الرسائل التربوية في قصص الأطفال ..
د.علي أحمد جديد
مَن مِنّا لم يعرف في طفولته قصّة (سندريلا) التي هي من أجمل قصص الأطفال في الأدب العالميّ ، لمؤلّفها الأديب الفرنسيّ (شارل بيرو مارسيا براون) صاحب أجمل قصص الأطفال الخيالية وأمتعها التي كانت أشهرها (ليلى والذئب “ذات القبعة الحمراء” ، و الجميلة والوحش ، و أمي الأوزة .. و سندريلا ) .
وقصة (سندريلا) العالميّة هي من أكثر قصص الأطفال شهرةً ، والتي أبدع العديد من مخرجي السينما العالمية بتجسيدها في أفلامهم وبلغات متعددة ، ورغم اختلاف بعض التفاصيل بينها إلا أن ذلك لم يؤثر في حبكة أحداث القصة وترابطها .
تدور قصة (سندريلا) الفتاة الجميلة حول رجل من نبلاء القرن السابع عشر ، وهو زمن كتابة القصة ونشرها ، حيث يعيش الرجل النبيل مع زوجته الثانية التي تزوجها بعد وفاة زوجته الأولى ، وهي الزوجة المتكبّرة والقاسية وسيّئة الخلق . وكان لهذه الزوجة ابنتان تشبهانها بل وتزيدانها في سوء الطباع والأخلاق واللؤم والحسد . وكانت ابنته الوحيدة (سندريلا) فتاة رقيقة الطبع ، وفاتنة الجمال .
ولم يمض وقتٌ طويلٌ على زواج الرجل الجديد ، حتّى بدأت زوجته بإظهار سوء معاملتها لابنته (سندريلا) بسبب غيرة زوجة الأب من جمال ابنته وحسن خلقها ورقّتها ،أمام ابنتيها اللتين تبدوان أكثر قبحاً وبغضاً من أمهما التي لا تكف هذه المرأة عن مضايقة (سندريلا) ولا للحظة واحدة ، فترمي عليها أكثر الأعمال مشقّة في المنزل كخادمة . وزاد في معاناة (سندريلا) أن ابنتيّ زوجة أبيها تتمتعان بالعيش مرفّهتين بأموالها ، فتنامان على أسرّة فارهة في غرف أرضيّاتها مرصّعة . بينما لا تحصل (سندريلا) سوى على الثياب الرثّة والمهترئة التي بليت بعد استخدامها من الفتاتين . وعلى الرغم من التعب الذي كان يرهق (سندريلا) ، إلا أن زوجة أبيها لم تكن تسمح لها بالجلوس أمام المدفأة .
تحمّلت سندريلا المسكينة كل الأذى الذي كانت تتلقاه من زوجة أبيها وبنتيها الاثنتين ، ولم تجرؤ يوماً على إخبار أبيها بما كانت تقاسيه من سوء المعاملة في بيته خشية توبيخه لها ، لأنه كان يصدّق كل ماتقوله له زوجته المتسلّطة ، وما كان ليعارضها في الرأي ابداً .
وذات يوم تصل إلى المنزل دعوة من قصر الملك تقول أن الأمير الشاب ووريث العرش سيقيم حفلةً كبيرة دعا إليها جميع فتيات البلدة بلا استثناء ليتأنّقن ويحضُرْنَ هذه الحفلة ، إلا أن زوجة أبيها رفضت حضور (سندريلا) وأجبرتها على القيام بتزيين الفساتين التي سترتديها هي وبناتهااستعداداً لحضور الحفل .
ولم تجرؤ (سندريلا) حتى على سؤال زوجة أبيها إن كان بإمكانها الذهاب لحفلة الأمير لأنها تعرف جيّداً أن الردّ سيكون قاسياً وبلا رحمة ، فراحت تتخيّل حواراً بينها وبين أبيها وزوجته وتجريه مع القط الذي كان صديقها الوحيد في المنزل وتقول :
– هل بإمكاني الذهاب معكم لحضور الحفل؟..
ثم تتخيل رد زوجة أبيها :
– أنت أيتها الفتاة الجميلة ستبقين في المنزل لغسل الأطباق ، وتنظيف الأرض ، وتجهيز الأسرّة للنوم لي وللفتاتين الجميلتين اللّتين ستعودان متعبتين من الحفلة .
