حقيقة التَصوُّف ..
د.علي أحمد جديد
التصوّف هو حالةٌ من نمطين مختلفين في إطار مفهومين متناقضين كلياً .
ومفهوم التصوّف الأول يكون صادراً عن الإيمان بوجود إلهٍ يتجاوز الكون المخلوق بكل مافيه من الإنسان والطبيعة بثنائياتها المعروفة (سماء و أرض ، إله خالق وإنسان مخلوق ، خير و شر ، ليل ونهار ) وهكذا . وتتجسد هذه الحالة من التصوّف في تدريبات المتصوّف لكبح جماح الجسد والغرائز تعبيراً عن شفافية العلاقة وطٌهرِها مع الخالق في محاولة التقرّب منه ، ومع القناعة الكاملة والتامة باستحالة التوحد مع الإله ، لأن الحلول الإلهي يتنافى مع الإيمان التوحيدي ، لأن التعبير عن محبة الإله يكون في الالتزام بقيم الخير المُطلَقة للعمل على إصلاح الدنيا .
والمفهوم الثاني للتصوّف وهو كما تعبِّر عنه نظرية (القَبَّالَة اليهودية) يتجسّد في إطار حلولية الإله في الإنسان وفي الطبيعة ، وكذلك في أيٍّ من المخلوقات ،كما هو الحال في الديانات الهندية المتعددة اليوم والتي تتوجه في عباداتها إلى المخلوقات (بقرة ، قرد ، هرة ، ..) وغيرها للاعتقاد بأن الإله يحِلُّ فيها ويتوحّد معها حتى يصبح أن لا وجود له خارجها . ويتم اختزال الواقع كله إلى مستوى هذا الحلول التَوَحدي وخاصة بتوحّد الإله مع الإنسان المتصوّف الذي يدّعي معرفة الذات الإلهية التي تحل فيه ، فيأخذ التصوّف شكل التفسيرات الباطنية بكتابة التمائم والتعاويذ التي يوحي بها المتصوِّف بأن لها التأثير في الحدِّ من الإرادة الإلهية ، وتمنع الضرر كما تستجلب الخير .
وغالباً ما يأخذ هذا التصوّف شكل الزهد الذي لايهدف إلى تطويع النفس ، بل إلى الوصول للإله والتوحّد فيه ليكون المتصوّف (عارِفاً) بالأسرار الإلهية ، ويصبح هو نفسه شبيهاً بالإله ، فوق الخير وفوق الشرّ ، ومتسامياً على كل القيم المعرفية والأخلاقية . وهذا هو جوهر مفهوم الحلولية في (القَبّالة اليهودية) التي تقول بأن الربّ (يَهْوَه) يَحُلُّ في شعبه اليهودي المختار ، وبالتالي يكون اليهودي فوق كل القوانين الإنسانية أو الأخلاقية لأن الإله يحُلُّ فيه ويتوحَّد فيه .
في حين أن مفهوم التصوّف الحقيقي يتجسّد في كثير من التجارب التي كانت أعلاماً وهداية في التاريخ الإسلامي ، نستعرض واحدة منها لتوضيح الصورة الحقيقية في التصوّف دون أي اجتهاد شخصي . فقد كانت حياة (أبو منصور الحلَّاج) وما انبثق منها من إشعاعاتٍ وإشراقاتٍ ، في التفكير والتأمل ، والتي يقول عنها نيكلسون :
” لحظة جوهرية في تاريخ التصوّف الإسلامي” .
كانت من نقاط التحوّل والتطوّر في التصوّف الإسلامي ، ومن مطالع النماء والخصوبة في التفكير الروحي ، لأن الأصول الكبرى لذلك التراث الإسلامي العالمي ترجع في جذورها إلى الحَلّاج الذي شكّل في محيط الفكر الصوفي أعظم القوى الروحانية الإيمانية التي عرفها التاريخ الإنساني .
والتصوّف عند الحلَّاج ، هو انتساب الإنسان إلى الله الخالق سبحانه وتعالى ، لا إلى العالم المادي ، وارتفاع الإنسان إلى الله في سفرٍ طويلٍ هائلٍ لا تقدر عليه إلا عزائم الرجال الكبار ، من المصطفين الأحرار . وهو سَفرٌ شاقٌ تفنى فيه الصفات البشرية في الصفات الإلهية فناء طاعةٍ وعبوديةٍ ، وفَناء حبٍّ ووجد ، وذوقٍ وشوق .
