الخَيال ..
د.علي أحمد جديد
يُعتَبَرالخيال واحداً من قوى العقل التي يمكن أن نتخيَّل بها الأشياء في أثناء غيابها ، وهو القوة الباطنية القادرة على الخَلْقِ والابتكار التي تدفع لتصوَّر الأشياء أو الأحداث والتمثل بها .
والخيال نشاطٌ عقليٌّ ، يرسم في الذهن من خلاله أفكاراً وصوراً غير موجودة في الواقع .
كما أنه قدرةٌ ذهنيةٌ ، على اختلاق أفكار ومشاهد في العقل دون إشراك الحواس في ذلك .
ويُعرِّفه (وورد زورت) :
” الخيال موهبة تمكِّن الشاعر من تأليف صورٍ خيالية ومزجها ببعضها مهما كانت مختلفة أوغير مترابطة لأنه يستطيع الربط بينها ” .
ويقول (بودلير) :
” الخيال هو تلك القوَّة الخارقة ، التي تُمكِّن الشاعر من التحليل والربط ، كما أن له دوراً كبيراً في تعلُّم الإنسان ” .
ويقول (أرثرث ريبر) :
” إن الخيال عملية اتِّحاد الذكريات والخبرات السابقة مع الصور التي تكوّنت مسبقاً ، وتمّ توظِّيفها داخل بنيةٍ جديدةٍ ، وهو عبارةٌ عن نشاطٍ يقوم به الإنسان بكل إبداع . ويكون مبنياً على أساس رغبات الإنسان ، أو الواقع الذي يعيشه ، أو قصصٍ مستقبليةٍ ، أو مراجعات عن ماضيه . و بذلك يكون الخيال عبارة عن توقعات الحاضر ، ومراجعة الماضي ، وابتكار المستقبل ” .
أما (كيت إيغان) فتقول عن الخيال أنَّه :
” تمرين العقل ، وتنشيط وظائفه المختلفة ” .
والخيال في حقيقته يعزِّز تنمية المعرفة ، ويُعرِّف المختصون الخيال لدى الأطفال بأنّه القدرة على تشكيل صورة ما في العقل من شيء لم يسبق أن رأوه أو سمعوا عنه من الكبار ، وهو القدرة على التفكير في أشياء جديدة . ويولد الأطفال عادة مع قدرة فطرية رائعة على الخيال ، قبل أن تبدأ تلك القدرة بالتراجع والاضمحلال تدريجياً ، ويعود السبب في ذلك التراجع إما إلى الآباء والأمهات غير المدركين لتلك الخاصيّة ، أو إلى النظام التعليمي المعيب في الغالب ، إذ يتوجب على البالغين رعاية الخيال لدى الأطفال وتوفير المناخ المناسب لهم ليستمتعوا بأفكارهم الإبداعية وأفعالهم الفطرية بفرح وسعادة .
وربّما يشعر بعض البالغين بالقلق لأن الأطفال لا يفهمون ما هو حقيقي، وبالتالي يسعون من دون وعي إلى خنق فكرة الخيال لديهم، وتقول (سوزان إنجل) مؤلفة كتاب “أطفال حقيقيون” :
إن الأطفال منذ سن الثانية ونصف السنة يبدأون التمييز بين ما هو حقيقي وبين ما هو غير حقيقي ، لكنَّهم يميلون في الغالب إلى تجاهل هذا الفرق بسبب سعيهم الفطري للخيال .
وبالعودة إلى قول (آينشتاين) :
” الخيال أكثر أهمية من المعرفة ، لأن الخيال بالنسبة للأطفال هو باب الاحتمالات ، حيث يبدأ الإبداع والتفكير والقدرة على الخلق وإدراك ما حولهم وحقيقة العالم خارج الأطر العقلانية للكبار ، وذلك من خلال اللعب الخيالي والتعبير عن أنفسهم والتفاعل مع محيطهم ” .
كما أنّ الخيال يعزّز تنمية المعرفة والروح الاجتماعية والعاطفية ، وفي مرحلة الطفولة المبكرة يتعلم الأطفال مهارات التفكير النقدي والقدرة الإبداعية على حل المشاكل ومحاولة ابتكار طرق جديدة للقيام بالأشياء وبالتالي تعزيز الثقة لديهم للقيام بالفعل واكتساب المعرفة .
فالخيال إذاً عمليةٌ فطرية وغريزية يقوم بها الإنسان بإرادته واختياره بكل مرونةٍ يستطيع من خلالها أن يتجوّل في عالمٍ خاصٍ بواسطة عقله لتكوين الصور وتحريكها حتى يصل إلى ما يريد .
أما الفرق بين الخيال والتخيُّل فيكمن بأن الخيال عملية لخلق السيناريو المؤلَّف من صورٍ ومشاهد وأحداثٍ . بينما يكون التخيُّل العيش في أحداث هذا السيناريو والتفاعل معه واستشعاره بكل تفاصيله وكأنَّه أمرٌ واقع .
