في مثل هذا اليوم 7 نوفمبر1898م..
بدأ الإمبراطور الألماني غليوم الثاني زيارة تاريخية إلى دمشق في إطار جولة قام بها في الدولة العثمانية شملت أيضاً القدس واسطنبول.
زيارة ڤيلهلم الثاني إلى الشرق، حدثت في أكتوبر-نوفمبر 1898، حيث قام الامبراطور الألماني ڤيلهلم الثاني بزيارة الدولة العثمانية والأراضي التابعة لها في بلاد الشام. جاءت الرحلة بناءاً على دعوة السلطان عبد الحميد الثاني، وبدأت بزيارة العاصمة إسطنبول، ثم القدس، دمشق، بيروت.
في الواقع، لا يمكن فصل رحلة الامبراطور الألماني إلى الشرق عن سياسته تجاه الدولة العثمانية. فمنذ ارتقائه العرش، عمل على ممارسة سياسة التدخل المباشر والمكثف في الدولة العثمانية، ومناهضة الدول الأوروبية الأخرى على صعيد التنافس الإمبريالي في السلطنة. لكن، ما يعطي رحلته طابعاً خاصاً، هو أنها جاءت متزامنة مع سياسة ألمانيا للحفاظ على سيادة السلطنة واستقلالها في وجه الأطماع الأوروبية في ممتلكاتها. صحيح، إن ألمانيا لم تظهر اهتماماً في الاستيلاء على ممتلكات السلطان العثمااني، كما فعلت غيرها من الدول الكبرى، إلا أنها كانت في الحقيقة مجبرة على ذلك. فعندما اكتملت مكومنات إمبريالياتها في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، كانت الدولة الاوروبية الرئيسية، بريطانيا وفرنسا وبروسيا والنمسا، قد استولت على ما يمكن الاستيلاء عليه من ممتلكات الدولة العثمانية، ما جعل ألمانيا لا تجد مكاناً تستحوذ عليه. ففرنسا استقرت في الجزائر وتونس وتطلعت للاستيلاء على المغرب الأقصى وعلى بلاد الشام، وبريطانيا استولت على قبرص وعلى مصر وفرضت هيمنتها على السودان، فيما قضمات روسيا والنمسا معظم ممتلكات السلطان في البلقان. ومن هنا، لم يكن أمام ألمانيا خيراً سوى الزحف السلمي على الشرق، أي التغلغل الاقتصادي والتجاري، مما فرض عليها سياسة الحفاظ على الدولة العثمانية والوقوف في وجه مشاريع تقسيمها. فكانت سياستها هذه، أكثر فائدة لها من الاستعمار المباشر.
بناء عليه، تمكنت ألمانيا أن تكون “الدولة الأكثر تفضيلاً” لدى السلطان العثماني. وهذا ما مكن الامبراطور وليم الثاني خلال رحلته إلى الشرق، من أن يعقد سلسلة من الاتفاقات الاقتصادية مع الدولة العثمانية، وفي مقدمتها الحصول على امتياز حط سكة حديد بغداد، وبعد ذلك تقديم الخبرة الفنية الألمانية لمشروع سكة حديد الحجاز. ولم يقتصر صدى سياسة ألمانيا الإسلامية على الدوائر الرسمية العثمانية فحسب، بل وجد الامبراطور حماسة شرقية لافته خلال زيارته إلى بلاد الشام. صحيح، إن الصحافة العربية انقسمت على بعضها في شأن تقييم رحلته إلى الشرق بين مؤيد وناقد، ولاسيما الصحافة المصرية التي أضاءت على الأهداف الإمبريالية لألمانيا في الدولة العثمانية، إلا أنها، ومعها مسلمو بلاد الشام، اعتبرت الرحلة حدثاً فريداً في تاريخ الدولة العثمانية المعاصر والمنطقة تحديداً.
كانت أصداء سياسة ألمانيا الإسلامية وصداقتها تجاه الدولة العثمانية قد سبقت وصول وليم الثاني إلى بر الشام. لذا، خرجت الجماهير لاستقباله، ليس كزائر عادي، وإنما كحليف للإسلام وللسلطان عبد الحميد الثاني. وقد عرف الامبراطور بفن كيف يجذب إليه المسلمين. فخطابه في دمشق وزيارته ضريح السلطان صلاح الدين، حركا عندهم مشاعر الافتخار بأن هناك أمة أجنبية تساند خلافتهم الإسلامية. من هنا، اعتقد بعضهم بأن اندفاع العاهل الألماني لدعم السلطنة في مواجهة أعدائها، دليل على اقتناعه بالدين الحنيف. لذا، لفتت صحيفة أبابيبل البيروتية الانتباه إلى إمكانية أسلمته. وبذلك تكون دعوة هذه الصحيفة وليم الثاني إلى الإسلامة، قد سبقت خطاب الشماخي وابن إسماعيل إلى العاهل الألماني بسنوات.
شهد الشرق الأدنى عام 1898 حدثاً فريداً في العلاقات العثمانية الألمانية، وهو قيام الامبراطور وليم الثاني بزيارته الثانية إلى الدولة العثمانية، والتي طاولت هذه المرة بلاد الشام، ولا تكمن أهمية هذا الحدث فيما أعلن بأنه رحلة حج للعاهل الألماني إلى الأراضي المقدسة وتدشين مؤسسات ألمانية فحسب، بل لأنه كان تعبيراً عن سياسة ألمانيا الجديدة في جعل الشرق منطقة نفوذ لها وصراع مع الدول الأوروبية الرئيسية – هذا الصراع الذي انعكس استراتيجياً في أن تكون لها كلمة مسموعة في السياسة العالمية ومكاناً تحت الشمس.
