نيقولاي غوغول و”المعطف” الذي بات أشهر من صاحبه ..
د.علي أحمد جديد
“كلنا خرجنا من تحت معطف (غوغول)”
هكذا قال الأديب الروسي الكبير (فيودور ديستويفسكي) وهو يتحدث عن (نيقولاي غوغول) ، ولعل هذا الاعتراف يؤكد قيمة (غوغول) الأدبية خاصة وأن اختيار “المعطف” كعنوان للقصة كان ذا رمزية إبداعية كبيرة !!. ومهما كانت الأسباب التي دفعت (غوغول) إلى اختيار العنوان ، إلا أنه يبقى مناسبا لمضمون قصته التي باتت شهيرة جداً ، لأن أحداثها التي تنطلق من (المعطف) تعود إليه بشكل واقعي ومثير للسخرية .
في قصة “المعطف” ثمة رسائل أخلاقية في قالب أدبي ساخر .. لذلك فإنه مهما اختلفت الآراء التي تنسب مقولة :
“لقد خرجنا جميعاً من تحت معطف غوغول”
إلى (فيودور دويستويفسكي) أو (إيفان تورغينيف) فقد كان قائلها فهو مصيباً في قوله بلا أدنى شك . ذلك لأنه وصفٌ ينطبق على كاتب لَخّصَ سحر موهبة الكتابة الروسية على مختلف مستوياتها الأدبية والرمزية في قصة واحدة . وتشكل قصة “المعطف” – التي تُعَدّ أفضل القصص القصيرة ، والإبداعات الأدبية وأكثرها تأثيراً في الأدب الروسي – ركيزة مذهبِ واقعية الأدب الروسي في القرن التاسع عشر .
ينطلق (غوغول) في رسم صورة غير مؤثرة عن (أكاكي أكاكيفيتش باشماشكين) ، ويختبر عبر فصول القصة قدرة القارئ المتلقي على التعاطف مع شخصية الموظف الحكومي البسيط الذي يجمع بين دقة الانتباه للتفاصيل وبين الحسّ الاجتماعي الساخر اللاذع للبيروقراطية التافهة الشريرة .
فيبدو (أكاكي) غامضاً وأثيرياً وحقيقياً نوعاً ما على نحوٍ مثير للشفقة بمعطفه الرث في قصة تمتزج فيها غرابة الأطوار بمصداقية رعناء بسبب القذارة بالطموح الفكري الجامح ، وبشخصيات تقفز من بين سطور الصفحات بعد بضع جمل مفاجئة .
لأن قصة “المعطف” هي عن حياة وعن موت (أكاكي أكاكيفيتش باشماشكين) التي ارتأت أن في تسميته سيكون قدره المحتوم ، بدءاً من أولها “البراز” لتنتهي آخرها عند “الحذاء” . فهو مجرد موظف عادي مثير للشفقة ، وكاتبٍ في متوسط العمر ، ومستشارٍ فخري في مؤسسة من مؤسسات الخدمة المدنية في روسيا القيصرية . ولا يبدي (أكاكي) بالرغم من دناءة الموضع ورغم تعليقات زملاء العمل الساخرة من معطفه البالي الرقيق
أي استياء من حالته التي يعيشها ، بل يطيب له العمل فيما يصنعه لنفسه من عالمه الخاص الممتع . إلا أن عالمه ذاك يصيبه الاضطراب حين تجتاح موجة من الصقيع مدينة (سانت بطرسبرغ) ، ويضطر لاقتناء معطف جديد عبر سلسلة من تقشفات التخلي عن معظم حاجياته الضرورية طوال شهور عدة ليصبح معطفه جاهزاً يلبسه بكل تفاخر وهو ينظر إليه ويتحسسه في كل مرة بيديه مطمئناً ما إن كان لايزال فوق كتفه
وكأنه كان يتوجس من فقدانه الأكيد في وقتٍ قريب ، حتى وهو في ذروة انشغاله في نسخ الوثائق ، وما إن ينتهي وقت العمل يذهب مع زملائه للتلذذ بأكواب قهوتهم الساخنة .
