الميتاسردية في المتن الحكائي في القصة القصيرة جدّا
( ثنائية “مأساة” نموذجا)
الكاتبة :الهام عيسى
الناقدة: جليلة المازني
ثنائية (تتكوّن من قصّتين) :”مأساة” (الهام عيسى):
القصة(1) العنوان:” لصوص الارض”: جموع المندفعين نحو العربة
أوقفوا تقدّمها تعالت اصواتهم براكين غضب
صارخ أدّى الى قلب العربة…كان في داخلها
لصوص الارض والحرية والهويّة…
فيم يعيش الجميع نشوة الوهم…
فرحة النصر تصطبغ الوجوه المزغردة ككاتم صوت
من فوهة قنّاص يزفّ عريسا
القصة (2):العنوان:” عري الاكتشاف”:
وجوه أكساها الفرح والأمل تجمّعت في زوايا الوطن…
غيمة سوداء حجبت نور الشمس…
زخّت سموم معتقة…أنذرت وأرعدت…
بدّدت جموعهم…انكشف وجه الارض تعرّى
المشهد بين نازح وشهيد ومفقود.
مقدّمة:
تتناول قراءتي النقدية “الميتاسردية والمتن الحكائي في القصة القصيرة جدّا”
(تنائية” مأساة” نموذجا)..
هذه الثنائية التي تتكوّن من قصّتين:1- قصة:لصوص الارض///2- قصة:عري اكتشاف.
للكاتبة الهام عيسى
مفهوم الميتاسرد: يقول الناقد جميل حمداوي: ” الميتاسرد أو الميتاقصّ هو ذاك الخطاب المتعالي الذي يصف العملية الابداعية” .(1) – الميتاسرد هو”كتابة نرجسية تقوم على التمركز الذاتي وسبر أغوار الكتابة الذاتية والتشديد على الوظيفة الميتالغوية ” حسب :رومان جاكبسون.
– الميتاسرد هو السرد حول السرد بتدخل الراوي حسب علون السلمان
*ان هيكل النص السردي(حسب توماسيفسكي) قائم على شقّين:
– متن حكائي وهو مجموع الاحداث المتصلة فيما بينها والتي يقع اخبارنا بها خلال العمل
– مبنى حكائي الذي يتألف من الاحداث نفسها بيد أنه يراعي ما يتبعها من معلومات تعينها
وهنا سنتناول من خلال القصتين ق.ج. المتن الحكائي من منظور ميتاسردي .
في هذا الاطار يتأرجح المتن الحكائي بالقصّتين(محلّ القراءة النقدية) بين مشهدين
متضا دّين أحدهما تقويضي والثاني تأسيسي:
1- هدم لمشهد سردي قائم على الزيف والتضليل(فرحة النصر تصطبغ الوجوه المزغردة…/ وجوه أكساها الفرح والأمل تجمّعت في زوايا الوطن)
2- تأسيس لمشهد سردي قائم على الحقيقة الواقعية (جموع المندفعين تتزاحم نحو العربة../أوقفوا تقدّمها./تعالت أصواتهم براكين غضب صارخ/ أدّى الى قلب العربة/…كان في داخلها لصوص الارض والحرية والهوية / غيمة سوداء حجبت نور الشمس/ زخّت سموم معتّقة/ ..بدّدت جموعهم/ انكشف وجه الارض/ تعرّى المشهد بين نازح وشهيد ومفقود…).
انها ثنائية الهدم والبناء/ثنائية الزيف والحقيقة / ثنائية الصدق والكذب بالمتن الحكائي.
أوّلا: هدم المشهد القائم على الزيف والتضليل:
لقد رسم الكاتب في كل قصّة من القصتين ق.ج. مشهدا محكوما بالوهم والكذب
تقول الكاتبة في القصة الاولى:”فرحة النصر تصطبغ الوجوه المزغردة ”
تقول الكاتبة قي القصة الثانية:”وجوه أكساها الفرح والامل تجمّعت في زوايا الوطن”
لو قمنا بعملية احصاء للمقاطع التي ترسم المشهد المتوزع بين مشاعر الفرح والغضب
في القصتين لوجدنا مقطعين لومضة الفرح واثني عشر مقطعا للغضب والواقع الأليم الذي تعيشه هذه المجموعة وبذلك نلاحظ طغيان مشاعر الغضب على حساب مشاعر الفرح في المشهدين للقصّتين.
