( الخوف ) ..
“إلى كلِّ الأحياء الأموات في الوطن الكبير” ..
قصة قصيرة
د.علي أحمد جديد
أجهش يبكي بصوتٍ مخنوق .. وحيداً تركته وغابت عنه بنورها .. رمته بعيداً عن أَلَق حضورها وعن بسمتها المتوهجة ..
في رحليها المفاجئ صقيع المنافي الأبدي القاهر ، و الرهيب . لقدتركته في تيهٍ قاتل ورحلت دون أن تُودّعه بكلمة .. وحتى أنها لم تترك له ما يُنبِئُه بغيابها المظلم ظلمة الموت في عتمته وفي قسوته الطاغية !!..
تركته يهوي وحيداً في فراغ لا أفق يبدو لحدوده ولا مدى ، وهو أحوج ما يكون في هذه اللحظة إلى وجودها تحتضن بكاءه على صدرها ، وتمسح دموعه التي تاهت طويلاً عن حنوِّ يديها الدافئتين .
كان نشيجه لا يتوقف كنشيج طفلٍ أضاع دميته الوحيدة . تساءل بذهول :
( لماذا ؟!.. لماذا رحلت في هذا التوقيت , ولماذا اختارت هذه الطريقة للرحيل ؟!)
ولم يَهتدِ إلى تفسيرٍ يوضح أو يجيب ، كما لم يعثر على سبب يدعوها للتخلي عن الحياةفي ظلال محبته وهو الذي يفعل كل شيء وأي شيء ليبقي الفرح نضراً في قلبها ومُدهشاً في نظرات عينيها المضيئتين ابداً . وها هي ذي تتركه وحيداً في عالمٍ متصَحِّر ومقفر ، وكالماء تتسرب من قبضة عجزه ليخسر سحرها دون إنذار .
انساحت دموعه تتدفق فوق جفاف وجنتيه ، وكبّلته الحيرة في العجز عن فهم سبب خروجها في هذا الظرف العصيب الذي يجتاح البلدة منذراً بانفجارِ كل شيء ..
كأن القيامة قامت ، ليس في بلدته وحسب ، بل في كل المدن والبلدات و القرى . وانقلبت الناس إعصاراً يأتي على الجميع دون أن يُبقي أو يذر .
الكل هبوا مرة واحدة يقاومون الريح ، وأشدّ ما يخشاه أن يكتشف أحدهم حقيقة مايحرص أن يخفيه حتى على نفسه ، فقد بات من الواضح أن أهل بلدته لم يكونوا
بالبساطة التي يبدون ، وأنهم أقوى مما كان يظن . أقوى بكثير !! .
لو كانت زوجته تدرك شيئاً مما يقوم به أو حقيقة ما يخفيه أو أنه تجرأ مرة وقاسمها سِرَّه المرير ، لما خرجت تشاركهم رجم الدبابات بالحجارة وطعن الجنود والمستوطنين اليهود بالسكاكين . ولَما واجهت الرصاص بالأيدي و بالصدور المكشوفة حالمةً بانتصار العين على النار و المخرز !!.
كل ما قام ويقوم به , كان خوفاً من تجبّرهم ومن بطشهم به ، أو بها . واختار أن يشتري السلامة بتعامله السرّي معهم . وهي لا تعرف أن أكثر الذين قضوا في سجن الاحتلال أو اغتيالاً من أهل بلدته كانوا ضحايا تقاريره السرية لمخابراتالاحتلال لقاء مكافآت سخيّة يدّعي أنها تحويلات من أقاربه و أصدقائه في الخليج .
كانت تقول أن الضحايا فراشاتٌ تسعى إلى نور الشهادة وتدفع ضريبة التحرير ..
لكنه ساهم مختاراً في إطفاء ألوانها ، وتقول أنهم شموع تضيء درب الانتصار ..لكنه عمل جاهداً ًعلى دفن أنوارها ..
