نقد: الشعري والتشكيلي.. التعالق الدلالي
ا========
قراءة نقدية
ا=======
الشعري والتشكيلي.. التعالق الدلالي
أو القصيدة القادمة من التجربة..
راضية بصيلة “على جسر ألتابورك”نموذجا.
ا===========
على جسر ألتابورك
ا==========
أعلى الجسر ،
الموسيقى والأصواتُ
سماء وعناقيد تتدلّى
تصدح بالأماني
*****
والأناملُ أطفالٌ
يُبْصِرُون بالونة شريدة
تسبح من خلف غمام
والكفُّ تنهيدة..
*****
إلى أسفل الجسر تتحدّر أصوات
يا بيتنا الكبير..
يا صوت أخي وكذاباتنا الجميلة
يا شذى الشاي بالياسمين..
*****
وتسمعنا أمي من بعيد
امي الواقفة على التنور
تمسح عن جبينها دخان الذكريات
وتفوح من تعاطفها رائحة البلد..
*****
أمي تأخذ من التنور الأعواد
تفقأ عين السماء..
تطبطب فوق الخبز خفيفا..
تتساقط زوارق سريعة..
*****
نقفز من الجسر ..
ونركب أسراب الزوارق ..
تحدّقُ أمي طويلا.. لا ترَى شيئا ..
وعند تشابُكِ أيدينا مع الانتصارات الجديدة..
*****
ن غ ن ي..
ن غ ني
ن غني
نغني
*****
“سوف نحيا هنا
كي يزول الالم
سوف نحيا هنا
سوف يحلو النغم”
الشاعرة راضية بصيلة
ا======
مقدمة
ا=======
نص يقترن بمشاكل الإنسان وشواغله ويحاكي همومه بلغة بسيطة تقترب من لغة اليومي..
تقرأ النص كما لو كان كتابة مستلهمة من أندري بريتون وأنطونان آرتو ولويس آراغون وأرنست موريس..
او هو لوحة اخرى من لوحات فنان الشارع البريطاني الشهير بانكسي خاصة لوحته «الفتاة مع البالون»..
هذه القصيدة عوّلت على معاويل إيقاعية جديدة وراكنت صورا شعرية ببلاغة حديثة في التكوين وتشكيل يتسم في بنائه الاتكاءٓ على اللوحة ذات النزعة السريالية..
كما قال الفيلسوف اليوناني بلوتارخ : “الرسم شعر صامت والشعر رسم يتكلم”(1).
قصيدة ميسّرة.. قصيدة تجيء من المستقبل، كتبت لقارئ حاضر بالغياب كما لو أنه لم يوجد بعد. إنها وجه مستحدث للحداثة الشعرية وما بعد بعدها.. كيف ذلك؟!..
لتبيين هذه الرؤية والتدليل عليها سألجأ الى تحليل النص من زاويتين ابداعيتين:
1- هل القصيدة / اللوحة، شعرًا؟
بمعنى هل من الممكن مقاربة الشعر باللوحة التشكيلية
وما حدود التشاكل والتماثل ؟ وألا يكون ذلك كسرا لحدود الأجناس والأنواع الأدبية؟
2- هل يحق ان نعتبر النص تجربة شعرية رائدة ؟
ا======
أولا : هل القصيدة / اللوحة شعرًا؟
ا======
مفتاح البحث: إيكفراسيس ، تجربة شعرية، لوحة تشكيلية.
ا* Ekphrasis في تبيّن المفهوم “إيكفراسيس”، هو البحث في تفاصيل الشعر عند الأعمال الفنية، لوحة كانت أم منحوتة.
ا==========
* “إيكفراسيس”، هذا المصطلح اليوناني سأستعمله للتدليل على المراوحة في معناه بلغته القديمة “التوضيح حتى النهاية أو إلى أقصى حد ممكن”، وبين الجذمورية، كما يقول جيل دولوز..وذلك بغية العثور على ما هو مخفي حين المقارنة بين العمل الشعري والفن التشكيلي..
ا==========
1-1-حدود التشاكل البيني
ا==========
ماذا لو نقارن قصيدة الشاعرة راضية بصيلة باللوحة التشكيلية للفنان؟
اولا هل وجدت أصلا قصائد مستلهمَة من أهم اللوحات العالمية؟
أ- هوميروس ودرع أخيل:
لعل أول ما يطالعنا ما كتب هوميروس عن درع أخيل في الملحمة الشعرية “الإلياذة” ذلك الدرع الذي صنعه له خصيصا الحداد الأعرج وإله النار هيفايستوس. والذي صوّر فيه هوميروس الحياة بكل جوانبها وكل التفاصيل الدقيقة للنقوش التي يحتويها درع البطل..