وبالتالي فانّ مشهد الفرح في مقطعين من اثني عشر مقطعا يوهمنا بان شخصياته يغمرها الفرح والأمل والتفاؤل وكأنه يسوق لنا خبرا اعلاميا في تضليل للحقيقة وفيه ذرّ الرماد على العيون وهو في الحقيقة مغالطة وقتية للمتلقّي الذي سرعان ما سيقف على الوجه الحقيقي لهذا المشهد.
**قد يحيلنا مشهد الجموع المتزاحمة والوجوه التي أكساها الامل والفرح على زورق الهجرة غير النظامية(الحرقة) والتي هي معاناة الشعوب العربية خاصة .
هذه الجموع المندفعة وهذه الوجوه المتجمعة في زوايا الوطن يحدوها الامل نحو مستقبل لامع ينتظرها لكن” لصوص الارض والحرية والهوية” قد سلبوها ارضها والارض كناية عن المال الذي دفعته هذه الجموع مقابل تمكين اللصوص لها من هذه الهجرة غير النظامية كما خسرت هذه الجموع حريتها في بلادها وهويّتها في بلاد الهجرة .
وهذا نوع من التناص الواقعي الميتاسردي حيث يعاني منه الكثيرصحبة الاخبار الزائفة التي تبعث في نفسه الامل وهي في الحقيقة تقضي عليه وسرعان ما تتبدّد هذه الفرحة الزائفة و تنقلب الى ماساة.
وكأني بالكاتبة عمدت الى ان تجعل القصة الثانية (عري الاكتشاف) امتدادا للقصة الاولى (لصوص الارض) من خلال تكرارنفس العبارات في القصتين الدّالّة على المكان وعلى الشخصية الجماعية (الارض/الجموع) لتخبرنا بتعرّي المشهد الذي توزّع بين” نازح وشهيد ومفقود”.
انّ من النقاد من يعتبر القصة ق.ج.تطورا لفنّ الخبر وخاصة تلك الاخبار التي كانت تجمع بين المفارقة والسخرية كقصة الجاجظ مع المراة التي شبهت الشيطان بالجاحظ .
“ما القصة الا تطوير لفنّ الخبر وهو من أحبّ الفنون الادبية الى جمهور الناس الذين كانوا يتحلقون حول القاصّ ليحكي لهم اخبار الامم البائدة وابطال الحروب والوقائع”(2).
وهذه الاخبارتحتمل الصدق والكذب تماما كما في قصص كليلة ودمنة سواءالقصة الامّ اوالقصص المتفرّعة عنها حيث كان الكاتب ابن المقفّع بتحفّظه السياسي يصّدركل قصة بفعل “زعموا”وفعل “زعم ” يحتمل الصدق كما يحتمل الكذب وابن المقفّع ليدعم ذلك فقد أسنده الى ضمير الجمع الغائب (هم) وهذه الجماعة الغائبة (حسب بعض النقاد) لايمكن الاعتداد برأيها.
وبالتالي فان الشخصية الجماعية في القصّتين تتناصّ مع الجماعة الغائبة في قصّة كليلة ودمنة وسنقف على دلالة هذه الشخصية الجماعية لاحقا في هذه القراءة النقديّة.
ولو فرضنا أيضا ان القصة ق.ج. تقترب من الشعرأيضا في موسيقاها ومشهدها وصورها فان مشهدي الفرح لدى الجموع في القصّتين من القراءة النقدية هذه هو مشهد مزعوم مثله مثل بعض الشعراء المتملّقين المدّاحين بمقابل و لم يذكرهم الله بخير حيث قال تعالى في سورة الشعراء “والشعراء يتبعهم الغاوون(224) ألم ترأنهم في كل واد يهيمون(225)وأنهم يقولون ما لا يفعلون(226).
وبالتالي سواء كانت ق.ق.ج شبيهة بالخبرالمزعوم اوبالشعر الكاذب فهي لاتنجو من الزيف الذي يخالط الخبر المزعوم او الشعرالكاذب لذلك فان ما تجمّل به مقطعان(كمتن حكائي) من المشهدين من أمل وفرح هو زيف وتضليل انه بمثابة المساحيق التي لا تخفي الحقيقة حقيقة مرارة الواقع وكاني بالذات الساردة من خلال القصّتين تدافع عن نفسها وتتحدّث عن ذاتها رافضة هذا الزيف والكذب الذي يغالط من أول وهلة القارئ شريكها في بناء المعنى.
هذه الذات الساردة ترفض بالتالي متنا حكائيا قائما على الزيف والمخادعة لتؤسس متنا حكائيا قائما على الصدق والحقيقة ولو كانت الحقيقة مرّة ..انه متن حكائي حقيقي ينبض بالحياة ويرتقي الى المشاغل اليومية التي يعيشها أبناء الشعوب العربية.