وعشية رحلة الامبراطور وليم الثاني إلى الشرق، كانت ألمانيا قد حققت قفزات كبيرة في علاقاتها التجارية والاقتصادية والثقافية مع الدولة العثمانية وحصل رأسمالها على استثمارات واسعة، اضافة إلى تدريبها الجيش العثماني وتسليحه. وانعكس تغلغلها هذا من جهة، وعدم اعتمادها سياسة استعمارية مباشرة تجاه ممتلكات السلطان العثماني من جهة أخرى، تصادعاً في نفوذها السياسي في الأستانة، بحيث فاق مثيله الأوروبي.
حتى قبل أن يبدأ وليم الثاني رحلته الثانية إلى الشرق في نوفمبر 1898، والتي زار خلالها العاصمة العثمانية ومدن بلاد الشام الرئيسية، كانت الرحلة مدار حديث الصحافة الدولية وقد أولت الصحافة العربية بدورها الزيارة اهتماما ملحوظاً، نظرا إلى مكانة ألمانيا ومصالحها مع السلطنة، ولأنها جاءت في أعقاب الصمت الألماني عن المذابح الأرمنية عام 1895، وانتصار الجيش العثماني على نظيره اليوناني عام 1897 بفضل السلاح الألماني.
امتدحت معظم الصحف العربية رحلة امبراطور ألمانيا إلى الشرق ودعت إلى استقباله بحرارة معتبرة زيارته تجسيداً للصداقة التي تجمع ما بين الأمتين الألمانية والعثمانية. وقد استقطب عنوان عريض معظم الصحف بأن هدف الرحلة المباشر هو الحج إلى الأراضي المقدسة في فلسطين وتدشين كنيسة المخلص الإنجيلية الألمانية في القدس. وكتبت صحيفة “لسان حال” تقول أن القدس كمهد للمسيحية هي التي جذبت إليها امبراطور ألمانيا، وان هذه المدينة المقدسة هي التي جعلت ملوك ألمانيا يرغبون في التيمن بزيارتها.
إضافة إلى ذلك، اهتمت الصحافة بشخصية الامبراطور وسلالته، فوصفته بأنه أكثر ملوك أوروبا نشاطاً وحيوية، ومن أعظم ملوك العالم وقائد كبير وامبراطور عظيم منحدر من سلال الهوهنزلرن ذات المجد الأثير والشرف العالي المنير. كما وصفته بأنه امبراطور بروتستانتي عظيم معروف بالإقدام والشجاعة وشعبه بأنه أمة حية ينتظرها مستقبل زاهر.
كذلك تناولت الصحف الصداقة الألمانية العثمانية في كثير من تعليقاتها. لوليم الثاني هو أعز أصدقاء السلطان الأعظم، وأخلص الملوك صداقة للذات العالية الشاهانية. اعتبرت الصحف أن الاستقبال الحار الذي يلقيه العاهل الألماني في الدولة العثمانية ما هو إلا انقياد الأمة العثمانية لرغبات سلطانها – هذه الأمة التي تقابل الجميل بالجميل وزيادة، فإذا أحب سلطانها أحبت وإذا نفر نفرت.
إلى ذلك، لم تخل تعليقات الصحف من مبالغات في تسيس الزيارة، ورأى بعضها أنها دليل على صفاء كأس السياسة والولاء بين الأمتين الألمانية والعثمانية، تلك الكأس التي أصبحت مترعة بهذه الزيارة يتدفق منها الحب والوفاء، ورأت صحيفة المؤيد المصرية في زيارة وليم الثاني إلى الدولة العثمانية محالفة بينه، بصفته عظيم الغرب وعميد أوروبا، وبين عبد الحميد، بوصفه أمير المؤمنين كافة وعميد الإسلام كله واعتبرت ثمرات الفنون أن الاستقبالات التي يلقاها الامبراطور الألماني في مدن سوريا وفلسطين ما هي إلا تعبيراً عن الترحيب الشعبي بسياسة ألمانيا الودية تجاه السلطنة، في وقت تتحد فيه دول أوروبا الكبرى من أجل تجزئة تلك الدولة كما جاء في المؤيد.
وقبل قليل على قيام الامبراطور برحلته إلى الشرق، نشرت المؤيد مقالاً لأحد الكتاب العثمانيين، رأى فيه ما يجعل الدولة العثمانية تتوجه نحو ألمانيا هو تقدمها العسكري والصناعي وأطماع دول أوروبا المستمرة في ممتلكاتها. وفي المقابل رأى أن ألمانيا عليها أن تاسعى بدورها لكسب صداقة السلطنة لأجل ترويج تجارتها، واستخدامها كحليف في أي صراع أوروبي مقبل. واعتبر هذا الكاتب أخيراً، أن مصالح الدولتين تحتم عليهما دعم بعضهما بعضاً.
هذا المديح لآفاق الصداقة السياسية بين ألمانيا والدولة العثمانية، قابله نقد لاذع من جانبي الأهرام والمقطم للسياسة الألمانية تجاه المسألة المصرية، ومساعي ألمانيا للاستحواذ على ممتلكات الدولة العثمانية الآسيوية وساحل سوريا وتوطين الفلاحين الألمان فيه، فضلاً عن هيمنتها على التجارة العثمانية وفوزها بالامتيازات وامتصاصها ثروات البلاد. وقد اعتبرت الأهرام أن زيارة وليم الثاني إلى الشرق هي سياسية واقتصادية الأهداف، وإن ما يقال عن صداقة أو تحالف بين ألمانيا والسلطنة هو كلام وهم، لأن ألمانيا تسعى إلى تحقيق مصالحها. فالدعم المعنوي الذي قدمته ألمانيا إلى السلطانة إبان الأزمة الكريتية، لم يكسب السلطنة أي شيء، حيث اضطرت إلى سحب جنودها من تساليا. وختمت الأهرام مطالبة برفض الصداقة الألمانية بالقول: “نكره أن نكون كالسمك يطعم الطعمة في الصنارة، تشكمنا بعد قليل، أو كالطير ينثر لنا الحب فوق فخ منصوب لنا”.