لو أنه أخبرها ، ربما كانت ستساعده وتشاركه لتنعم معه بغنائم ماجناه ويجنيه من
أثمان الدماء . لكنها ، أبداً ما كانت لتفعل ويعرف تماماً بأنها كانت ستهتك سرَّه لأنها منهم وتفخر دائماً بانتمائها لجذورهم وتاريخهم . وليس ببعيد عنها أن يدفعها ألمها من حقيقته لتقتله بيديها العاريتين .
كان يظن الأمر هذه المرة سحابةً عابرةً مثل كل يوم حين يجتمع صبية صغار يحاولون تجسيد بطولات سمعوا عنها وقرأوها في الكتب و الروايات القديمة كأساطير (المهلهل ، وعنترة ، وسيف بن ذي يزن) .. وغيرهم . فيثيرون الفوضى ويهاجمون الجنود –بعجزهم – حتى يُنشِبَ الموتُ مخالبه في أحدهم ليهربوا إلى بيوتهم يختبئون ويمضون سهراتهم بالحديث عن يومهم وعن بطولات اجترحوها ولن تعود . بينما يقضي ليلته بإعداد تقريره ويجهد في
تقليب ظنه لاختيار أسماء يقدمها إلى مخابرات الاحتلال كي يقبض مكافأته وينال فائض الثناء والمديح .
لقد ظنَّها سحابةً عابرة ، لكنها انقلبت غيوماً مُثقَلَةً تُمطر حجارةً وسكاكينَ بأيدٍ تستلهمُ (كربلاء) في مواجهة العديد و العتاد ، وتستبشر النصر من كبارٍ وصغارٍ انقلبوا نسوراً من (أبابيل) . يرجمون معاً .. ومعاً يُهلِّلون للشهادة و للشهيد .
إنه لا يفهم حتى اللحظة كيف للحجر أن يخيف سلاحاً فتّاكاً وحديثاً !! .. و لا يستوعب عجزَ الدبابات الأسطورية الُمحَصّنة أمام أجساد وصدور مكشوفة !!..
اذهله انهزام الرصاص أمام قبضة امرأة ، وأحبطه انكسار وحشية الجلاد وبطشه تحت حجر طفل فلسطيني صغير !!.
أدهشته حقيقتهم التي غابت عنه طويلاً وهو يراهم يتحوّلون إلى مَرَدَةٍ لا يخشون تهديداً ولا اعتقالًا ولا يهابون موتاً ولا رصاصاً يهوي عليهم كالمطر !!.. كأنهم قتلوا خوفهم في قلوبهم حتى بات الخوف يسكنه وحده .. يسحق إحساسه بالحياة وبقرع
النبضات المتلاحقة وهي تنشد الفرار من قضبان صدره . لقد انتفض أهل بلدته .. انتفضوا جميعاً وكُلّاً واحداً و التقوا يوحدهم الحجر من غير نداء . اجتمعوا نساء ورجالاً .. صغاراً وكباراً يرجمون ويطعنون ، وصاروا مطراً نارياً وسيلاً جارفاً يتسابقون لاحتضان موتٍ يلتقي ثائرَهم وصريعَهم في تهاليل الرجال وزغاريد النساء وكأنهم يقيمون أعراس الدم ويرقصون في حلقات الموت منتصرين على خوفٍ أرادوا لهم أن يحتل غرائزهم سنوات طوالاً ، وباتوا يرفضون السلطنة بخنوع السلطان مُوَطِّنين أنفسهم على معانقة الموت و الرصاص بفرحٍ سرمدي غامر ، و صارت حجارتهم (من سِجّيل) تعرف طريق أهدافها بلا تسديد . لقد طال الأمر أكثر من كل مرة وما عاد ذهنه يتسع للأسماء المزدحمة التي تستعجل قبض أثمان تدوينها في تقاريره التي تنتظر إنجازها . وها هي ذي زوجته تُضيِّع عليه برحيلها كنزاً ثميناً وثروةً .. وترقيةً انتظرها طويلاً . لقد اغتالت حلمه برحليها وانقلب الحلم إلى خوف ملتهب
وظالم يعشش فوق خوفه المقيم . لكن خوفه الآن يتعاظم من ردة فعل مخابرات الاحتلال حين يعرفون أن زوجته كانت تشارك الأهالي رجم الجنود وطعنهم
بالسكاكين .. ويبقى خوفه الأكبر أن يكتشف أهل بلدته حقيقة ما يقدمه من خدمات لمخابرات الاحتلال .