ولما حان الموعد المنتظر ، ذهبت الزوجة مع ابنتيها إلى القاعة الملكية التي جهّزها الأمير الشاب لإقامة الحفل ، تجري (سندريلا) وراء العربة التي ركبتها زوجة أبيها مع ابنتيها وتودّ لو استطاعت أن تتبعها بعربة أخرى حتى تبتعد عن المنزل متهادية على الطريق إلى القصر ، وكلما ابتعدت العربة أكثر ، تنهمر الدموع من عيني (سندريلا) بغزارة أكثر تُظهِرُ لوعتها وحسرتها .
ولم يمضِ وقت طويل على (سندريلا) وهي تبكي أمام المنزل حتى سمعت صوتاً من الخلف يناديها ، وما إن التفتت إلى مصدر الصوت خلفها حتى رأت طيف امرأة وقورة وجميلة يشبه طيف أمها . وانقلب شعور الخوف والحسرة عند (سندريلا) إلى طمأنينة وإثارة عندما دار الحديث التالي بينهما :
المرأة : لماذا تبكين يا سندريلا ؟
سندريلا : لقد تحمّلت ظلم زوجة أبي طويلاً ، وتحمّلت كذلك قسوة ابنتيها كي لا يتضايق أبي في حياته مع زوجته ولا أكون عليه عبئاً ثقيلاً و مضجراً .. كنت أنظّف المنزل وحدي كل يوم وأقوم بكل الأعمال الشاقة خدمة لزوجة ابي ولابنتيها بصبر وصمت ..
المرأة : وماذا أيضاً ؟..
سندريلا : كما أنّني كنت أغسل و أكوي ملابس زوجة أبي وابنتيها وأسرّح لهنّ شعرهنّ ، وأرتّب فراشهن وأجهّز لهن كل ما تحتاجانه ، وأحضر طعامهن وأشعل لهن النار التي يحرمنني من الاقتراب لأتدفأ بلهيبها ..
المرأة : وماذا أيضاً ؟
سندريلا : هن تلبسن أجمل الثياب، وتأكلن أفضل الطعام وتنلن أفضل المعاملة ، بينما أنام أنا على سرير بائس من القش ولا ألبس سوى هذه الثياب البالية ، ولا آكل إلّا ماتتركن من بقايا الطعام .
المرأة : وماذا أيضاً؟
سندريلا : لا.. شيء آخر ..
المرأة : بلى يا(سندريلا) ، أنا جئت لأنّي أعرف كم ترغبين بحضور حفل الأمير الشاب والوسيم ، ولهذا عليك مساعدتي بإحضار بعض الأغراض كي تستطيعي حضور الحفل .
سندريلا : حقّاً.. ومن أين لي الفستان اللائق لأرتديه أو الحذاء المناسب لألبسه؟!..
وأين العربة التي ستقلّني إلى القصر لحضور الحفل؟!!..
المرأة : لا عليك من كل هذا ، أنا سأتدبر الأمر . أحضري لي أكبر حبّة قرعٍ تجدينها ، وأريدك أن تحضري كذلك أصدقاءك الفئران الستة التي تشاركك غرفتك وفأراً كبيراً . كما أريد منك الذهاب إلى ضفة البحيرة لتحضري بعض السحليات ..
وبسرعة نفّذت (سندريلا) للمرأة كلّ ما طلبته منها ، وأحضرت لها ستة فئران وست سحليات وحبّة قرع كبيرة ، وأعطتها للمرأة التي كانت تنتظر وفي يدها عصىً ذهبيّة اللون تتلألأُ في الليل كأنها مصنوعةٌ من إحدى النجوم .
أشارت المرأة بعصاها إلى حبة القرع ، فتحولت إلى عربة فارهة لم ترَ (سندريلا) مثلها حتى عربة الأمير الشاب ابن الملك . ثم أشارت المرأة بعصاها إلى الفئران الستة ، فتحولت الفئران إلى أحصنة أصيلة نظيفة قوية ليس لها من مثيل ، وأشارت إلى الفأر الكبير فصار سائقاً يرتدي زيّاً أنيقاً وبدأ يشدُّ الأحصنة إلى العربة . ثم أشارت مرّة أخرى إلى السحليات وتحولها إلى خدمٍ يرتدون زيّاً أنيقاً كالذي يرتديه السائق .