أما المقطم فلفتت بدورها الانتباه إلى موقف ألمانيا من المسألة المصرية والأهداف السياسية والاستعمارية من وراء رحلة امبراطورها، كفرض حمايتها على رعاياها الكاثوليك في الشرق وسعيها للاستيلاء على ساحل سوريا. فدعت إلى الريبة في صديقتنا الجديدة، لما وراء صداقتها الخفية من الغايات الاستعمارية والتجارية.
هذه التحذيرات من أخطار الصداقة الألمانية، قابلتها جريدة الهدى بتحفظ معتبرة أن الدول الكبرى لن تسمح لألمانيا بالاستيلاء على سوريا. أما المؤيد، فدافعت عن التقارب الألماني العثماني ورفضت ما يشاع عن أن وليم الثاني هو من أنصار الهلال يعمل على تشجيع المسلمين ضد المسيحيين بعد حوادث أرمنيا وكريت. وفيما يتعلق بالمسألة المصرية ذكرت تلك الصحيفة أن امبراطور ألمانيا لم يقل فيها كلمته الأخيرة بعد، وتوقعت أن تكون ألمانيا في وقت ليس ببعيد أشد الدول عداوة لإنجلترا في مصر.
التحضيرات للرحلة:
كانت زيارة عاهل أجنبي حدثاً غير عادي في الدولة العثمانية، فقد كان على الجهات الرسمية العثمانية القيام باستعدادات قبل الزيارة وأثناءها، شملت الإشراف على الرحلة وأمنها وتحديد أمكنة نزول الامبراطور وتعيين لجان الاستقبال والمرافقة، إضافة إلى نشر الزينة وشعارت الترحيب في المدن العثمانية وتحسين مرافقها العامة وبنيتها التحتية.
في الواقع، عرض السلطان عبد الحميد منذ البداية على ضيفه أن يقدم له ولحاشيته، انسجاماً مع الضيافة الشرقية، كل مستلزمات رحلته. إلا أن الامبراطور رفض ذلك، وفضل أن يولي شركة توماس كوك هذه المهمة. ولهذه الغاية، عمدت الشركة المذكورة إلى شراء مستلزمات الرحلة من سجاد وأبسطة وخيام وأواني، وتعاقدت مع مكارين لتقديم الدواب، ومع مترجمين وطهاة وخدم. كما تعهدت بتقديم كل ما يحتاج إليه الامبراطور من مال طوال رحلته. وسبق ذلك في 30 سبتمبر، نقل الدواب والجياد الخاصة من برلين لركوب الامبراطور في فلسطين وسوريا.
وفور الاعلان عن الرحلة، عمد السلطان عبد الحميد الثاني إلى إعداد قصر لائق لضيف في حديقة قصر يلدز، على مقربة من القصر الذي كان الامبراطور قد نزل فيه أثناء زيارته الأولى للعاصمة العثمانية عام 1889، وفرشه بأحدث الأثاث. وذكرت الأهرام نقلا عن الصحف الاوروبية، أن الامبراطور لم ينزل في القصر الجديد بسبب الرطوبة لحداثة بنائه وفضل الاقامة في القصر الذي سبق ونزل فيه عام 1889.
إضافة إلى ذلك، كلف السلطان منير باشا، رئيس التشريفات، إعداد ترتيبات الزيارة في الأستانة، المحطة الأولى للامبراطور في الدولة العثمانية. وجرى تشكيل وفد عثماني رفيع لاستقبال الامبراطور عند دخوله إلى الدردنيل، مؤلف من رئيس مجلس الشورى ووزراء الخارجية والعدل والزراعة والأحراش، ومن رئيس الأركان شاكر باشا وعدد من كبار المدنيين والعسكريين. كما شكل وفد عثماني آخر لمرافقة الامبراطور أثناء تجواله في بلاد الشام برئاسة المشير شاكر باشا والفريق عبد الله باشا. كما أمر والي كريت جودت باشا بالالتحاق بالوفد العثماني المستقبل للامبراطور في فلسطين وسوريا، وكذلك أحمد رستم بك، أحد محرري جريدتي معلومات وثروات للقيام بتحقيقات صحفية عن الرحلة. وفي الوقت نفسه، وصل إلى مدن بلاد الشام خمسة عشرة مراسلاً أجنبياً وعربياً لتغطية تحركات الامبراطور.
وفي ولايتي سوريا وبيروت ومتصرفية جبل لبنان، شكلت لجان ثلاث برئاسة كل من الواليين ناظم باشا ورشيد بك ونعوم بك، متصرف جبل لبنان، للإعداد للرحلة. وقامت هذه اللجان بتعيين وفود الاستقبال من الرسميين المدنيين والعسكريين وأعيان البلاد.
وفي الوقت نفسه، جرى تحديد السفن الحربية العثمانية التي ستستقبل يخت الامبراطور عند دخوله إلى الدردنيل، وتلك التي سترافق موكبه البحري إلى مينائي حيفا وبيروت وعليهما الوفد العثماني المرافق. وقد أعيد تجديد هذه السفن وطلاؤها. وجرى أيضاً تحضير الفرق العسكرية المستقبلة وتلك التي ستجري عروضاً عسكرية في الأستانة وبيروت ودمشق. ووصل إلى حيفا ألاي خيالة لاستقبال الامبارطور عند وصوله ومرافقته إلى يافا والقدس. وذكرت الصحف أن الجنود العثمانيين وعددهم ما بين 15.000 – 30.000 جندي، حصلوا لأول مرة على ألبسة عسكرية جديدة.