فانت تجد سطورا شعرية تتحدث عن نقوش تمثل الأرض والسماء والبحر والشمس والقمر والأبراج.. كما تجد بالالياذة مشهدية عالية.. تارة تصور لمدينتين جميلتين، وتارة حفلة زفاف وشباب يرقص .. وطورا حروبا وعمليات حصار لإحدى المدن.. كما تلحظ اليومي فيها وصف فائق لفلاحين يحصدون محاصيلهم بالحقول.. والمخاوف من أسود تهاجم قطيع من العجول..
– فكما درع هوميروس استلهم الصور اليومية ألا يحق لراضية بصيلة ان تستلهم قصيدتها من لوحة فنان الشارع؟
ب- من لوحة “الشارع”، لبلتزار كلوسوڤسكي (بالتوس)، استلهم الشاعر “ستيفن دوبنز” قصيدته الشهيرة “الشارع” ايضا والتي يقول فيها: (على الجانب الآخر من الشارع، يحمل النجار قطعة ذهبية/ لوح على كتف واحد) او قوله “كان لدى الخباز نصف فكرة. الآن يقف مثل العمود.”..
– فكما استلهم الشاعر”ستيفن دوبنز” قصيدته من لوحة (الشارع) ألا يليق بنص راضية بصيلة أن تستلهم لوحة الفنان أو تتعدّاه لطفرة اخرى من مشاكلة لنصي الشارع لوحة وقصيدة خاصة؟
ج- من لوحة “عازف الغيتار العجوز”، لبيكاسو الإسباني استلهم الشاعر والاس ستيفنز، قصيدته الشهيرة “الرجل ذو الغيتار الأزرق” التي يقول فيها ( أنا أغني عن رأس بطل، عين كبيرة)
– فكما استلهم الشاعر من لوحة بيكاسو ألا يجوز لراضية بصيلة ان تستلهم من لوحة او ان تأخذ عن الشاعر والاس ستيفنز الاغنيات “عن رأس بطل، عين كبيرة” لتحولها وتكسرها بفعل التفكيك والضم حين كسرت الفعل تغني اتصالا وانفصالا بقصيدتها
ت غ ن ي ==== حروف منفصلة =====
ت غ ني
ت غني
تغني =-=====كلمة متصلة========
د- من لوحة “صورة الحداد”، للفنان إدوين رومانزو إلمر، قد استلهم الشاعر أدريان ريتش، قصيدته المشهورة “صورة الحداد”.. التي يقول فيها (تحت اللون الأخضر الباهت لشجيرة الليلك، في الضوء / عجلات عربة الأطفال المنحوتة، وأعمدة الرواق المنحنية)..
– كما راوح الشاعر أدريان ريتش بين اللوحة والصورة الشعرية ألا يمكن ان نعتبر ما قدمته قصيدة راضية بصيلة مراوحة بين الثلاثة (أدريان ريتش/ لفنان إدوين رومانزو إلمر/ ولوحة فنان الشارع ) انظر تقول عن بالونة الاطفال : ()؟
هــ- من لوحة “ليلة النجوم”، فان غوخ استلهم الشاعر آن سيكستون قصيدته الرائعة “ليلة النجوم” التي يقول فيها (آه، أيتها الليلة المرصعة بالنجوم! هذه هي الطريقة/ التي أريد أن أموت بها:/ داخل وحش الليل السريع)..
كما اختار الشاعر “آن سيكستون”ان يستلهم قصيدته من لوحة “ليلة النجوم” ألا نرى راضية بصيلة قد حذت حذوهما واستلهمت قصيدتها من لوحة فنان الشارع؟
من خلال هذه النماذج الخمسة باللوحات الملهمة لقصائد الشعراء لم يعد لنا شك في تكسير الحدود بين نوعين ابداعيين الفن التشكيلي والشعر والشعرية وها دللتُ على انفتاح النص الشعري (لقصيدة راضية بصيلة) على نظيره الرسم والتشكيل..
فإلى أي حدّ يمكن تعرف حدود هذا التكسير وهذه البينية ؟
ا========
2-1- التماثل والتشاكل
ا=======
لوحة«الفتاة مع البالون» وقصيدة راضية بصيلة “على جسر ألتابورك”
ا=======
ان المتتبع للوحات عبر تاريخ الفن التشكيلى كما اسلفنا، لابدّ يجد تواشجا كبيرا، يلهم الشعراء، كما تأثير لوحات ويليام بليك أو لوحة المزارع لبيتر بروجيل على كثيرين من شعراء ك: ألبرت فيرفى او من مثل الشاعر الانجليزى ميخائيل هامبورجر.. وغيرهم..