وقفت سندريلا مذهولة أمام العربة والجياد والخدم وهي لا تدري ماذا تقول !!!.. ولما نظرت إلى ثيابها الرثة المهلهلة قامت المرأة بمسح عصاها على ثياب (سندريلا) وتحوّلها إلى أجمل فستان رأته العيون ، والتف عقد من المجوهرات حول رقبتها كان من أثمن العقود التي يمكن أن تقتنيها فتاة في البلدة ، وكذلك صار في قدميها حذاء زجاجيّ يلمع كالألماس المضيء الذي لايضاهيه مثيل قط .
وقبل أن تتفوه (سندريلا) بكلمة واحدة قالت لها المرأة :
– لا وقت لدينا للحديث الآن ، اذهبي إلى الحفلة واستمتعي بليلتك فأنت تستحقين ذلك . ولكن يجب أن تلتزمي بمغادرة الحفلة والرجوع إلى المنزل قبل أن ينتصف الليل ، فإذا دقّت الساعة الثانية عشرة ستعود كل الأشياء إلى سابق عهدها ، فترجع العربة قرعة، والجياد فئراناً والخدم سحليّات ، وفستانك سيرجع إلى ثياب المطبخ الممزقة التي كنت ترتدينها ، فأسرعي الآن واركبي العربة كي ترجعي قبل منتصف الليل .
ثم فتح الخدم لها باب العربة فركبتها وانطلقت إلى قصر الملك .
أحدث وصول سندريلا إلى حفل الأمير جلبةً كبيرة ، وراح الحرس على باب القصر يرحبّون بالأميرة التي لم يسبق لأحد أن رآها أو سمع عنها ، وانطلق بعضهم لإخبار الأمير الشاب بأن أميرة غاية في الأناقة والجمال قد وصلت الحفل ولا بد أن يستقبلها هو بشخصه .
وذلك ما حدث بالفعل لما رأى الأمير (سندريلا) فتنه جمالها واهتم بها وحدها دون باقي كل الحضور .
لم يكن الأمير وحده الذي أدهشه جمال (سندريلا) وأناقتها ، فقد شاركه في ذلك الحضور متسائلين عن هذه الأميرة التي ظهرت فجأة . وكذلك موقف زوجة أبيها وابنتيها لم يكنّ استثناءً فقد أُعجبتا بها وأخذن يتحدثن عنها طوال الحفل وأثناء طريق العودة ، وحتى بعد وصولهنّ إلى المنزل . .
لم تنسَ (سندريلا) وصية المرأة ، فاستأذنت الأمير الشاب قبل أن تدق الساعة الثانية عشرة ، وغادرت الحفل بعد أن وعدت الأمير أن ترجع إلى حضور حفل الغد .
في الليلة التالية أعيدت الكرّة ثانيةً . فغادرت الزوجة وابنتيها إلى الحفلة وتركن سندريلا بثيابها البالية لتقوم بأعمال المنزل ، رجعت المرأة وقامت بتجهيز (سندريلا) كما فعلت في الليلة السابقة ، وكان فستان الليلة أكثر أناقةً وجمالاً . وانطلقت (سندريلا) إلى الحفل بعد أن ودّعتها المرأة وذكّرتها بضرورة عودتها قبل انتصاف الليل .
وصلت (سندريلا) إلى القصر ، وحبس الحضور أنفاسهم مذهولين بجمالها وبأناقتها، ورافقها الأمير كظلّها طوال الحفل ، ولم يلتفت لفتاة سواها ، وكذلك لم يراقص غيرها. وكانت (سندريلا) سعيدة بكل هذا لدرجة أنّها نسيت نفسها ، ولم تنتبه للوقت الذي انقضى سريعاً إلّا عندما بدأت الساعة تعلن انتصاف الليل بدقاتها .
فانطلقت (سندريلا) تركض مسرعة إلى خارج القاعة قبل أن يرجع فستانها إلى حالته الأولى. ولأنها ركضت مسرعة فقدت فردة من حذائها وهي تنزل درجات القصر ، ولم تستطع أن تلتقطها خشية أن يفوتها الوقت .
لحق بها الأمير راكضاً خلفها وتاركاً الحفل وراءه ، إلّا أن أميرته كانت قد اختفت بعربتها وجيادها وخدمها ، واختفت ولم يبقَ أي أثر لها سوى فردة الحذاء الزجاجي الذي أفلت من قدمها على الدرج . التقطه الأمير الشاب ليعود إلى قصره حزيناً .