وللسهر على حياة الامبراطور، حيث ترافقت زيارته إلى الدولة العثمانية مع اغتيال امبراطورة النمسا على يد أحد الفوضويين الإيطاليين، وشائعات عن محاولة لاغتيال الامبراطور الألماني في مصر أو في فلسطين، عين حرس خاص للعاهل الألماني مكون من 500 من خيالة أرطغرل بقيادة الفريق عبد الله باشا. وعلى الطريق من بيروت لدمشق، وضع أربعة آلاف جندي حراسة. وفي القدس، وضعت 25 نقطة حراسة حول المخيم الذي نزل فيه الامبارطور. وكان وليم الثاني يعطي نفسه كل ليلة كلمة السر للدخول إليه. إضافة إلى ذلك، وضعت أعداد كبيرة من البوليس السري العثماني والشرطة لحماية الامبراطور في المدن السورية ومرافئها. وذكرت الأهرام وصول 12 من رجال البوليس السري الألماني إلى يافا والقدس. وقد جرى اعتقال الأجانب المشتبه بهم في العاصمة العثمانية وفي مدن بلاد الشام ولاسيما الإيطاليين منهم، ومنع البحارة الإيطاليون واليونانيون من النزول إلى المرافئ السورية، في الأستانة اعتقل أعضاء جماعة تركيا الفتاة احترازياً.
وحول الاستعدادات والتحضريات للزيارة في مدن بلاد الشام، أسهبت الصحف العربية في وصفها. فمن حيفا إلى يافا إلى القدس فبيروت ودمشق وبعلبلك، أقيمت الزينات على أنواعها ورفعت الأعلام والشعارين الألماني والعثماني (التاج والنسر والطغراء) ولافتات الترحيب بالضيف ومضيفه السلطان عبد الحميد. كما نصبت أقواس النصر في كل مكان. وفي دمشق، طلب إلى الأهالي إقامة الزينة لمدة ثلاثة أيام، وبلغ عدد الأعلام التي رفعت في المدينة 28 ألفاً. وفي بيروت، قامت شركة الغاز بإنارة المرفأ حيث يرسو يخت الامبراطور، وأقيمت قبة على الرصيف مكان نزول الضيف الكبير. كما تقرر إنارة جبل لبنان في قضاء الشوف حتى جبل صنين يوم رسو يخت الامبراطور. وأوعز متصرف جبل لبنان إلى أصحاب المنازل في القرى المشرفة على البحر أن يقيمو الزينة، وأن تطلق الألعاب النارية إحتفالاً. وذكرت الصحف أن يافا وسارونة كانتا تتلألآن بالأنوار على طراز بديع، ولم تكن زينتها أقل روعة من زينة القدس.
وباستثناء الآستانة، كان على الامبراطور أن يبيت إما على يخته (حيفا وبيروت)، أو في ثكنة عسكرية (دمشق)، أو في المضارب (برج الخيل، اللطرون، القدس، بعلبك). لذا، انصبت التحضيرات على تجهيز الثكنة العسكرية في دمشق وفرشها بأجمل المفروشات الشرقية المحلية الصنع لجعلها مكاناً لائقاً لنزول الامبراطور. وفي عاليه، أقيم مخيم من عشر خيام لاستراحة الامبراطور أثناء سفره بالقطار من بيروت إلى دمشق. وقد أحيط بأشجار الأرز والصنوبر وغيرها التي قطعت بخاصة من غابات لبنان. وفرشت أرض المخيم بالرمال الحمراء والصفراء. وفي القدس، أقيمت المضارب خارج أسوار المدينة على بقعة أرض مساحتها عشرة أفدنة، وبلغ عددها 75 خيمة. وقد اكتست خيمة الامبراطور بالحرير الأرجواني والأطلسي من الخارج والداخل، ووضع على قمة عمودها المركزي التاج الامبراطوري والكرة، وأنير المخيم بالأنوار. وكان السلطان عبد الحميد قد أرسل من الأستانة خيمتين للامبراطور وزوجته وخيماً أخرى مع أثاثها إلى القدس. وفي بعلبك، حيث كان مقرراً أن يبيت الامبراطور ليلة واحدة، تم تمهيد أرض قلعتها وتنظيفها من أجل اقامة الخيام. وفي معلقة زحلة، أقيمت المضارب أيضاً لاستراحة الامبراطور وتناول الغداء.
وفي كل مدن بلاد الشام التي زارها الامبراطور، أصلحت الطرقات ورصفت من جديد وطليت الجدران العامة والخاصة والحوانيت. ففي دمشق، انصبت الجهود على اصلاح طريق المرجة – البرامكة. وتم اصلاح 10-12 ميلاً من طرقات دمشق الداخلية الخارجية، بينما بلغ عدد الحوانيت التي طليت بالألوان 5.000 والجدران حوالي 2.000 متراً مربعاً. وفي بيروت، أصلحت الطرقات في المرفأ من محطة سكة الحديد حتى محلة النهر وفرشت بالرمال. أما في فلسطين، فرصفت طريق يافا – القدس وفتحت طريق جديدة في القدس وبيروت وبعلبك، ووسعت الطرقات لتسهيل مرور موكب الامبراطور. وفي حيفا أعد رصيف خاص طوله 70 متراً لرسو اليخت الامبراطوري. وأخيراً، أعدت في بيروت ثلاثة عربات فرشت بالحرير الرمادي والأخضر. كذلك، أعدت بلدية بعلبك اصطبلات للخيول الامبراطورية، وأنشئت ساحة كبيرة أمام مدخل القلعة لوقوف المركبات، وجرى تنظيف خزان المدينة.
محطات الرحلة
الموكب الامبراطوري في شوارع القدس.
خلال رحلته في الممالك العثمانية، زار الامبراطور بداية العاصمة العثمانية، ثم انتقل بعدها بحراً إلى فلسطين حيث زار مدنها الرئيسية، بعد ذلك انتقل بحراً إلى بيروت، ثم بالقطار إلى دمشق فبعلبك، وعاد إلى بلاده عن طريق ميناء بيروت. وقد استمرت هذه الرحلة من 16 أكتوبر حتى 12 نوفمبر 1898.