إذْ يُقَسِّمُ الحلَّاج هذا السفر الطويل إلى أربع مراحل ، تبدأ الأولى بالمعرفة وتنتهي بالفناء ، والثانية تبدأ أنوارها وإلهاماتها حين يعقب الفناء البقاء ، وفي الثالثة يوجّه الإنسان الكامل اهتمامه لمخلوقات الله مرشداً وهادياً . وفي الرابعة قمةٌ سامقةٌ مشرقةٌ يحلِّق الإنسان في آفاقها وقد غمرته الصفات الإلهية، بأنوارها الإشراقية ، فيصبح مرآةً تعكس حقائق الكون وأسراره .
وهو موقفٌ لا مجالَ للحديث عنه إلا بما قال محيي الدين بن عربي :
“ليس في مستطاع أهل المعرفة إيصال شعورهم إلى غيرهم ، وغاية ما في هذا المستطاع هو الرمز عن تلك الظواهر لأولئك الذين أخذوا في ممارستها” .
ومن أراد فقهاً أكبر ، فليتأمل قول سيد المرسلين عليه وآله الصلاة والتسليم في حديثه ليلة الإسراء :
“انعكس بصري في بصيرتي ، فرأيت من ليس كمثله شيءٍ”..
أي أن مارآه كان بالاستبصار الروحي لابمادية الإبصار .
ويقول الحلَّاج :
“أسماء الله التسعة والتسعين تصير أوصافاً للعبد السالك وهو بعدٌ في السلوك غير واصلٍ .
ومن صدق مع الله في أحواله ، فُهِم عنه كل شيءٍ وفَهِم عن كل شيء” .
وقد حمل الحلَّاج في رحلة تصوّفه أمانة المعرفة الصوفية العليا وعاشها بروحه وبقلبه وحسه ، وقدّم دمه فداءً لها في بطولةٍ أسطوريةٍ لا يزال شعاعها وإلهامها يومض عبر صفحات التاريخ .
كانت تجربة الحلَّاج الصوفية من أصدق وأخلص ما عرف تاريخ التصوّف ، وهذا سرُّ ما فيها من عمقٍ ومن حرارةِ الإلهام ، بعد أن
صعد في معارجها بجناحٍ جبارٍ من أجنحة الحب والوجد ، ووهبها كل روحه وقلبه ، وأماني حسه حين حمل قيثارته ليَهِبَ الخلودَ إلهاماتِ حبه ومعرفته وتجربته .
يقول الحلَّاج مصورًا حبَّه ووجدَه :
الله يعلم أن ما في النفس جارحة إلا وذِكرُه فيها نيل ما فيها
ولا تنفستُ إلا كانَ في نَفَسي
تجري به الروح مني في مجاريها
إذ كانت العين مذ فارقتها
نَظَرتْ إلى سواه فخانتها مآقيها
أو كانت النفس بعد العد آلفةً
خلفاً عداه فلا نالت أمانيها
وقال ايضاً :
والله ما طلعت شمسٌ ولا غربت
إلا وحبك مقرونٌ بأنفاسي
ولا خَلَوْتُ إلى قومٍ أُحدّثهم
إلا وأنت حديثي بين جُلَّاسي
ولا ذكرتُك محزونًا ولا فرِحًا
إلا وأنت بقلبي بين وسواسي
ولا هممت بشرب الماء من عطشٍ إلا رأيت خيالًا منك في الكاسِ
ولو قدرتُ على الإتيان جئتكم سعياً
على الوجه أو مشياً على الراسِ
ما لي وللناس كم يلحقوني سفهاً
ديني لنفسي ودين الناس للناسِ
وقال عنه ابن الحداد المصري :
خرجت في ليلةٍ مقمرةٍ إلى قبر أحمد بن حنبل رحمه الله فرأيت هناك من بعيدٍ رجلاً قائماً مستقبلاً القِبلة فدنوت منه من غير أن يعلم فإذا هو الحسين بن منصور الحلّاج يبكي ويقول :
– يا من أسكرني بحبه ، وحيَّرني في ميادين قربه ، أنت المنفرد بالقِدَم ، والمتوحد بالقيام على مقعد الصدق ، قيامك بالعدل لا بالاعتدال ، وبعدك بالعزل لا بالاعتزال ، وحضورك بالعلم لا بالانتقال ، وغيبتك بالاحتجاب لا بالارتجال ، فلا شيء فوقك فيظلك ، ولا شيء تحتك فيقلك ، ولا أمامك شيء فيحدك ، ولا وراءك شيء فيدركك … أسألك بحرمة هذه الترب المقبولة ، والمراتب المسؤولة ، ألا تردني إليَّ بعد ما اختطفتني مني ، ولا تريني نفسي بعد ما احتجبتَها عني ، وأكثر أعدائي في بلادك والقائمين لقتلي من عبادك .