لقد تركته وغابت .. تركته يغرق في مستنقع خوفٍ حارقٍ أكثر مما كان ، ولا يرحم . تركت بينه وبين وَهمِ الأمان حقولاً شاسعة من الرعب توقظ ضحاياه من سباتهم
ليحيطوا به مُعمَّمين بدمائهم دون أن تحجبهم أستار خوفه . وها هو يراها الآن تستدير نحوه .. تشير إليه وتتهمه بأنه قد شارك الرصاصة في قتلها بطريقة أو
بأخرى .
* * *
أنفار كثيرون من أهل بلدته ومن غير أهل بلدته ملأوا الساحة الكبيرة . أدهشته طوابيرُهم التي ضاقت آفاق البلدة بها وهم يشاركون في تشييعها نحو الخلود ، وبدا الغرباء عن البلدة وكأنهم يعرفونها حق المعرفة وهم يتوِّجون بكاءهم بالبكاء المترافق
بالتهليل و التكبير ويهدرون بصوت يرجُّ الآفاق :
(لا إلـه الله والشهيد حبيب الله)
كأنهم قد سبق لهم أن تدرّبوا على ذلك من قبل وأتقنوه ليصدر شجياً متناغماً من الرجال و النساء وحتى من الأطفال (الأبابيل) . ومعلناً رغم الموت المحيط أنزمن الانتصار قد انتفض واستفاق مع الحجر ، وتلألأت ظلال الفخر أمام العيون تُميط الحاجز عن رؤية حصون الوهم ، و القهر ، و العجز تتهاوى وتسقط حصناً تلوحصن ، ووهماً وراء وهم . سمع من الجميع عبارة واحدة وأيديهم تشدُّ على يده بقوّة وصرامة ، ويترنمون بلهجة تفيض بالتهنئة و البشرى أكثر منها
بالمواساة و العزاء :
(إنها بطلة . و الأبطال أبداً لايموتون كما وعد الله بأنهم أحياء عند ربّهم يُرزَقون . وكلنا سنكمل المشوار )
ترددت كلمة (بطلة) تقرع أجراسها في خواء نفسه مختلطة بقرع النواقيس من جوف المآذن و بالتكبيرات تدوّي في أبراج الكنائس مشاركة في وداع الشهيدة .
تساءل بصمت ينطق حروف الألم المهيب :
(من أنا ؟! وما الذي أفعله هنا .. ماذا سيقولون عني لو كنت الميت أنا ؟!) ..
وسمع صوتها تجيبه بهتافاتهم المظلومة و الهادرة :
(ليس الميت من يواري الثرى جسدَه .فالبذرة تبدأ حياتها تحت التراب وتورق لتعطي الحياة)
ضحك في أعماقه بشدّة , وعاد إلى تباكيه بحرقة و ألم . لكن أياً من ضحكة وتباكيه لم يكن ظاهراً للعيان ، وأيقن أنه يعيش ميتاً من غير أن يموت لأن الخوف وحده ً
الحيّ الباقي الذي فيه ، وها هو يلمس في صدى مواساتهم إشفاقاً عليه ، بل تهديداً صريحاً له .. ويرى في نظراتهم إليه لظى الثأر والانتقام . وها هو خوفه يعرِّش فوقه ويُظلّل وجوده وكيانه حتى باتت خبايا نفسه تشرع أبوابها أمام المعزين وهم بفترشون الأثاث الذي كان .
اعتراه الخوف مجدَّداً بكل ما في سواده من القسوة و الظلال ، وارتجفت ركبتاه في ظلمة تحيطه لا ضوء فيها ، و لا نجم في ليلها الدامس . فليست هي المرة الأولى التي يعرف الخوفَ فيها ، لأنه يعيش الخوفَ منذ تفتُّحِ وعيه ، وله في ذلك تاريخ طويل .