الأستانة 17-22 أكتوبر 1898
وصل الامبارطور وليم الثاني وزوجته يوم الاثنين 17 أكتوبر على متن يخته إلى مياه الدردنيل بحراسة البارجتين الألمانيتين هيرتا وهيلا، يرافقه وفد من كبار رجالات الدولة وعلى رأسهم وزير خارجيته بولو، والمرنمين. وكان الوفد العثماني في استقباله على متن اليخت السلطاني عز الدين. ووسط هذا، كانت السفن العثمانية والقلاع العسكرية تطلق مدافعها ترحيباً. وبسبب هبوب عاصفة مفائجة، تأخر رسو اليخت الامبراطوري إلى صباح اليوم التالي. ويوم الثلاثاء صباحاً، كان السلطان عبد الحميد الثاني في استقبال نظريه الألماني مع كبار رجالات الدولة عند طولمة بغجة، حيث سار معه في موكب كبير إلى قصره في حديقة يلدز مخترقاً شوارع العاصمة التي ازدحمت بالجنود والمواطنين. وخلال زيارته للعاصمة العثمانية، قابل الامبراطور الألماني السلطان العثماني ثلاث مرات. وقد حفت إقامته في الأستانة بحضور المآدب على شرفه وتفقد معالم المدينة (القرن الذهبي – أسوار المدينة – السوق الكبير، مسجدي أي صوفيا والسلطان أحمد – طبو قبو) وزيارة معمل هيريكيه لصناعة السجاد والمؤسسات الألمانية (السفارة الألمانية والنادي والمدرسة والمستشفى).
وقد بلغت زيارة الامبراطور للأستانة ذروتها بحضوره خروج السلطان عبد الحميد في موكب كبير لتأدية صلاة الجمعة في جامع حميدية (السلاملك)، ثم مشاهدته في أعقاب ذلك عرضاً عسكرياً كبيراً مبدياً إعجابه بتنظيم الجيش العثماني.
ويوم مغادرة الامبراطور وزوجته الأستانة إلى فلسطين، تناولت الصحفة لحظة الوداع المؤثرة. وذكرت ثمرات الفنون أن لغة الكلام تعطلت بين الضيفين ومضيفهما، وأن الدموع انهمرت من عيني الامبراطورة، التي امتدحت السلطان لحسن ضيافته ولطفه واخلاص شعبه له.
فلسطين 25 أكتوبر – 4 نوفمبر 1898:
صباح يوم الثلاثاء 25 أكتوبر، وصل امبراطور ألمانيا إلى ميناء حيفا على متن يخته، حيث كان في استقباله واليا سوريا وبيروت ومتصرف عكا وكبار رجالات الدولة المدنيين والعسكريين ونحو عشرين ألفاً من المواطنين. وقد أطلقت مدفعية عكا مدافعها ابتهاجاً. ودامت زيارة العاهل الألماني لفلسطين عشرة أيام، زار خلالها مدن فلسطين الرئيسية حيفا ويافا والقدس وبيت لحم، وعرج على مناطق أثرية أخرى. وقد استقبله السكان بترحاب.
وأثناء زيارته حيفا، صعد الامبراطور جبل الكرمل وزار القنصلية الألمانية في المدينة وديري الراهبات الكاثوليكيات والبروتستانتيات. كما استقبل الأب بيفر، مدير المستعمرة الكاثوليكية الألمانية في الطبغة. وفي حيفا، ألتقى ألمان من جماعة الهيكل (التمبلر) وتفقد مؤسساتهم.
وفي 26 أكتوبر، قصد الامبراطور يافا على صهوة جواده، فمر على عتليت وقيسرية وتفقد آثارهما، ثم بات ليلته في برج الخيل. وفي صباح اليوم التالي، مر بمضارب عرب الهوجاء وشاهد عرضاً فروسياً. وعند المغيب، وصل إلى يافا، حيث استقبله الوفد الرسمي العثماني، وكبار علماء المدينة وسكان مستعمرة سارونة يتقدمهم قنصل ألمانيا.
وبعد أن زار الامبراطور اللطرون يوم الجمعة 28 أكتوبر، وبات ليلته فيها، دخل القدس في اليوم التالي في موكب عظيم وسط دوي المدافع وألحان الموسقى. وذكرت ثمرات الفنون أن 200 ألف شخص كانوا في استقباله. وخلال يومي السبت والأحد، كان برنامج الامبراطور حافلاً: زيارة القبر المقدس في كنيسة القيامة، حيث استقبل بخطابات ترحيب من قبل بطاركة الطوائف الثلاث: اللاتين، والأرمن والأرثوذكس. وذكرت المقطم في هذه المناسبة أن البابا بعث إلى رؤساء الكنيسة الكاثوليكية في فلسطين بأن يحتفلوا بالامبراطور كرجل عادي غير كاثوليكي، لأن قوانين الكنيسة لا تجيز غير ذلك. كما زار الامبراطور كنيسة المهد في بيت لحم، وحضر تدشين الكنيسة الإنجيلية الألمانية في تلك المدينة. كما صعد إلى جبل الزيتون في القدس وزار كنيسة القديس جاورجيوس الإنجليزية.
بلغت زيارة وليم الثاني إلى القدس ذروتها بتدشينه كنيسة المخلص الإنجيلية الألمانية، يوم الإثنين 31 أكتوبر. وذكرت النشرة الأسبوعية أن الامبراطور هو الذي اختار هذا التاريخ بنفسه، لأنه كان يصادف يود بدء حركة الاصلاح الديني في ألمانيا في 31 أكتوبر 1517 وبعد ظهر اليوم نفسه، تسلم الامبراطور قطعة أرض الدورومثيون في النبي داوود هدية من السلطان إليه. ووعد وليم الثاني في هذه المناسبة ببناء كنيسة للكاثوليك الألمان عليها. وأعقب ذلك زيارة لدير الأرمن وبطريكية الروم الأرثوذكس. أما ما تبقى من برنامج رحلته إلى القدس، فكان زيارة الحرم الشريف وجامعة سيدنا عمر، والمسجد الأقصى، وبرك سليمان، والمستشفى الألمانين ودار الأيتام السورية، وقبور السلاطين.