فلما أحسَّ بي التفت وضحك في وجهي ورجع وقال لي :
– يا أبا الحسن ، هذا الذي أنا فيه أول مقام المريدين ، ثم أشار إليَّ بكفّه فذهبت وتركته . فلما أصبحت رأيته في جامع المنصور فأخذ بيدي ومال بي إلى زاويةٍ وقال : بالله عليك ، لا تُعلِم أحداً بما رأيت البارحة” .
كثيرون يصفون الحلّاج بأنه حلولي ينادي بالحلول ، ويتخذ الحب والفناء وسيلة لغايته ، وتنادوا بأنه تَوَحدي يحاول بمجاهداته وشطحاته أن يتوحّد بموجده في تجربةٍ مهمةٍ غامضةٍ وقد اتخذ من الوجد والنشوة عند السماع والاستغراق سبيلاً إلى هدفه ، حتى أصبح في سكره وسبحاته يقول في دعاوى عريضةٍ :
(أنا عوضاً عن هو)!!..
تأليهاً لنفسه وللإنسان المجتبَى المختار الكامل ، الذي يجد في ذاته حقيقة صورةً من الله !.
وعن حقيقة ذلك قال أحمد بن فاتك :
– يقول الحلَّاج :
“من ظنَّ أن الألوهية تمتزج بالبشرية ، أو البشرية تمتزج بالألوهية فقد كفر ، فإن الله انفرد بذاته وصفاته عن ذوات الخلق وصفاتهم فلا يشبههم بوجهٍ من الوجوه ولا يشبهونه بشيءٍ من الأشياء ، وكيف يتصور الشبه بين القديم والمحدث !!..
ومن زعم أن الباري في مكانٍ أو على مكانٍ أو متصل بمكانٍ أو يتصور على الضمير أو يتخايل في الأوهام أو يدخل تحت الصفة والنعت فقد أشرك .
فقومٌ جحدوا وألحدوا ، وقومٌ أشركوا وعدّدوا ، وقومٌ أنكروا الصفات فعطلوا وبطلوا.، وقومٌ أثبتوها ولكن شبّهوا وشكّوا .
ولا يُصيب شاكلة الحق إلا من آمن بالذات والصفات ، وكفر باللات والآلات ، ولازم التوحيد والتنزيه ،
واعلم أن العبد إذا وحَّد ربه فقد أثبت نفسه ، ومن أثبت نفسه فقد أتى بالشرك الخفي ، وإنما الله تعالى هو الذي وحَّد نفسه على لسان من يشاء من خلقه ، “وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللهَ رَمَىٰ” .
ويقول محيي الدين بن عربي :
“إذا كان وجود الخالق ووجود المخلوق واحداً ، فلا معنى لقيام حوار العشق بين المخلوق وبين الله .
كان الحلَّاج من أكبر من تغنّوا بالحب الإلهي ، ولعله أكبرهم عاطفةً وأشدهم وجداً وولهاً .
إذْ يقول :
“إن المسافة بين النفس وبين الله تتوقف في مقدارها على صفة العشق الإلهي .
أريدك لا أريدك للثواب ، ولكني أريدك للعقاب
فكل مآربي قد نلتُ منها سوى ملذوذ وجدي بالعذاب” .
ويقول ابن الخطيب في كتابه “تاريخ بغداد” :
إن ابن عطاء لما سمع هذا الشعر قال :
هذا مما يتزايد به عذاب الشغف وهيام الكلف واحتراق الأسف ، وشغف الحب ، فإذا صفا ووفا ، علا إلى مشربٍ عذبٍ وهطل من الحق دائم سكب . والحب لَذَّةٌ لا يعرفها إلا الصفوة من المحبين . وإن الحب العالي ، هوالحب الذي تعجز الكلمات عن تصويره أو كما يقول (سحنون) لا يعبّر عن شيءٍ إلا هو أرق منه ، ولا شيء أرق من المحبة فيما يعبّر عنها .
