة التي خلقت الفضول حوله واستفزت المتمرسين بالحرف ليكونوا منه أقرب ويتعلموا منه جرأة مصارعة اللغة والصور والمجاز وهو ما تعلمته منه بعد أن قدمته للساحة الشعرية التونسية والعربية تعلمت منه أساليب المجاز الخارق وأن أواجهها بكل ثقة في التعبير وأتمرد على خيانات اللغة فكانت طيّعة..” .
وشكري بوترعة يعتبره النقاد وكبار الشعراء أمثال قاسم حداد من البحرين وسعدي يوسف وجوتيار تمر من العراق من أبرز الشعراء الذين قدّموا للصورة الشعرية الحديثة في تونس أجمل ألوانها التي لامست فلسفة الوجود والواقع والتعبير السريالي في غموض الحلم صورة وموقفا في تحدي ماورائيات المجاز تأثّر به الكثيرون والكثيرات الذين انطلقوا منه شاعرا ليرتقوا شعراء وشاعرات فقد ألغى عنصر التردد في صناعة الصورة والخوف من ماورائياتها خصوصا بنقده للتجارب الشعرية النسائية السطحية والمحدودة الصورة في تونس وهو ما استفادت منه كثيرات حتى لو لم يذكر في الاعلام تأثيره فهو ظاهرة خلاقة، لأنه لم يتحدث الشعر بوصفه ترفا ولا بوصفه ضرورة بل هو حالة من حالات العشق الأبدي المعتّق التي خلّفت صورة الوطن المشتهى في مخيلة ثرية التوصيف عن كل حالاته التي عاصرها موقفا وحضورا وتعففا وتدفقا في المعنى الذي طالما رفض النفاق الشعري المبالغ في المديح ورفض الظهور المأجور وتعفّف عن القوالب الجاهزة للمناسبات المغلفة، فقد كان الحرف هواءه وانتماءه وكان مسكنه في بيت قصيدته التي جعلت الشعر خبزه اليومي في حياة جافة محفوفة بالتصعيد، فبين الموقف والحضور والتجلي والمشاعر كان يؤكد حرفيته المدهشة في صراع اللغة الممزوجة مع ثقافة كونية نادرة شكلت عنده تلك الصورة وبنت له مكانته الشعرية وحضوره الخالد رغم التغييب والغياب.
من أهم كتاباته :
” أسميك ما يحدث فجأة “..
أسميك اختلاف الدود حول مسألة التراب
أسميك الذي لا يسمى
غربة الموت
قلق الجدار
غابة تغادر بلاغة العشب
وتدخل بلاغة البياض
أثوب إلى مائي يغسل الأرض من أدرانها
أثوب إلى سريري
في الرحم المطمئن
أثوب إلي
حين أرى ترسانة حزنك
تعود من التخوم بلا ظلال
أنتظر غيابي من رصيف شيعته
إلى المترجلين علي
سالما
تثوب لي الأزمنة
حين تختلف على شكل الهلال
كم المكان الآن ؟
ضع فراغا بين حزنين
ورمم عليه جدار غربتك
الذي لا يحد
ضع ما تريد
قد تثوب لحماقة الجسد
إذ يموه على الموت
بأعياد الميلاد
فانفخ على الشموع
سينكشف ما أخفى المعنى من صديد
يثوب إلى خلوتي الغزال الجريح
للأطفال لغتهم
في تفسير الدمية
ولدمي صوت يفسره الحديد
فهل حرك النهر الفراغ الذي يعلو للفراشة و ينزل ممتلأ
….بطقوسها
تغيرت في الذاكرة …
تغيرت في الصمت والصخب والانحناء
أنت في الوهم أجمل
تزورك بكامل زينتها الحقول
أنت في الوهم تلة تحتمي بها الوعول
أنت في الوهم حمامة تستجير بها الفخاخ
فاتركي الوهم يقول …”
رحم الله فقيد الشعر في تونس وفي الوطن العربي ورزق الأهل والأصدقاء جميل الصبر والسلوان .
“””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””
أقوال خالدة قالها مبدعون بعد وفاته :
قال عنه الأديب والشاعر الأستاذ عادل الجريدي :
” هو شاعر غرّد خارج السرب واتخذ من هيكله بيتا للقصيد كان يقلب الأشياء وتعريفاتها على جمر حنينه لكونه في لحظة تجليه سلطانا يأمر فتطيع الصورة الشعرية الحديثة في أبهى متناقضاتها شكري بوترعة ورشعة شعرية بحالها مثل ناسك في مغارة قصية يهم بالحلول في ذات القصيدة فتخر اللغة صاغرة أمام طهارة رحه الشاعرة تجاهلته المهرجنات والملتقيات متجاهل بدوره وجهها الشاحب ليقيم أعراسه على وراقاته البكر متحررا من القوالب والأشكال فكان بمثابة المقام الذي يحجّ إليه الشعراء والشاعرات اللواتي استفدن من شطحاته الإبداعية وصغور التعريفات الجاثم على قلب النبض الشعري شاعر لانت له الجوائز في غفلة من الاعلام المعاق وعيون أصحاب القلوب المريضة الشاعر شكري بوترعة سخّر كل شيء حتى موته الذي حاصره في عديد المرات وكأنه أراد أن يقول أن الشعر وحده ناموس الكون وأنه خالد بما كتب على حافة المسافات باختلاف سيماتها ومقاساتها” .
وقالت عنه الروائية التونسية فتحية الهاشمي :
” هو الماء والطين والخلق والخليقة يصنع الشاعر شكري بوترعة هذا الهادئ هدوء البحر والمتمرّد تمرّد النّخل الذي لا يرمش إذ يفجؤه الرمل بل يضحك ضحكته تلك الهادئة ويهمس للصفرة : أن تعالي هنا منتهى الخليقة وبدأ الطوفان على قول صديقه حسان دهشان: أيها المقيم على الرّصيف المقابل يوما سأدرّب قلبي على الرحمة أو القسوة لست أدري، أرسل لك خنجر صديق ليخلّصك ويخلّصني من عذاب القراءة لك فأنت عصيّ كأمل دنقل وحلمي سالم وعماد أبو صالح ومسعود شومان .
وأنا أقول أيها المسافر في رعشة الخلق الأولى ، أيها الخزاف الذي اكتشفت طينه منذ مدّة والذي ولجت مغارة علي بابا في قوله وعقله، فوجدت أن الوالج عتبة قصيدته مفقود والخارج منها مفقود لم آت بقول من عندي ، أخذت من كل قصيدة بعضا من روح الشاعر ونثرته هنا ، كانت كاريزما الغواية أولى العتبات وأخطرها بعد أن استدرجت عائشة كي تقرع عزلتنا فنمشي في ممرات كأنها الكتابة كي نظلّ منتشين بالفراغ المهيب ونعلق في بكاء مرمري على فتاة النهر والنهر يصب فينا، ومنا ينبثق ماء الخلق فنصير الخلق والخليقة. ”
لروح الشاعر شكري بوترعة ولأرواح كلّ من فقدناهم السكينة والسلام .
Discussion about this post