بيروت-دمشق-بعلبك: 5-12 نوفمبر:
بعد أن أنهى وليم الثاني زيارته إلى فلسطين، غادرها بالقطار إلى يافا في 4 نوفمبر ومنها إلى بيروت التي وصلها بحراً يوم السبت في 5 نوفمبر. وكان في انتظاره نحو 250 ألفاً من سكان المدينة، ومن بينهم طلبة المدارس التي أقفلت صفوفها في هذه المناسبة. ويم الأحد، صعد الوفد العثماني برئاسة شاكر باشا ورشيد بك يرافقهما عبد القادر قباني، رئيس بلدية بيروت، إلى اليخت الامبراطوري، وقدموا للامبراطور هدية مدينة بيروت عبارة عن مصنوعات شرقية كتب على غلافها العبارة العربية التالية: “تقدمة لحضر حشمتلو امبراطور وامبراطورة ألمانيا العظيمين من بلدية بيروت تذكراً لتشريفهما في سنة 1316/1898”.
وبعد غذاء مع الوفد العثماني على ظهر يخته، نزل الامبراطور إلى البر وزار المستشفى البروسي واجتمع بأطبائه الأمريكيين. ثم واصلت الامبراطورة زيارة المدارس الألمانية لشماسات القيصر زوفرت، فيما اتجه الامبراطور ناحية الثكنة العسكرية حيث شاهد هناك عرضاً عسكرياً أعقب ذلك زيارته للحديقة العسكرية في محلة الحرج.
ومن بيروت، واصل الامبراطور رحلته بالقطار إلى دمشق يوم الاثنين في السابع من نوفمبر عبر جبل لبنان، وسط معالم الزينة المعهودة واستقبالات المسؤولين والسكان في البلدان. وفي عاليه، استقبله الرسميون اللبنانيون، وعلى رأسهم المتصرف نعوم باشا وسط عزف النشيدين الألماني والعثماني. وبعدما استراح الامبراطور في سرادق أقيم لهم، وتذوق بعض الشمبانيا وشاهد عرضاً فروسياً، وآخر بالسيف، وتابعه سفره، فبلغ سعدنايل ثم معلقة زحلة. وذكرت البشير أن ما لا يقل عن 60 ألف شخص احتشدوا في محطة المعلقة لاستقباله. وقد رفعت أقواس النصر وكتب على إحدى جهاتها: “فليحيى سلطاننا الغازي عبد الحميد خان” وعلى الجهة الأخرى “فليحيى امبراطور وامبراطورة ألمانيا..
بعد استراحة غذاء في المعلقة، واصل الامبراطور سفره إلى دمشق، فبلغها في المساء حين وصل إلى محطة البرامكة، ون هناك سار على صهوة جواده، وزوجته جالسة في مركبة، مخترقاً شوارع المدينة وسط دوي المدافع وتحيات الجماهير الغفيرة. فبلغ تكية السلطان سليم ثم جسر الحديد، حيث كان في استقباله طلبة المدارس المدنية والعسكرية. ثم واصل إلى الثكنة العسكرية التي نزل فيها طوال اقامته. وقد وصفت المقطم استقبال العاهل الألماني في دمشق بأنه كان حافلاً جداً، وأن أهالي المدينة أظهروا الابتهاج والسرور بقدومه، هذا ما لا يشاهد عادة في الشرق وأن المدينة زينت بأبهى زينة.
وأثناء اقامته في دشمق التي استمرت حتى صباح الخميس 9 نوفمبر، زار وليم الثاني الجامع الأموي وضريحي النبي يحيى والسلطان صلاح الدين. كما زار قصر آل العظم في البزورية ومنازل جيران شامية وناظم باشا ولوتيكه، قنصل ألمانيا في دمشق. إضافة إلى ذلك، تفقد العاهل الألماني معالم المدينة وصعد إلى جبل قاسيون، وحضر عرضاً عسكرياً وفروسياً في المرجة، بينما زارت قرينته تدمر. ومساء الثلاثاء 7 نوفمبر، أقامت بلدية دمشق مأدبة عشاء كبرى على شرفه.
وبحماية ألف من فرسان العرب، غادر الامبراطور دمشق يوم الخميس 10-11 نوفمبر متوجهاً إلى بعلبك، التي وصلها عند المغيب، حيث كانت قد أعدت له مضارب للمبيت داخل القلعة عند هيكل الشمس. وجرى توقيت زيارته إلى بعلبك بحيث يكون القمر بدراً كي ينير النواحي وهو وسط الهيكل. وقام الامبراطور بتفقد القلعة وسط عزف النشيد الألماني. وقد ألقت إحدى بنات حبيب باشا مطران كلمة ترحيب بالفرنسية، ثم وجهت كلامها إلى الامبراطورة قائلة: “إن هيكل بعلبك لدى نظره أنك أعظم رأس متوج رآه منذ ألف وخمسائة سنة، ينحني إجلالاً بكل مجده الماضي القديم أمام مجدك الحاضر العظيم”؟
وفي اليوم التالي، الجمعة 11 نوفمبر، قدم الأديب ميخائيل ألوف إلى الامبراطور كتابه حول تاريخ بعلبك. وعقب ذلك، أزاح الامبارطور الستار عن لوحة تذكارية أمر السلطان بإقامتها بمناسبة زيارته إلى بعلبك. وكانت عبارة عن قطعة رخامية بيضاء طولها أربعة أمتار وعرضها متران، أحيطت بالفسيفساء السوداء والحمراء وقسمت إلى قسمين متساويين حملا في أعلاها الشعار الألماني والطغراء العثمانية، وكتب تحتها باللغتين الألمانية والعثمانية عبارة “تذكار الولاء الراسخ بين جلالة السلطان الغازي عبد الحميد الاثني وبين جلالة الامبراطور غليوم الثاني”. وقد استحسن الامبراطور نقل اللوحة الرخامية من قبالة الدهليز، الذي يدخل منه إلى القلعة، إلى هيكل المشترى، ووضعه إزاء الأعمدة المشهورة. ثم أخذ معولاً مكبساً بالذهب، وضرب الحائظ ثلاث مرات. وفي تلك الأثناء، كان الرسام الامبارطوري يلتقط الصور للعاهل أثناء وقوفه أمام اللوحة. بعد ذلك تفقد الامراطرو هيكل الزهرة والحائط الفينيقي.