ثانيا:التأسييس لمشهد سردي قائم على الحقيقة الواقعية:
ان من سمات القصة ق.ج. سمة الموضوعاتية حيث ان القصّة .ق.ج.ورغم قصرها تطرح أسئلة جادّة وجدّية ومصيرية وهامّة…والموضوعاتية تتفرّع الى ثلاثة أنواع:
1- الموضوع الذاتي:
من مميّزات ق.ق.ج.على المستوى الدلالي أنها تعنى بتشخيص الذات الانسانية وتصويرها وهي تتصارع مع نفسها أو مع الواقع الموضوعي في تناقضاته الجدلية.
2- الموضوع الواقعي :
لقد تناولت ق.ق.ج.المواضيع اليومية (اجتماعية/ثقافية/سياسية…)
2- الموضوع الميتاسردي:
لقد شخّصت ق.ق.ج كينونتها بطرح أسئلة جوهرية وميتاسردية بمختلف أشكالها
الفنّية والجمالية والاسلوبية تتعلق بطرائق ابداعها ووظيفتها في المجتمع والبحث عن ماهيتها النظرية والتطبيقية ورسالتها في الحياة.
لم يعد الخطاب الميتاسردي او الميتاقاصّ مجرّد تضمين او تداخل النصوص السردية بل يتخذ عدّة أشكال تتعلق بالتناصّ والنص الموازي والعتبات والبناء السردي والخطاب النقدي والخطاب التنظيري ومتخيّل القراءة وشرح تكوّن السرود والبناءوتبلورها فنّيا وجماليا ودلاليّا ورؤياويّا.
ومن ثمّ يرتكز الخطاب الميتاسردي على تصوّر عالم الكتابة السردية وتجسيد قلق الكتابة وتبيان كيفية تفكير القصّة في نفسها أو ذاتها بطريقة نرجسية او مرآتوية ذاتية(3)
وفي هذا السياق تكابد الذات الساردة مكابدتين:
*مكابدة الهدم والتقويض.(محووتشطيب الزيف والكذب بالمتن الحكائي)
*مكابدة غصّة القصّة لبناء متن حكائي حقيقي.
انها لذّة الاكتشاف المركّب حيث أن القصّة:
– تمسح كي تعلن الميلاد.
– تهدم كي تشيّد.
– تنفي كي تثبت.
– تهدم كي تبني
كأني بالذات الساردة تقوم بعملية تحقيق مع نفسها ومع الكتابة..انها ميتاسردية الكتابة التي هي صراع مع الذات والموضوع والكتابة.(4)
ولعلّ الكاتبة الهام عيسى تعمّدت تداخلا بين المشهدين في القصتين فقد بدأت بمشهد الغضب لتليه ومضة فرح وسرعان ما تختفي هذه الفرحة وتنفث سموما “معتّقة”والمعتقة وصف بها ابو نواس الخمرة باعتبارها خمرة صرفة لم يخالطها ماء والسموم المعتقة ليس معها علاج ولاينفع معها دواء.
ولعل عنواني القصتين “لصوص الارض” / “عري الاكتشاف”يدعمان طغيان مرارة الواقع المعيش على المشهد.
وهل أكثر من العنوان الشامل والجامع للقصّتين “مأساة” ليؤكد مأسوية وضع هؤلاء الجموع المندفعة والمتبدّدة والمتمرّدة.
لقد اختارت الكاتبة شخصية جماعية:
– القصة الاولى:”جموع المندفعين…”
– القصة الثانية: “وجوه أكساها الفرح/..بدّدت جموعهم”
لقد استعملت الكاتبة الكناية لترمز بالوجوه الى الجموع .
ان اختيار الشخصية الجماعية له دلالته في كثرتهم(زوايا الوطن) التي لاتحصى في اقبالهم على الهجرة غير النظامية وفي اتحادهم قوّة حيث استطاعوا قلب العربة والعربة لها رمزيتها فهي ترمز الى” زورق الموت”(كما اتّفق على تسميته) الذي يحمل المهاجرين غير النظاميين الى ديار الغربة.
