قراءة في رواية (عتبة الألم) ..
د.علي أحمد جديد
في روايته (عتبة الألم) يتعايش
الكاتب الفلسطيني “حسن سامي يوسف” مع أحداث الحرب على سورية ، التي جاءت كصوَرٍ من تسجيلاتٍ يومية لاقت صدىً واسعاً ليس في سورية فقط بل وفي كثير من الوطن العربي أيضاً .
يبدأ الكاتب دخوله إلى أحداث الرواية بمجموعة من الصور المتقطعة بين أحياء دمشق التي تُصوِّر قسوة الحياة العادية تحت قذائف الإرهاب وطبيعتها ، مع حرصه التام على الكتابة أحياناً باللهجة الدمشقية المميزة ، ثم يبدأ شرحه عن فلسطينيته وعلاقته كفلسطيني مقيم تحت حراب الحرب الكونية الدائرة على الأرض السورية ، وعن حياته في سورية من خلال التطرق لقضية الإعلام بشكل عام ، وعن دور الإعلام في تحويل الإنسان إلى متطرِّف عنصري وغبي – بحسب وصفه –
مع عرضه الكثير من الأفكار التي يمكن اعتبارها أفكاراً جدلية قد لا تعجب البعض من الذين يعيشون في المنطقة التي تتعرض بصورةٍ ممنهَجَةٍ إلى ترسيخ مرض التفرقة والاختلاف الدموي والديني والعرقي ، في ظل الحرب والإقتتال القائم في سورية حتى اليوم .
يستعرض الكاتب أحداث روايته بدءاً من ريف دمشق ، حيث يكتب أحداثاً متقطعة من بعض القصص التي يعيشها أبناء الشعب الواحد ، كوقوف رجل يستعد للضغط على زناد المدفع . وفي ذات الوقت يكون هناك رضيع يبحث في العتمة عن صدر أمه النائمة ، بينما توجد في أحد المنازل القريبة مذيعة على شاشة التلفاز وهي تتمنى للمشاهدين أوقاتاً سعيدة في متابعة برنامجها الجميل . وفي إحدى الزوايا كان ثمة إمرأة عجوز تفتش في حاوية القمامة عن شيء صالح لتأكله وتسدّ به جوعها .
أما في العمارات السكنية الشاهقة فيصوِّر طفلاً يتلوّى في فراشه وهو يصارع آلام التهاب الكبد ..
وحيث لا وجود للإنسانية في مثل تلك الظروف يكون هناك رجل يغتصب إمرأة مُقعَدة لا حيلة لها في الدفاع عن نفسها !!.
وبين دمار المنازل ورماد الخراب الذي تخلِّفه القذائف ، نرى شاباً متجرداً من الرحمة وهو يقوم بقتل طفل صغير ذبحاً بالسكين .
ولكن ذلك الصراع والقتل من أجل البقاء ، لم يقتصر على البشر وحدهم بحيث لم يوفّر الكاتب في أحداث روايته حتى الحيوانات ، فالقطط تهاجم بعضها في عتمة الأزقة من أجل بقية عظام دجاجة قرب حاويات القمامة .
ولأن الحرب لا ترحم العشاق ، فإن الكاتب لاينسى التحدّث عن فتاة تحتضر في فراشها شوقاً إلى حبيبها الغائب بسبب الحرب أو المفقود وهي لاتعرف مصيره فيما إذا كان ميتاً أو مخطوفاً .
كذلك لم يغفل الكاتب عن المترفين والمستغلين ليكونوا بعضاً من الأغنياء الذين رفعت الحرب من مستواهم المادي ، فالسكران منهم يقضي لياليه في الملاهي الليلية وهو يرمي الأوراق النقدية الكبيرة على رؤوس الراقصات وتحت أقدامهن لأنه لا يتعب في الحصول على الأموال .. إضافة إلى وجود زفافٍ في أحد الفنادق المترفة لإحدى العائلات ذات النفوذ ، حيث لا وجود – رغم الحرب -إلا للرقص والطعام ، وللسُكْر والشراب والغناء .
ولا تتجاهل الأحداث الروائية رجل الأمن الذي يخون وطنه وأصدقاءه وتاريخه من أجل القليل من الدولارات الأمريكية المزيَّفة .
وفي نفس الوقت يقوم باستعراض مجموعة من الشباب يشاهدون مباراة كرة قدم في إحدى المقاهي في تجاهلٍ تامٍ للقنص والقذائف
ولا ذلك الرجل الذي لايتوقف صراخه على زوجته بعد فساد الطعام في الثلاجة بسبب إنقطاع التيار الكهربائي عنها لساعات طويلة .
وفي تصوير الفساد يرسم تاجراً منهمكاً بالعمل على إنجاز صفقة أطعمة ملوَّثة يكسب من ورائها المبالغ على حساب حياة البسطاء وآلامهم ، ومجموعة من اللصوص وهم يسرقون شقه نزح سكانها عنها وتركوها بهدف الرجوع عندما تستقر أوضاع دمشق تحديداً وسوريا بشكل عام .
وكذلك ثمة رجل في حديقة منزله يتلو القرآن بصوت هادئ وخاشع ، لينتهي ويحمد ربه على كل حال .
