الإعدام ..
( بقلم / زكريا تامر )
يتدلى عمر المختار من أعواد المشنقة ، منكس الرأس ، مغمض العينين ، مطمئناً ، صامتاً وقوراً ، غير آبهٍ للحارس المكلف بمراقبته والمسلح ببندقية .
وكانت الشمس المشرقة آنذاك ثلجاً أصفر ، فحاول “عمر المختار” البحث عن شمسٍ أخرى تمنح الدفء لدمائه الباردة ، فتخيل عصفوراً صغيراً جائعاً يرفض الذهاب صباحاً إلى مدرسته مترقباً تهطال الأمطار كي تبلل رغيفه اليابس ، وتخيل وردةً بيضاء غافيةً على سريرٍ حديدي ترتجف مقرورةً ولا تملك من المال ما يكفي لشراء مدفأة ، وتخيل قطاً سجيناً في الصيدليات يحلم بامتلاك عاصفةٍ من أجنحة ، وتخيل غيوماً تركض في الأزقة مغبرة الثياب وتتشاجر مع الصغار وتحطم بحجارتها زجاج النوافذ .
وعندئذٍ صاح الحارس مخاطباً عمر المختار :
– ما بك؟ لماذا تبتسم ؟ أتسخر مني أم تفكر بالنساء؟
فقوبل سؤاله بالصمت . فأردف قائلاً بلهجةٍ متذمرة :
– تكلم . لماذا لا تتكلم؟ إلى متى ستظل ساكتاً؟ ألم تسأم؟ لا تكن متعجرفاً فجدّي لم يكن خادماً لجدك . أف !! يا له من عملٍ شاق يخلو من التسلية !!..
ومر في تلك اللحظة ولدٌ صغير يحمل بنتاً من شمع ، فتوقف عن المسير ، وحدّق بذهول ورهبة إلى المشنقة ، فصاح به الحارس بصوتٍ خشن :
– امش ِ. ممنوع الوقوف .
لم يتحرك الولد من مكانه ، وبدا عليه كأن أحداً لم يخاطبه ، فاغتاظ الحارس ، ودنا منه وسأله بحدة :
– لماذا تقف هنا؟
قال الولد :
– إني أنظر .
قال الحارس :
– إلى أي شيء تنظر؟ إلى مطعم؟..
فأشار الولد بسبابة صغيرة إلى “عمر المختار” وقال :
– إني أنظر إليه .
فقال الحارس متسائلاً بفضول :
– ألست خائفاً منه؟
فهز الولد رأسه بالنفي .. فقال الحارس وقد ازداد غيظه :
– الأولاد المهذبون يخافون من المشنوقين .
ومدّ يده بحركة مفاجئة وانتزع الدمية من الولد ، فصاح الولد بصوت رفيع متهدج :
– أعدها إلي .. أعدها إلي ..
فضحك الحارس وقال :
– قبِّل يدي أولاً . هيا قبِّلها . لا تريد تقبيل يدي؟
– أعدها إلي .. أعدها إلي ..
فقال الحارس :
– اسكت . لقد صودرت عقاباً لك على عدم احترامك للقوانين . هيا اركض وإلا سلخت جلدك وحشوته قشاً.
فلم يركض الولد ، إنما مشى بخطاً متمهلة حتى صار على مبعدةٍ من الحارس ثم توقف وصاح :
– سأحضر أخي ليضربك .
فانحنى الحارس على الأرض والتقط حجراً وقذف به الولد وهو يقول :
– وأحضر أمك أيضاً .
فقفز الولد متحاشياً الحجر ثم انطلق يعدو مبتعداً .
وتنهد الحارس بأسى ، وقال ل”عمر المختار” :
– جيلٌ ملعون لا يحترم أحداً .. أتعرف لماذا أخذت الدمية مع أني لستُ متزوجاً ؟!
لم يجب عمر المختار ، فأضاف الحارس قائلاً :
– إياك وأن تظن أني سألعب بها فقد صرت رجلاً منذ زمان طويل .
ثم خاطب نفسه بصوت مرتفع :
– ماذا سأفعل بها الآن؟
وفكر لحظات ثم صاح بغتةً بمرح :
– سأحاكمها . لماذا لا أحاكمها؟
ورمق “عمر المختار” بنظرةٍ حانقة ، وقال له :
– أنت مخطئ إذا توهمت أني لا أصلح لإدارة محاكمة .
ورمى الدمية على الأرض صارماً متجهماً وصاح بصوت أجش :
(( محكمة )) ..
والتفت إلى “عمر المختار” ، وقال له محذراً :
– إياك والضحك وإلا شنقتك .
وقطب جبينه ، وقال للدمية :
– أنت يا بنت متهمة ب … لقد نسيت التفكير بالتهمة . حسناً. أنت متهمة بارتكاب جريمة سأنبئك بها فيما بعد ، فهيا اعترفي ولا تحاولي خداعي فأنا أتقن إطلاق النار .. أنتِ لا تريدين الكلام ؟ افعلي ما يحلو لك ولكنك ستدفعين ثمن تحديك للمحكمة .
وتطلع فيما حوله بعينين قاسيتين ، وقال مخاطباً جمهوراً خفياً :
– الضجيج ممنوع .
وصمتت الثياب المغسولة المعلقة على شرفات الأبنية بينما كان الحارس يزعق آمراً :
– إعدام ..
وأضاف بصوتٍ خافت حائر :
– ولكن كيف أعدمها ؟! سأطلق النار عليها . لا لا. سأخسر عدداً من الرصاصات . سأذبحها .. لا لا ، سأدخر قوتي لذبح دجاجة أو خروف . ماذا أفعل ؟!..
وحملق حيناً إلى البنت الصغيرة الشاحبة ثم تهلل وجهه فرحاً ، وسارع إلى إحضار حبل وربطه بأعواد المشنقة التي يتدلى منها “عمر المختار” ، ثم سأل البنت بلهجة حانية :
– ما هي رغباتك الأخيرة ؟ ماذا ؟ أتريدين مشاهدة فيلم مضحك؟.. إني أعتذر لعدم تمكني من تلبية رغبتك فساعة الموت لا تؤجل ويجب أن تُجابَهَ بخوفٍ ودون مزاح .
وشدَّ قامته وصرخ :
– الموت للخونة .
وحمل الدمية ، ولفَّ الحبل حول عنقها ثم تركها لتهوي في الفراغ متأرجحةً بجوار “عمر المختار” .
ورغب “عمر المختار” في الصراخ غير أن الدموع بللت حالاً وجهه المتجعد ولحيته الطويلة البيضاء ، فها هو العصفور الصغير يُطرَدُ من مدرسته لأنه لا يتقن سوى الغناء ، وها هي الغيوم تُمنَعُ من السير في الشوارع العريضة ، لأن ثيابها عتيقة مهترئة ، وها هو القطن يؤكل بدلاً من الخبز ، وها هي الوردة تلعق دمها ، وها هو “عمر المختار” ينبذ حبل مشنقته ويعدو نحو المقبرة بينما شموس الأرض تتوارى وتنطفئ شمساً تلو شمس .
من مجموعة دمشق الحرائق 1973
Discussion about this post