وكذلك هو الفرق بين الخيال وبين أحلام اليقظة إذْ يُعَدُّ الخيال أو التخيُّل حالةً صحيةً واعيةً تستند إلى الواقع ، وغالباً ما تُوصِلُ إلى الابتكار وإلى الإبداع ، بينما تكون أحلام اليقظة حالةً من شرود الذهن اللاإرادي ، ومن التفكير بأمنياتٍ محددة ، وتتمثل بأحلامٍ مُبالَغٍ بها ولا تستندُ إلى الواقع بشيء ، وغالباً ما تؤثِّر في حياة الإنسان تأثيراً سلبياً كونها تُلهيه عن اهتماماته الأساسية ، وتفصله عن واقعه لساعاتٍ وساعات . وهي حالة تكثر لدى الشباب المراهقين . كحلم المراهق بأن يصبح بطلاً رياضياً ، أو ممثلاً عالمياً شهيراً .
وقد يصبح الخيال حالةً مَرَضيَّةً عندما يتجاوز حدَّه الطبيعي ، كأن يعاني الإنسان من حالة خيالٍ واسعٍ وشرودٍ وهروبٍ من الواقع إلى وقت طويل نوعاً ما ، فيفصله عن واقعه تماماً ويعوق متابعته لحياته المهنية أو الدراسية والاجتماعية .
ولكي يكون الخيال حالةً صحيةً وضروريةً مفيدة يجب أن تبقى هذه الحالة ضمن الحدود الطبيعية ، وأن لا تتحوَّل إلى حالةٍ يعيش فيها الإنسان وقتاً طويلاً يستغرقه ويفصله عن واقعه ، وحينها تصبح حالة الخيال حالة مَرَضية وتحتاج إلى العلاج النفسي .
ويعاني الشخص الذي يعيش في الخيال من صعوباتٍ كثيرةٍ في حياته ، أوَّلُها انعزاله عمَّن حوله من الأشخاص المحيطين ، وتعطيل عمله وإنجازه ، وانفصاله عن واقعه الذي يعيش فيه .
ووفقاً للعديد من الدراسات والأبحاث ، فإنَّ الطفل يبدأ بالخيال وبالتخيُّل في الثانية من عمره ، وتتطوَّر هذه العملية لديه بين الثالثة والخامسة من عمره تطوُّراً كبيراً . إذْ يُعَدُّ الخيال من الأمور الهامة والمفيدة للطفل في تنمية ذكائه وتطوير قدراته .
وقد تمَّ تقسيم الخيال علمياً إلى أنواع مختلفة منها :
* الخيال غير النَشِط :
وهو الأفكار والصور التي تأتي إلى الذهن تلقائيَّاً دون وعي أو استدعاء من العقل .
* الخيال النَشِط :
وهو الحالة المعاكسة للنوع السابق ، إذْ تحصل هذه الحالة إراديةً من الإنسان ، ويبذل العقل فيها جهداً بجمع الأفكار والصور والذكريات ، ودمجها في تكوين تخيُّلاتٍ جديدةٍ .
*الخيال المعرفي :
وهو كل مايتعلَّق بالتعلم وباكتساب المعرفة ، وتُعَدُّ قصة سقوط التفاحة التي كانت سبب اكتشاف “نيوتن” لقانون الجاذبية كأشهر مثال عن الخيال المعرفي .
* الخيال التقديري :
وهو الخيال الذي ينشأ عند قراءة روايةٍ أو دراسةٍ لأحداثٍ تاريخية ، أو عند سماع الراديو دون رؤية صورة تُفَصِّلُ الحدث المروّي ، فيتصوَّر العقل الأحداث الموصوفة بشكل تلقائي وحسب مايتلقاه عن الحدث بالقراءة أو بالسماع .
* خيال بالذكريات :
ويكون عندما يقوم الإنسان بمراجعة ذكرياتٍ مرَّت عليه في الماضي ويتخيَّلُها .
* أحلام اليقظة :
وهي الخيال الذي يتخيَّله الإنسان في عقله ، ويكون بعيداً عن واقعه ، وغالباً ما يأخذ شكل الأمنيات والآمال ، فيحلم الإنسان بتحقيقها وإنجازها ، وغالباً ما تصيبه بالحزن وبالإحباط عندما تنتهي هذه الحالة ويعود إلى الواقع .
* الخيال الطيف :
وهو الخيال الذي يستطيع الإنسان من خلاله استذكار مشاهد دقيقة معينة (ذاكرة تَصوّرية) كان قد رآها مسبقاً ويستذكرها استذكاراً كاملاً وكأنَّها أمامه بالفعل أو أنه يعيش أحداثها مجدداً . وهو الخيال الذي يستعمله الطلاب في اختباراتهم وامتحاناتهم في استرجاع المعلومة المطلوبة ، عبر استرجاع صورة الصفحة ، وشكلها الذي يحتوي هذه المعلومة .
* خيال الهلوسة :
وهو الخيال الناجم عن الحرمان ، لأن الإنسان المحروم من شيءٍ ما غالباً مايحاول تعويض هذا الحرمان ، من خلال التَخيُّل المغرق والبعيد عن الواقع او إمكانية حدوثه والهلوسة به .