انقضت أيام على الأمير وهو في حالة من الحزن والاكتئاب بسبب اختفاء تلك الفتاة التي لم يبقَ له ذكرى منها سوى فردة حذائها ، ولم يعرف كيف يمكنه التوصل إليها . وبقي الحال كذلك إلى أن خطرت له فكرة باشر بتنفيذها في الحال .
نادى كبير الحرس في قصره وأمره أن يأخذ فردة الحذاء الصغيرة تلك ويلفَّ بها على كل بيوت المملكة ، معلناً أن الأمير سيتزوّج بالفتاة التي ستناسب فردة الحذاء قدمها . وانطلق كبير الحرس فوراً لتنفيذ أمر الأمير الشاب .
وطال الأمر ، فلم تدخل قدم أي فتاة في الحذاء الزجاجي الصغير رغم محاولة كل فتاة أن تجبر قدمها على الدخول في الحذاء . وظل الوضع على حاله إلى أن وصل الحرس الملكي إلى بيت (سندريلا) . فتسابقت الأختان على قياس الحذاء الذي لم يكن حتى قريباً من قياس قدميهما . وكانت المفاجأة فبعد أن سَخِرَت زوجة أبيها والفتاتان من (سندريلا) عندما عرضت أن تقيس الحذاء وحاولتا منعها ، طلب كبير الحرس منهن الابتعاد عنها فقد كانت أوامر الأمير واضحة بأن يمر الحذاء على كل فتيات البلدة دون استثناء . وأدخلت (سندريلا) قدمها في الحذاء بسلاسةٍ وسهولة وبدا للجميع أنه يلائم قدمها تماماً . صُعقت الفتاتان وأمهما و هُنَّ تراقبن ما حدث ، خاصّة بعد أن أخرجت (سندريلا) فردة الحذاء الثانية من جيبها ، وظهر لها طيف أمها ثانيةً ، ولم يكن باستطاعة أحد أن يراه سوى (سندريلا) وأشارت المرأة الطيف بعصاها إلى (سندريلا) كما فعلت سابقاً، فتحولت ملابس سندريلا البالية مرة أخرى إلى ملابس فاتنة تماماً كتلك التي حضرت بها حفلات الأمير ، وارتسمت بسمة كبيرة على وجه كبير الحرس الذي كان فرحاً لأنه استطاع أن يجد الفتاة التي يبحث عنها أميره الشاب .
ألقت الفتاتان بنفسيهما أمام (سندريلا) طلباً للصفح والسماح على ما فعلنه بها ، وبدورها عفت (سندريلا) عنهما وقالت لهما أنّها لا تحمل في قلبها أي كره أو حقد عليهما ، وودّعتهما لتنطلق مع الحرس إلى قصر الأمير .
هنا تنتهي قصة (سندريلا) ومعاناتها الإنسانية ، ولأن المؤلف (شارل بيرو) يبدع في استنفار تعاطف القارئ المتلقي مع بطلته أخلاقياً ، فإن القارئ يتجاوز عن تساؤله المنطقي الذي يقول :
(إذا كان كل ما تحوّل إلى خدمة سندريلا قد عاد إلى طبيعته بعد منتصف الليل ، فماهو سرّ احتفاظ الحذاء بحالته السحرية؟!!).
وطبعاً ، سيكون الجواب أن القارئ في تعاطفه مع (سندريلا) يرى في ذلك المعادل الموضوعي والمنطقي لإنهاء القصة نهايتها السعيدة ومكافأة بطلتها على كل مالاقته من الظلم الذي قابلته بعفوها الواسع والجميل .
في كل قصص(شارل بيرو) الطفولية ، هناك ميزة مشتركة بينها وهي إصراره على أنسنة الحيوان كما في قصة (سندريلا) وقصة (ليلى والذئب) وكذلك قصة (أمي الأوزة) ، ويعمل على إظهار الجمال في القبح من خلال الالتصرف الطيب والأخلاقي كما في قصة (الجميلة و الوحش) ، وبذلك يكون قد قدم في قصصه رسائل تربوية راقية لتأخذ بها كل الأجيال والمجتمعات مهما اختلف فيها الزمان والمكان .







Discussion about this post