اذ يشترك الشعر والرسم في ارتباطهما بالمتخيّل والإيحاء والإلهام.. والرؤيا الفنية والجمالية لكليهما.. والتصوير وتشخيص المعنى وتجسيده، وتجسيمه، ورفد الدلالة واستنفارها بغية التأويل..
حتى تصير الصورة الشعرية تلقائية ويغطي التجريد اللوحة وفي كليهما يقع التخلى عن التنميق. والزهد فى اللون والتكثيف والايحاء بالعبارة بالشعر..
أ- في توصيف اللوحة التشكيلية:
رسم فنان الشارع البريطاني الشهير بانكسي لوحته «الفتاة مع البالون» او (المعروفة أيضًا باسم فتاة البالون)، على جسر ووترلو عام2004..
هذه اللوحة تُصور فتاة صغيرة تطلق بالونًا أحمر على شكل قلب.. متجاوزةً الحواجز اللغوية والثقافية.إذ تعدّ تلك الجدارية الأصلية المرسومة بعناية فائقة تعبيرة عن انه مهما كان فإنّ “هناك أمل دائمًا” هي رمز للتفاؤل والمقاومة ضد الظلم الاجتماعي والسياسي.. انها ثورة على النزعة الاستهلاكية والمادية.. وأنها تذكير بقيمة الأشياء غير الملموسة في الحياة.
رغما أن هناك من يراها مجرد “حراك”، وفقدان للأمل بدعوى أن الصغيرة على الأرض والبالون في الهواء..
ب- في تشكيل قصيدة
ماذا لو ان أحد المتلقين ذهب الى أن ما نجد إشاراته بالنص..يلوح واضحا في لوحة بانكسي لوحته «الفتاة مع البالون» حين تشكيلها لونيا وإضاءة وحركة فرشاة..
وأن ما رسم بالألوان أعادت الشاعرة تمثيله باللفظ والعبارة والاسلوب الشعري.. وشاهدته ودليله التالي:
*/*- اشارة لجسر ( على جسر ألتابورك ) ذكر بالعنوان
*/*- الاشارة إلى أعلى الجسر بالمقطع الثاني /أسفل الجسر بالسطر الشعري التالي
*/*- لطفلة مع البالون: ( يبصرون بالونة شريدة)
*/*- سماء كما خيط البالونة (سماء وعناقيد تتدلى) او ( تفقأ عين السماء)..
أليس هذا ما جاء بالقصيدة لفظا وتركيبا ومعنى متوافقا مع لوحة «الفتاة مع البالون» او جداريته..!!!؟
ا================
ثانيا شِعِّرية التجربة ودَلالَة اَلْمَعْنَى
ا================
انما الشعر تجربة كما يذكر الناقد الإنجليزي ت. س إليوت.. انما هو الوصول إلى حدود الوعي بمنظوم الكلمات…
ومنه تمثل التجربة الشعرية تلك الخبرة التي تقدمها القصيدة اذ هي رؤية من الشاعر و معايشة للواقع تنبع من الذات بانفعال صادق وتعبير جزل واسلوب بديع.
منفتحة على تجربة (الآخر)، ذلك الآخر الذي يشكل بؤرة التجربة ومداراتها، والذي يتماهى معه الشاعر، باعتباره كائنا إنسانيا يسمو بما يحمل من خصال وقيم رفيعة ويمكن ان نلفت الانتباه بهذا النص الى مسائل وتجارب انسانية متمثلة في «المحبة والصدق والوفاء والعدالة والإيثار…»..
ا================
ما التجربة بهذا النص!؟
ا================
النص يحدثنا عن شخصية تحدثنا عن تجربة انسانية واقفة في زاوية سماوية تخييلية. انها شخصية تنظر في مشاهد تدور أمامها.. متمثلة في :
1- سماء تنزل منها (عناقيد تتدلّى/ تصدح بالأماني)
2- أطفال على طرف الجسر تفر منهم بالونة (والأناملُ أطفالٌ
يُبْصِرُون بالونة شريدة)
3- مشهد غير بعيد من الجسر الأم تنضج الخبز على التنور (امي الواقفة على التنور)/
او قول الشاعر متحدثا عن الاعمال الاساسية للأم:
(أمي تأخذ من التنور الأعواد
تفقأ عين السماء..
تطبطب فوق الخبز خفيفا..) ..
لو ننظر لعناصر التجربة الشعرية الثلاثة بهذا القصيد :
1 – الوجدان : ان مجمل المشاعر والأحاسيس بالنص
تدفع المتلقي الى الانفعال وتثير عاطفته اذ نلحظ منبعها ” القلب “.