فالتخيّل والخيال هما أفضل قوة ذاتية لمواجهة قسوة الواقع منذ بدء الوعي لدى الإنسان ، وهو القوة التي اعتبرها (آينشتاين) كل شيء وتفوق المعرفة أهمية .
ولولا قوة الخيال ، لما كان هناك أي اختراع أو فن في العالم ، لأن الخيال هو القوة التي يستخدمها كل المبدعين والعلماء .
وهناك العديد من الفوائد التي توضح أهمية الخيال في حياة الإنسان ، أهمها :
– تعزيز مهارات حل المشكلات
بالخيال الذي يساعد في التغلّب على العقبات في العمل ، وفي المنزل ، وفي العلاقات المختلفة ، لأن الخيال يعطي القدرة الخفية على النظر إلى التحديات بطرق جديدة ، والبحث عن حلول للمشكلات .
– الحفاظ على الذاكرة
وتُبيِّن الدراسات العصبية الحديثة ، بأن المبدع يخلق المزيد من الخلايا العصبية في عقله . وإذا استخدم خياله بنشاط فتقلُّ احتمالات الإصابة بمشكلات في الذاكرة (الخرف أو الزهايمر) بنسبة 73%.
– الرقيّ في العلاقات الاجتماعية إذْ أن الخيال يجعل الإنسان قادراً على التعاطف والشعور بمعاناة الآخرين ، فيتقمص حالتهم لاإرادياً في خياله ، وهو ما يجعله أكثر تعاوناً وتفهماً وقدرةً على التوصل إلى أفكار مُلهِمَةٍ في التعامل مع المشكلات والنزاعات .
– زيادة المعرفة ، لأن تخصيص جزء من نشاط العقل للخيال يجعل الإنسان منفتحاً على الكثير من الأفكار والاحتمالات ، ويزيد الرغبة في استكشاف المزيد والتحقق من الأحداث ، وهو ما يجعل الحياة أكثر ثراءً من الناحية المعرفية .
وفي أغلب الأحيان فإن الخيال يجعل الإنسان أكثر حيلةً وذكاءً ، ويفتح بوابة الأفكار للإبداع العملي .
– زيادة الثقة بالنفس . فعندما يسمح الإنسان للعقل أن يتخيل بدون قيود ولا أحكام فإن ذلك يساعد على تقدير المهارات وتوظيفها بالشكل الصحيح ، ويزيد الثقة بالأفكار والمشاعر .
– الاستخدام الصحيح والإيجابي للخيال يساعد على تجاوز المخاوف المَرَضية ، ويُستخدَم في كثير من الأحيان كوسيلة لعلاج اضطراب الصدمة . لأن قوة الخيال أكثر من مجرد أحلام لليقظة ، وكل علم في أصله خيال جامح ، وكل ما حولنا من مخترعات وأنماط حياة حديثة كانت في البداية بذرة في الخيال ، ولولا الخيال ما اخترع الإنسان الأول الأدوات ، ولم يستطع الإنسان المعاصر أن يحوِّل العالم إلى قرية صغيرة يتواصل أفرادها بالصوت والصورة رغم آلاف الأميال التي تباعد بينهم . ولولا التخيّل والخيال ، لما تمكن الإنسان من التجول في الفضاء .
كون الخيال هو القوة الإبداعية الضرورية لأي اختراع .
كما أن الخيال قاعدة الفنون كلها ، وأي فن بلا خيال هو مُنتَج ميت لا روح فيه ولاحياة .
ومن المعروف أن أحلام اليقظة عبارة عن حيلة دفاعية تلجأ إليها النفس البشرية عندما تضيق بها الحياة ، وعندما يزداد حجم الإحباط ، وتكون أفضل حيلة جيدة إذا استُخدِمَت بشكل معتدل ، لأنها تخفّف من آلام اللحظة الراهنة ، وتفتح الأفق أمام العقل ليتخيل وضعاً أفضل وحياة أفضل ويعمل على تحقيق ذلك .
وبحسب علماء النفس وخبراء تطوير الذات ، فإن الخيال يُغيِّر حياة الإنسان بالكامل ، وتستند فكرة ( قانون الجذب Law of ( Attraction إلى أن ما نتخيله يمكن أن يصبح واقعاً حيّاً ، وما نركِّز عليه في العقل ونمنحه المشاعر يسهل جذبه إلى الحياة .
وتبقى قوة الخيال أمراً ملموساً ومهمّاً في حياة البشر ، إذْ لا يمكن الوصول إلى هدف إنْ لم يتم تجسيده في الخيال أولاً .
ويقول (والت ديزني) صاحب أنجح الأفلام المتحركة بأنه لو لم يرَ مؤسسته (ديزني لاند) في خياله لما صارت حقيقة واقعية على الأرض .
ويقول أيضاً :
” إن تمكنتَ من الحلم بشىء ورسمتَه في خيالك .. فيمكنك أن تقوم بأيّ شيء ” .







Discussion about this post