هكذا، وصلت رحلة وليم الثاني إلى الشرق نهايتها، فغادر بعلبك إلى بلاده عن طريق المعلقة فعاليه فبيروت يوم السبت 12 نوفمبر. وكتبت الأهرام تقول: “وهكذا انتهت هذه الرحلة العظيمة التي سيكون لها في التاريخ ذكر خالد وأثر عظيم”.
خطاب الامبراطور في دمشق:
ركزت كلمات الامبراطور وخطبه على ثلاث موضوعات: حفاوة الاستقبالات النابعة من الصداقة الألمانية العثمانية – ودعم الوجود الألماني في السلطنة، وأخيراً إظهار ولائه للمسلمين وللسلطان العثماني كخليفة عليهم.
انتهز وليم الثاني كل مناسبة لإظهار سروره بحفاوة الاستقبال الذي كان يلقاه من السلطان وشعبه. وقال في إحدى المرات، إن ما وفره السلطان عبد الحميد من أسباب الراحة في رحلته كان بمثابة حنو الأب على ابنه. واعتبر الامبراطور أن طريق الصداقة التي سلكها والده الامبراطور فريدريك وليم تجاه السلطنة، قد توطدت برحلته الأخيرة وظهرت ثمارها الشهية. كما أكد “أن الأمتين بالرغم من اختلافهما في الجنس والمذهب، تستطيعان أن تكون في ولاء وتحاب .. وتتبادلان عضد أحدهما الأخرى”. لقد كانت الصداقة الألمانية العثمانية برأيه، هي التي فتحت أبواب فلسطين أمامه وجعلته يحج إلى الأراضي المقدسة. وفي خطابه الذي ألقاه بمناسبة تدشين كنيسة المخلص الإنجيلية، انتقد العاهل الألماني الفرنجة بدخولهم فلسطين بحد السيف، فيما دخلها هو بقوة السلام. وقبل مغادرته بيروت عادئاً إلى بلاده، أبلغ الامبراطور الوفد العثماني المرافق أنه لن ينسى رحلته إلى الشرق، وأنه يقدر الصداقة التي تربطه بالسلطان العثماني. وتمنى لعبد الحميد الثاني “أن تكون أيامه مديدة محفوفة بالتوفيق والنجاح”.
ولم يتقصر سرور العاهل الألماني على الاجراءات الرسمية العثمانية التي أدت إلى نجاح سياحته فحسب، بل على ما لاقاه من احساسات وعواطف الشعب العثماني. فاعتبر أن آثار التعظيم التي لقيها في ثغر بيروت دليل على ايمان الشعب العثماني بالصداقة الألمانية العثمانية. ولكثرة سروره من استقبال الدمشقيين له: قال “إنه لم ير منذ جلوسه على سرير الملك جمعاً رحب به وابتهج بقدومه أكثر مما رحب به أهل دمشق الفيحاء”. وقال لناظم باشا “أن امبراطوراً يريد أن يرى احتراماً فائقاً فليأت إلى دمشق”. وذكر خليل سركيس، صاحب لسان الحال، أن الامبراطور قال من شدة اعجابه بدمشق: “ما على الأرض أجمل من دمشق. ما على الأرض أجمل من دمشق”. كما شاع أنه قال في دمشق: “لو يأتي شعبي المؤلف من أربعين مليوناً من الألمان إلى هذه البلاد، فيتعلمون إذ ذاك كيف يستقبل الملوك في الشرق”.
كذلك، عكست تصريحات الامبراطور هنا وهناك التأكيد على نجاح سياسته الشرقية. فإقبال الأتراك على المدارس الألمانية، كان برأيه دليلاً على نجاح الثقافة الألمانية “وانتصاراً للعنصر الجرماني”. واعتبر أثناء وجوده في الأستانة، أن تلك السياسة كانت “مصدر بركات” للألمانيين المقيمين في الدولة العثمانية، حيث انتفعوا بها ونالوا بسببها مقاماً رفيعاً في الدولة. وحين التقى جماعة الهيكل في فلسطين، أبلغهم الامبراطور عن سروره لعدم تخليهم عن وطنيتهم، وأكد لهم أنه سيعمل مع السلطان عبد الحميد كي يكون مستقبلهم مضموناً في تلك البلاد. إن تشديد العاهل الألماني على الوطنية كان يستلزم منه سياسة تقوم على المساواة بين رعاياه وعلى أساس المذهب. وقد تجسد ذلك أثناء الاحتفال بتسلمه أرض الدورومثيون في النبي داود، حيث قال: “أنه، كما بنى كنيسة لرعاياه الألمان البروتستانت، فسوف يبنى كنيسة لرعاياه الألمان الكاثوليك على قطعة الأرض” التي أهداها له السلطان عبد الحميد وفي هذا السياق، أكد على حمايته لرعاياه الكاثوليك، وطالبهم بأن يثقوا دائماً بحماية الملكية، كلما شعروا بالحاجة إليها في أي مكان وزمان كان”.
وعلى الرغم من كل ما قيل حول كلمات الامبراطور الألماني وخطبه، تبقى تصريحاته في دمشق يوم الثلاثاء 8 نوفمبر أمام ضريح السلطان صلاح الدين وفي مأدبة العشاء على شرفه في مبنى بلديتها، أبرز ما قيل سياسياً خلال الرحلة واستقطبت الاهتمامين المحلي والدولي.