لاحظ لجأت الشاعرة الى استحضار ذكريات عاشها المتلقي كما لو انه احد الاطفال اللاعبين بالبالونة وينتظر ان ينضج الخبز من يد الام..
انها استعملت تقنية النوستالجيا. كما يقول النقاد
2 – الفكر: يقوم القصيد على احداث بكل مقطع وسطر شعري تندمج بالمشاعر والأحاسيس مصدرها وكان مصدرها ” العقل ” .
أ- التعاطف مع قضايا البلد أليس هذا موقف فكري انظر قولها:
(وتفوح من تعاطفها رائحة البلد..)
ب- الوقوف مع المظلومين والمهمشين تقول : (والكفُّ تنهيدة..)
ج- السفر والارتحال والهجرة القسرية.. نسمعها تقول:
(ونركب أسراب الزوارق ..)
د- اتخاذ المواقف الأساسية وتحدي الصعاب.. وجدت الشاعرة أن التحدي هو الحل والغناء رغم الألم قمة الرؤية الوجودية .. رغم أن التجربة بالحياة (لهؤلاء الاطفال فقر احتياج ) كانت قاسية
أليست هذه كلها تجربة تندمج الافكار فيها الدالة على المواقف الانسانية ..
3 – الصورة الشعرية والتعبيرية :
يلحظ المتتبع للتصوير ان النص يشمل على مجموعة من الحقول الدلالية تنساب فيها الألفاظ والعبارات والتراكيب والصور والموسيقى لتؤلف نصا ابداعيا مكتمل ” الصياغة الشعرية ” .
ويمكن للباحث ان يستقصي اهم الصور نكتفي بثلاث صور شعرية منها
– صورة انزياحية كيف للموسيقى تصير سماء..
لا يكون ذلك الا بتصوير شاعري
(الموسيقى والأصواتُ
سماء وعناقيد تتدلّى)
– و كيف أن الأم تفقأ عين السماء ( أمي تأخذ من التنور الأعواد
تفقأ عين السماء..)
– تصوير الذكريات كمثل العرق المتصبب من الجبين انظر صورة الأم عند التنور وهي تنضج الخبز.. ( تمسح عن جبينها دخان الذكريات )..
هكذا تبدو التجربة قدرة النص الشعري على أن يخط لنفسه، وللآخرين أيضاً، خط سير جديدا تماماً يترك فيه وشمه وطابعه وخصوصيته.. حتى تصير الصورة جذمورأو موتيفة وأيقونة أو “إيكفراسيس” في عالم الشعر، كما يقول صلاح فضل : (بأبعادها الثلاثة، من مادة، وشكل ِ، ودلالة، هي التي تمثل وحدته البنائية، وتخلق واقعه الجديد)(2).
وفي كل ذلك قامت هذه التجربة الشعرية بالنص على ترابط أجزائها وما فيها من خواطر ومشاعر وصور كترابط الأعضاء في الجسم الحي.. اتساقا وانسجاما..
فتبدت للنص أبعاده الجمالية ظاهرة، من خلال تحليلنا للجانب الفني بالصورة الشعرية وحضور اللغة التي تقوم بالأساس على الانزياح، وتوافق القارئ على معاني الرمز فيه بالنص..
ا======
خاتمة
ا======
قدَّمت الشاعرة لوحة شعرية تستقي أنوارها من لوحة تشكيلية عالمية فقدمت مشاهد كانت الصورة فيها تتسع بالمعاني كما الرؤيا، حمَّلتها تجربة رؤيوية أضلاعها ثلاثة ضنك اليومي ومتاهات التخييليّ ورهافة الوجداني؛ مما جعلها تعكس رؤية الواقع بتحوِيل الانفعالات والمشاعر إلى مُركَّب جديد في عملية تَخلُّق ذَّاتي تُشكِّله جذوة الكلمات بِحَذَاقةِ الشاعرة،
هكذا من خلال المزاوجة بين الشعر والتشكيل كان المُنتج نصا حداثيا بامتياز.
ا==========
المصادر والمراجع
ا=========
1ـ د. عبدالغفار مكاوي , قصيدة وصورة , الشعر والتصوير عبر العصور , سلسلة عالم المعرفة , المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب , الكويت، عدد 119 , نوفمبر , 1987م . ص13
2ـ صلاح فضل , قراءة الصورة , مكتبة الأسرة , القاهرة , 1998م . ص13
ا========
اللوحات وتجريب الأشكان داخل الفن التشكيلي
ا=======
Discussion about this post