إن الحلَّاج يفهمه القلب في تجربة تصوّفه أكثر مما يحيط به العقل ويدركه الحس ، ويدنو منه الوجدان أكثر مما يمكن تحليله بالفكر والبيان .
إنَّ فَهْمَ الحلّاج بحاجةٍ إلى أن نرتفع بأذواقنا ومواجيدنا ، وأن نتلمس بأرواحنا وأشواقنا الطريق الذي يمكن أن نطل من نوافذه على أسرار ذلك الروح الكبير الذي حاول – في عظمةٍ شاهقةٍ – أن يكون صورةَ الولي الكامل المعبّر عن الله سبحانه . وهوالذي عاش في بطولةٍ خارقةٍ ليكون الشهيد الذي يكتب بدمه آية الفداء لحبّه ولعقيدته . فهو الشهيد الذي وقف على آلةٍ صلبةٍ يتحدّى الدنيا ، فلما قطعوا أعضاءه وتدفق دمه توضأ بدمه !!.. ولما سُئل ماذا تفعل .. قال :
– ركعتان في العشق لا يصح وضوؤهما إلا بالدم .
* * *
تلك لمحات من مواقف أعلام التصوّف الإسلامي في عصر الحلَّاج سواء في موقف الآخرين من الحلَّاج أوموقف الحلَّاج منهم .
يقول (ألفردفون كرايمر) :
– الكل مُجْمِعُونَ على أن الحلّاج كان على رأس فرقةٍ كبيرةٍ وأنه كان له أتباعٌ كثيرون أُعجبوا به واتخذوه إماماً ومرشداً .
كمايذكر (ماسنيون) :
– إن كثيرًا من الأمراء وقواد الجيش وعظماء الدولة العباسية وأعلام المعتزلة وفقهاء الحنابلة وصفوة المفكرين والمصلحين ، ومع كل هؤلاء جمهرةٌ كبيرةٌ من الناس، كانوا جميعاً من أتباع الحلَّاج ومن تلاميذه والمؤمنين بقداسته وولايته وبدعوته الإصلاحية . ومع هذا كله ، فإن عدداً من أعلام التصوّف الإسلامي في عصره ، قد خاصموه ولم يناصروه في أهدافه وصيحاته ولم يساندوه في محنته واستشهاده .
لقد جاء الحلَّاج ليضيف جديداً ونقاءً إلى التصوّف الإسلامي من خلال صلته بالله ، ومن خلال صِلاته بالحياة .
لقد جاء الحَلَّاج ولم يكن صورةً مُكررةً من الناس أو العلماء ، ولا كان سطوراً متلألئة في كتب التاريخ بجانب السطور التي خَطَّها المفكرون أو العابدون . وإنما كان كتاباً وأمةً تقيم منهجاً وترسم طريقاً في فتح الآفاق ، وكانت نفسه بعد هذا صورةً صادقةً معبِّرةً وقائمةً بمنهجه وبطريقه وبأفقه .
كان الحلّاج يصنع من تاريخه معالمَ وصوراً تهتدي بها الإنسانية في سيرها المضيء إلى الله تعالى وفي جهادها العنيف للكمال والتسامي . وكان ينشد في المعرفة ، أن يظفر الصوفيُّ بحظٍّ من الفيض الإلهي ليعبِّر دائماً عن الإرادة الإلهية . فإذا عبَّرَ عنها ارتفع إلى أفقها وقداستها وأصبح قوله صورةَ إيمانه في دينه وفي دنياه .
ومن هنا كانت عظمة العقيدة الحَلَّاجية ، التي أخذت كل شيءٍ بقوةٍ وعزمٍ وبقداسةٍ ولم تقبل أبداً تساهلاً أو تردداً أو تقية ً.
يقول الحلَّاج :
“الواجب على أولياءِ الله أن يتوَجَّهوا إلى الله وحده ، وأن يتحقّقوا بمعنى العبودية الكاملة ، ويطيعوا أمرَه مهما كلفهم ذلك من عَنَتٍ وشَقاءٍ” .
لأن الولاية عند الحَلّاج تبلغ كمالَها عن طريق الابتلاء واحتمال الألم ، وتبلغ جلالَها بالجهاد والتضحية .
– للبحث بقية –
“استشهاد الحلّاج
ووحشية قتله”
==========
من كتابي :
(مفهوم التصوّف في القَبّالَة و طوائف اليهود)
Discussion about this post