يوم الثلاثاء صباحاً، زار الامبراطور ضريح السلطان صلاح الدين، حيث وضعت زوجته عليه إكليلاً من الزهر، كتب عليه بالعربية: “غليوم الثاني قيصر ألمانيا وملك بروسيا تذكاراً للبطل السلطان صلاح الدين الأيوبي”. وقد اتفقت كل من المنار والمؤيد على أن الامبراطور وقف برهة ساكناً أمام لحظة الموقف، ثم بسط يديه وكأنه يستنزل الرحمة عليه، وقال، إن صلاح الدين كان الآية الكبرى في زمانه في الشهامة والعدل والكرم.
ولم يكن هذا الموقف انطباعي ابن ساعته. فعشية اليوم نفسه، حضر الامبراطور مأدبة عشاء كبرى على شرفه أقامتها بلدية دمشق، ألقى خلالها الشاب سليم ثابت كلمة بالفرنسية ختمها بالعربية دارت حول التعايش الإسلامي-المسيحي في السلطنة. ثم تبعه الشيخ محمد علي الكزبري، فخطب نيابة عن أهل دمشق مرحباً بالامبراطور ومشيراً إلى الصداقة التي تربطه بالسلطان وما له من “الأيادي البيضاء والمساعدات” على الأمة العثمانية، ما جعله يحتل مكاناً في قلوب العثمانيين والمسلمين.
وقد رد الامبراطور على كلمة الشيخ الكزبري بخطاب أعلن فيه عن سروره بوجوده:
«… في مدينة عاش بها من كان أعظم أبطال الملوك الغابرة بأسرها الشهم الذي تعالى قدره بتعليمه أعدائه كيف يكون الأبطال، ألا وهو المجاهد الباسل السلطان الكبير صلاح الدين الأيوبي، منتهزاً هذه الفرصة لأبين قبل كل شيء، بسرور لا فريد عليه، تشكراتي لحضرة ذي الشوكة السلطان عبد الحميد خان الذي أفتخر بخالص محبته وجميل مجاملته”. وأضاف الامبراطور قائلاً: “ليوقن حضرة صاحب الشوكة السلطان عبد الحميد خان الثاني والثلاثمائة مليون من المسلمين المرتبطين بمقام خلافته العظمى ارتباطاً قوياً، والمنتشرين في جميع أنحاء الكرة الأرضية، أن امبراطور ألمانيا سيبقى مخلصاً لهم إلى الأبد.»
كان لهذا الخطاب وقع كبير على مسلمي بلاد الشام. أولاً، لأنه امتدح قائداً عسكرياً وسياسياً فذاً دافع عن دار الإسلام ضد حملات الفرنجة، وثانياً، لأنه تطرق إلى الخلافة الإسلامية المتمثلة بعبد الحميد، وبروابط الجامعة الإسلامية التي تشد المسلمين إلى سدة الخلافة. ورأت المنار أن ما جعل وليم الثاني يمتدح صلاح الدين ويظهر له احترامه هو أن الامبراطور رجل حرب ورئيس أعظم جيش في العالم، بينما صلاح الدين أعظم رجل حرب في عصره، ومن سجايا البشر أن البارع في شيء يحترم من هو مثله في طبقته، وإن كان خصمه. وفي الحروب أضافة المنار، “فالشجاع الباسل يأسف على الباسل إذا قتل ولو بسيفه”. وفي هذا المعنى، علقت المؤيد على الخطاب، معتبرة أن صفات صلاح الدين الشريفة كان لها تأثير مغناطيسي على الامبراطور الألماني، وهو ما حبب وليم الثاني بصلاح الدين، وإن كان الأول (وليم الثاني) من دعاة المسيحية في القرن التاسع عشر، وصلاح الدين من حماة الإسلام ودعاته في القرن الثاني عشر”.
الامبراطور يغادر ميناء حيفا، 25 أكتوبر 1898. السفينة الوسطى، هي يخت الامبراطور.
وبمناسبة إهداء وليم الثاني ضريح صلاح الدين ثريا بعيد اندلاع الحرب العالمية الأولى، علقت صحيفة أبابيل البيروتية على حادثة زيارة الامبراطور الألماني لضريح صلاح الدين عام 1898، وبمفعول رجعي، متسائلة هل السبب في ذلك أن الامبراطور افتتن بعلوم صلاح الدين العسكرية وفنونه الحربية، أو لأنه “وقف على أساس الدين الإسلامي المبين وأيقن أنه هو المنهج القويم والصراط المستقيم”.
أخيرا، تبقى كلمة الشاب سليم ثابت في مأدبة العشاء تكريماً للضيف الألماني حول التعايش الإسلامي – المسيحي، والتي جعلت الامبراطور يستدعيه في اليوم التالي ويقول له: “إن وزن خطابك أمس ساورني في الحلم”. وفسرت مجلة الجامعة العثمانية كلام الامبراطور سياسياً، أراد به أن يعتبر عن إعجابه بالتعايش الإسلامي – المسيحي في السلطنة وبأوضاع المسيحيين فيها، مقارنة بأوضاع الأقليات الدينية الخاضعة لحكم الاستعمار، على عكس ما كان يشاع في الإعلام الغربي. وقالت، إن وليم الثاني قد أبدى اعجابه بالجامعة العثمانية، لأنها تؤمن سلامة الدولة من الداخل، وبالجامعة الإسلامية لأنها تقوي من الروابط المعنوية بين كرسي الخلافة والمسلمين في العالم، وتجعل العدو يحسب حسابها. واعتبرت الجامعة العثمانية أن موقف الامبراطور هذا، قد أفاد الجامعة الإسلامية بنفيه وصفها بالخطرة على العالم. لكنها رأت في المقابل، أن الامبراطور يستفيد من الجامعة الإسلامية، إذ “ليس قليلاً صداقة ثلاثماية مليون من المسلمين”. وختمت المجلة تعليقها، بأن التاريخ سوف يقول عن امبراطور ألمانيا في المستقبل: “لقد حكم ألمانيا في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين ملك شاب كرهت نفسه الكبيرة العادلة أن تكون في جملة النسور الطامعة التي كانت تحوم بشراهة وجشع على بلاد الدولة العثمانية”!!.
Discussion about this post