كان (أكاكي) يجلس يومياً في بيته ليتم ما عليه من نسخ الوثائق
– وهو الشغف ذاته الذي كان غوغول يتعامل به مع نسخ حروف كتاباته الإبداعية حرفا بحرف – ويخلد بعدها للنوم وهو يدرك حتمية شراء معطف جديد وبتكلفة تفوق قدراته المادية كثيراً ، لكنه سرعان مايتعايش مع أزمته الطارئة ليجد في مسعى الادخار وتصميم المعطف الجديد هدفاً أسمى ، وفكرة تدفعه إلى الهدوء و الارتياح . ويكون أسعد الأيام في حياته هو يوم استلامه المعطف الجديد الذي يسرقه منه اللصوص في طريق العودة من الاحتفال الصغير الذي نظمه تعبيراً عن الفرح باقتناء المعطف الجديد . ويذهب إلى شخصية مهمة ترفض مساعدته في العثور له على المعطف ، ليموت قهراً وحرقة نتيجة فقدان المعطف .
لكن (غوغول) لا ينهي قصته عند موت (أكاكي) إذ يبدأ شبحه بمطاردة أهالي “سانت بطرسبرغ” ويسرق معاطف المارة ، ولا يهدأ لشبحه بال إلا حين يستولي على معطف شخصية المسؤول الهام الذي رفض مساعدته .
في قصة “المعطف” يميط (غوغول) اللثام عن قدرته بابتداع القصص التراجيدية والنكات المثيرة للسخرية وتخيّل الأدوار التي يمكن أن يؤديها معطف في مجتمعٍ مُضطَهِدٍ وبيروقراطي غارق في الماديات ، ويظهر للقارئ بأسلوبٍ فكاهي راقٍ تصورات متعددة لمعطف قادر أن يمثل ببساطة أحد أهم ضرورات الحياة الكريمة في بيئةٍ باردة ، وموضوع مادةٍ تحظى بالاحترام من خلال روابط هشةّ تجمع بين الإنسان و”أخيه” الإنسان ، وكأن تصويره للمعطف كان مثار غضب الأشباح .
لقد نجح (غوغول) برسم المشهديات التي تصوّر تحويل “المعطف” إلى حافز يستنفر مخاوفَ حقيقيةً ولصيقةً برفاه الإنسانية ، ويكشف عن هواجس تتميّز بالألم رغم الكوميدية الراقية المدرَجَة في القصة . حيث يمهّد (غوغول) للنبرة التراجيدية من خلال الحدث الكوميدي وهو يطالع القارئ بشخصية الراوي على لسان الغائب الذي يعاين المتوازيات القائمة بين (أكاكي أكاكيفيتش) الموظف المعدم ، وبين معطفه المهترئ الذي يمثل صورته في المجتمع .
وحملت قصة “المعطف” من خلال بساطة الحبكة والبناء رسائل أخلاقية تتسم بعمق إنساني استطاع أن يتخطى المكان والزمان . وأبرزها تقييم الرجل المسؤول الحقير لفقير معدم لا يحظى باحترام أصحاب المراتب الأعلى شأناً وتدفعه ظروف الحياة إلى حافة اليأس والانهيار. ويعي هذا النوع الاجتماعي النفسي من الأشخاص انعدام أهميته على نحو مثير للشفقة ، لكن غالباً ما تتولد ظروف يجرؤ فيها على التحدي في وضع ينقلب في نهاية المطاف إلى خاتمة قاتلة لصاحبها .
وتجعل اللمسات التي يضفيها غوغول من قراءته تجربةً مباشرة ومحفزة . وترقى استعادته لذكريات المشهد والمكان ، لاسيما لمدينة (سانت بطرسبرغ) إلى أجود الكتابة الوصفية في الأدب الروسي . أما رسم المسافة بينه وبين شخصياته بحيث يبدو الراوي والمؤلف وكأنهما شخصان مختلفان فكان يتسم بحرفية عالية تبلورت وتنمّقت على امتداد مسيرة حياة (غوغول) الشخصية و المهنية .
وكانت نهاية قصة “المعطف” التي حملت رجوع روح (أكاكي) لمدينة (سانت بطرسبرغ) كبشارة للأخذ بالثأر ، جوهر “الثورة” التي اندلعت في روسيا ، والتي انبعثت فيها الأرواح الآدمية من تحت ركام الرزوح طوال قرون تحت وطأة التسلط القيصري بمباركات الكنيسة الأرثودوكسية ، وتحت ظلم البرجوازية التي كانت تجري وتدور في فلكها .
Discussion about this post