لكن صهيل خوفه اليوم جنوني يمحو خلجات النور عن ملامحه ويقلب البسمة إلى رثاء . إنه خوف أدهى وأمضى في تعذيبه .. أمرّ في قسوته ، وأفظع في جبروته ..وبلا انتهاء .
* * *
انقضى على دفن زوجته ووداعها أربعون كاملة من الأيام ، وفي كل يوم من غيابها يأتيه المساء مفعماً
بأريج ذكراها ويحمل له طيفها ترنيمات من نشيد خوفه المقيم على صدى ارتجافات قلبه تبدِّد السكون الذي يحتضن أسوار بلدته .
أربعون يوما !! .. أو أربعون عاماً .. وفوقها أربعون عمراً.. لن تُخَلّصه من ظلمات الخوف ولا من قضبانه التي نصبها حوله غيابها . يأتيه الخوف خافقاً بوقعِ حوافره كل مساء ليرتجف قلبه من ضجيج الدماء التي تطغى على رحيق كل ما جمعه في الظلال من الأثمان . وفي سراديب نفسه لا يتوقف الخوف عن التمدّد ليحتل الأوردة و الشرايين ويشدَّ بقبضته على عنقه بكل مافي الكون من وحشية حتى يسمعَ استغاثة نبضاته بأذنيه ويختبرَ الموت دون أن يموت .
كيف لا يتوقع الموت رعباً وخوفاً وهو يرى الأرض تتفجر بالغضب وتستحيل حجارتهاإلى كتل من النار وهم يرجمون الجنود و المستوطنين ، وكأن الأرض بحجارتها ترفض وجودهم فوق أديمها ، وتضج نواقيس الكنائس مع ترنيمات المآذن وتكبيراتها تدعو للمقاومة .. فتمزق ظلمة الآفاق وتبدّد سنوات التسليم و الاستكانة وتكشف عن مجدٍ يعود زاهياً ليقضَّ مضجعه ويسلبَ نومه من عينيه قبل أن ينام !!..
صار يخاف أن يبقى في البيت وحيداً بعد رحيلها ، ويخاف أن يمشيوحيداً في كل وقت وآن ، وفي أي مكانٍ وهو يتخيّل أحداً سيثأر منه لموتها .
استولت عليه فكرة الزواج ثانية هروباً من ذلك الخوف الطاغي وأملاً بأن يفلت من دم الفريسة المقيت الذي بات يحتل عروقه بعد أن كانت مصائر الكثيرين مرهونة بواحد من تقاريره ، لكنه دائماً كان يُحوِّم حول صورة زوجته ولم يستطع الاهتداء إلى واحدة تحمل شيئاً من إشراقة عينيها ولا من ضوء ملامحها الفريدة . كان يقاتل في نسيانها ونسيان سحر بساطتها ، وعبثاً يحاول التخلص من قيود صبرها ، وطيبتها ، وعطاءاتها .. وقوّتها ، فقد كانت نادرة ومُتفرّدة حتى بطريقة خلاصها ورحيلها !!.. وشاهدة القبر التي نقشوا عليها خلود اسمها ما تفتأ تُفاجئه وتنتصب ماثلة أمامه في كل ركن من بيته الذي صار سجناً بلا سَجّان ولا قضبان ، وفيه يراها تنبئه بأنها اكتشفت خيانته لأهل بلدته الذين لا يعرفون سوى المحبة و الوفاء ، ويأتيه صوتها مُتكسّر الشعاع :
(ما أصعب الموت على يد الغادر و الجبان .. لقد قتلتني خيانتك ومزق قلبي غدرك قبل أن تصل إليّ رصاصات اليهود ) .