وجندي مدجج يشعل سيجارته وهو في نوبته على الحاجز الذي يتوسط الطريق . وعلى الرصيف تكتمل لوحته الروائية بوجود طفلتين تنامان متلاصقتين ببعضهما بحثاً عن شيء من الدفء والأمان الكاذبَيْن .
وينتقل بالحدث إلى ضغطة الرجل على زناد المدفع لتنطلق القذيفة إلى وجهتها القاتلة والتدميرية .
حتى يصل القارئ المتلّقي بأن نصَّ الرواية عبارة عن سرد عشوائي قريب من السيرة الذاتية ، قدمها الكاتب في عديد من المشاهد المختلفة والتي نجحت أن تعطي صورة واضحة عن بيئة تعيش الحرب وتبعاتها بكل الصور .
ومن خلال تلك الصور وتتابعها في روايته (عتبة الألم) يسرد الكاتب الروائي يوميات الحرب على سورية بكل ما فيها من عبثية في بوابة كل حيّ من دمشق لتكون شاهداً على ذلك ، وعلى ما فعلت بها تلك الحرب المجنونة ، ويحكي بإسهاب عن عالم الحب والحرب ، وعالم التيه والعبث ، والشغف ورتابة الحياة . حرب لا تحمل للوطن سوى تبعات الدماء لصراع الآخرين على أرض سورية حتى آخر مواطن سوري .
في (عتبة الألم) قد لا نلمس الرواية كروايةٍ بمعناها الحرفي ، بقدر ما وضعه الكاتب “حسن سامي يوسف” في سرديةٍ أقرب ما تكون إلى السيرة الذاتية ، ولتكون شاهد العيان على تلك الحرب عبر سردية عشوائية في ظاهرها ، ولكنها تحمل في جوهرها تسجيلاً يومياً للأحداث وللحاضر بقوة ، من خلال مشاهد تتخذ من التواريخ شاهداً على الحدث ابتداء من 2014 إلى 2016 ، وهي الفترة العصيبة في الحرب على سورية حينما كان يترقب المواطن السوري سقوط قذيفة عشوائية فوقه أو قريبة منه في أية لحظة . فكانت الرواية (عتبة الألم) صرخةً ضد الحروب وقتل البشر ، وضد اغتيال أريج الياسمين الدمشقي .
(عتبة الألم) روايةٌ تأخذ القارئ بكل سهولة وسلاسة ، رغم عدد صفحاتها الكبير ، إلى ما ابتعد فيه الكاتب عن فنيات الرواية ، ورسمَ فصولها بحرفية عالية وهو يتنقّل بين الفصحى وبين العامية الدمشقية ، وتجوّل في أحياء دمشق ، بحيث يشعر المتلقي وكأنه يعرفها جيداً ويعيش بين أهلها وأن جزءاً منه يتمثل في ذلك العمل .
فهي رواية تحمل في أحشائها كل الأسباب وتدفع القارئ ليقول :
– “تبّاً ، ما الذي جعل الدم العربي والإنسان العربي رخيصَيْن إلى هذا الحد” ؟!..
وربّما كان متاحاً لرواية (عتبة الألم) أن تكون بقراءة مغايرة لو اختار المؤلف أن يقدّم للقارئ رواية تخضع لكلّ معايير القراءة الروائية . لأنه ومنذ الصفحات الأولى قد اتخذ الكاتب صفة الراوي وأحقيته برواية مشاهداته خلال خمس سنوات ونصف من الحرب . بعد ذلك تتوالى المشاهد موزّعة على تواريخ تذيّل كلّ مشهد دون تتابع زمني ولكنها لاتخرج عن فترةٍ زمنيةٍ تمتدّ مابين شباط/فبراير 2014 وبين شباط/فبراير 2016 .
فإذا كانت صيغة الـ”أنا” فنيّاً هي إحدى صيغ السرد الروائي ، حيث يتقمّص الكاتب شخصية الراوي للأحداث ، ويكون بطلاً للعمل او أحد أبطاله ، فإنها وبلا أدنى شك الصيغة الأنسب لكتابة السيرة الذاتية ، مع الفارق بأن الروائي يتقمّص شخصية بطل لا يشبهه ، ليوهم القارئ بأنه من يصنع الأحداث ويرويها ، فيخلق لديه تشويقاً يزيد من متعة القراءة بإرضائه لغريزة التلصص على الحياة الشخصية للكاتب . بينما يكون كاتب السيرة الذاتية بعيداً عن ذلك ومكتفياً بتسجيل الوقائع التي حدثت من باب التوثيق وحسب . وبين هاتين النظريتين يضيع المتلقي في (عتبة الألم) ، لأنه حين يشير الغلاف إلى أنّ الكتاب هو (رواية) ، بينما يختار الكاتب تسجيل اليوميات والمشاهدات والهواجس بصيغة “الأنا” البعيدة عن أي بناء روائي ، وذلك ما جعل الأبواب مشرعة على الفوضى في ذهن القارئ والتي لا يمكن ترتيبها مطلقاً في قراءة المقطع الأخير من نهاية الرواية .
وفي الختام لابد من القول بأن رواية(عتبة الألم) تختلف عن كثير مما جاء في المسلسل التلفزيوني (الندم) سواء بالاضافات ، أو بالحبكة الروائية المتمايزة عن الحبكة الدرامية في المسلسل التلفزيوني الذي ابتعد عن الرواية في المقصد من شفافية الهدف بعض الشيء .
Discussion about this post