ان هذه الشخصية الجماعية هي شخصية ميتاسردية اختارتها الذات الساردة لتكون واعية بما ينتظرها من زيف فكانت متمرّدة لتقرّر مصيرها وتحسم أمرها بنفسها فتخلع جلباب الكذب والزّيف والوهم الذي يحمله “زورق الموت” فتقلب “العربة”حيث تكتشف الحقيقة المرة ّلتجد داخل العربة”لصوص الأرض والحرية والهوية” وتعرّي المشهد الذي توزّع الى “نازح وشهيد ومفقود”
لعل هذه الشخصية الجماعية التي تقابل مكر “لصوص الارض والحرّية والهويّة” بمكرأشدّ وأكثر عمليّة وتمثّل في قلب “العربة” تحيلنا الى تناصّ. انّه تناصّ مع الآية الكريمة 49 من سورة النمل ويخاطب فيها الله الكافرين”ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا بشعرون”
كأني بهذه الجموع(الشخصية الجماعية)تردّد هذه الآية معتبرة لصوص الارض كافرين ماكرين ممّا يستوجب مكرا أشدّ من مكرهم بهدم مشروعهم المغتصب لمالهم وحريتهم وهويّتهم بقلب العربة (أدّى بهم الى قلب العربة) .
لعل هذه الشخصية الجماعية تحيلنا أيضا على تناصّ في السيرة النبوية حين جمعت قبائل قريش فتيانها لقتل الرسول بضربه بالسيف ضربة رجل واحد فيتوزّع دمه بين القبائل:
يقول الكاتب اسلام ويب”لقد جمعت قريش شبابا من شتّى القبائل لقتل الرسول على ان يتولّى القيام بذلك المنكر العظيم فتية من القبائل جميعا ليتفرّق دمه بين القبائل فيعجز بنو هاشم على قتال العرب كلّهم أخذا بثأرهم”.(5).
ان وجه الشبه بين هذا النص في السيرة الذاتية وفي مشهد القصة يتمثّل في الشخصية الجماعية المتحدة والقوية والمبهمة والمتمرّدة سواء على لصوص الارض او على الرسول والتي يستحيل تتبّعها للانتقام منها.
لعلّ اختيار الكاتبة للشخصية الجماعية هو من باب التخفّي هذا التخفّي الذي انزاح واتخذ مكانه التعرّي بقفلة صادمة حين انكشف المشهد وتعرّى في آخر القصة الثانية وتوزّع بين “نازح وشهيد ومفقود.”
انها المأساة التي تريدها الذات الساردة أن تؤسّس لها و تجعلها متنا حكائيا حقيقيا للقصتين وقد أوحت لنا بذلك منذ العنوان الجامع للقصتين وهو” مأساة”.
– أيّ ماساة تنتظر النازح أكثر من اقباله على مصير مجهول؟.
– أيّ مأساة للشهيد أكثر من سلبه حقّ الحياة؟
– أيّ مأساة تنتظر المفقود وهو يقاوم الغرق وسكرات الموت؟
وبالتالي فان الذات الساردة تنتهك تلك الصورة الومضة للقطة الفرح بالمشهد وهي بذلك تتناصّ مع الومضة الاشهارية التي تلعب على نفسية المتفرّج.
بيد ان هذا اللعب على النفسية لا يمكن ان ينطلي على القارئ الذي هو بدوره قد يعيش هذه المأساة عن طريق ابنه /بنته/أخيه أخته/جاره/قريبه…وهكذا يكون القارئ منخرطا في عملية الكتابة القائمة على متن حكائي حقيقي.
الخاتمة:
وخلاصة القول فان الذات الساردة قد كسرت الايهام بالواقع وكسرت ذاك الجدارالفاصل بين الحقيقة والوهم وانتصرت لمتن حكائي حقيقي يجسّد مأساة تلك الجموع المندفعة و المتزاحمة والمقهورة والمسلوبة مالها وحرّيتها وهويّتها وحقّها في الحياة .
لعل الذات الساردة توحي لنا بمتن حكائي آخرلقصّة جديدة ومحكوم بالتفاؤل يؤسس لحلول عملية ناجعةلانتشال هذه الجموع البائسة من بؤرة اليأس والارتماء في مستقبل مجهول.
الناقدة: جليلة المازني.
المصادر:
(1) جميل حمداوي:أشكال الخطاب الميتاسردي في ق.ق.ج. بالمغرب.
(2) جميل حمداوي :ق.ق.ج. بين التنظير والتطبيق ص 22
(3) جميل حمداوي:تطوّر القصة ق.ج.في الوطن العربي ص 67
(4) جميل حمداوي: أشكال الخطاب الميتاسردي في ق.ق.ج. بالمغرب
(5) اسلام ويب:من البعثة الى الهجرة /تاريخ النشر:23/08/2020
Discussion about this post