ولهذا لم ينقطع يوماً واحداً عن زيارة قبرها ، فثمة ما يشدُّه كل يوم ويدفعه للولوج خلف أسوار المقبرة وللجلوس مقابل شاهدة القبر التي تنتصب أمامه وليبقى شعوره بالخوف الأبدي يلازمه ويخيّم عليه بظلاله المعتمة حتى يوصد دونه سبل الفرح والابتسام ،
وفي كل زيارة يجلس مُدمدِماً بخوفه أمام القبر يحاول التصدي لهول ذكرياته التي كانت معها . يدركُ بأنها كانت نجمة دائمة الضياء و الجمال , وزهرة من ربيعٍ
دائم يفرش العشب تحت القمر ، كما كانت تعزف نغمات الأمان بسحرٍ غامر لم يعرفه ولن يعرفه الآن .. ووحيداً أمام القبر تأتيه صور ضحاياه كما كانوا قبل أن يقبض أثمان موتهم ..
(كم كان الثمن زهيداً .. بخساً وضئيلاً مقابل الوفاء و الحياة)
وتنوء كتفاه بحَمل قبور كل الذين عرفهم وقبض مكافآت موتهم حتى بات يتحرك دائماً بين القبور وتحاصره ضحاياه بأشباحٍ لا تعرف سوى القسوة كفؤوس تهدم مابقي فيه من أمانٍ ومن رغبةٍ في الحياة . تساءل في ّسره :
(مَن مِنّا يسكن المقبرة فعلاً)
* * *
قال له والدها المُقعَد بصوت جهوري مريب :
– جاءت تبحث عنك وقالت إنها تريد أن تراك ..
أطلق ساقيه كالمجنون يسابق خوفه نحو البيت ، ولما وصل فتح الباب وقذف بنفسه إلى وسط الردهة الواسعة و الصامتة ، ثم انطلق يجول الغرف يبحث
عنها غرفة غرفة . فتح خزانتها لأول مرة منذ رحيلها وتأمل أثوابها معلّقةً ببرودة الموت فيها . تلفت بنظراته يجوب البيت فرأى كل شيء قابعاً على حاله وبكل سكون . تحسس أثوابها المعلّقة في الخزانة ببرود ، ومسح بيده على كل قطعة أثاث اشتراها بدماء ضحايا تقاريره السود للاحتلال.. ثم خَرَّ جاثياً يبكي بخوفٍ مَقيت وبحرقةٍ مؤلمةٍ حتى حاصرته
ضحاياه . قال قائل منهم :
– تعيش وأنت يطاردك موتك لأنك لا تدرك حقيقة الموت بلا ندامة و لا تعرف معناه . كل الذين ماتوا هنا عاشوا موتهم بلا ندم و لا أسى لأنهم عرفوا قيمة موتهم وأدركوا أن الحياة جدّ قصيرة مهما امتدت وطالت ، وأن في الموت خلوداً طويلاً وجميلاً ما بعده من خلود و جمال .
جال بنظره على وجوههم .. وتذكر كيف كان يأكل من خبزهم ويشرب من مائهم ، ويشاركهم الأمسيات وهي تشرب من عين الحنين و الأمنيات .. وأدرك أنه أبداً لم يكن
واحداً منهم ولن يكون مثلهم يوماً . واكتشف فجأة – بكل جلاء ووضوح – أن ضحاياه ، كلهم ، يحملون ملامح زوجته التي ما أحب غيرها بعد نفسه ليدرك أن
الخطوط المحيطة بمثله من الأحياء هي غير الخطوط التي يتحرك الأموات في حلقاتها .. قد تبدو الخطوط التي يتحرك الأموات في حلقاتها متشابهة أو مختلطة
ومتطابقة في بعض الأحيان ، لكنها لابد أن تعود إلى مسارها المرسوم ، فتبقى للأحياء حلقاتهم التي يدورون داخلها وإن بدوا أكثر موتاً في فكرهم من الأموات وفيما يفعلون . وتبقى للألموات خطوطهم المستوية و المستقيمة يواظبون المسير عليها أحياءً إلى يوم يبعثون .
* * *
في بيته ، ووسط خوفه المُطبِق و المهيب كانت مقبرته . دفن نفسه في متاهاتها المتداخلة والمتشابكة بين موتٍ وحياة ولم يعد يغادرها إلا نادراً ، وللضرورة . صار بيته سجناً وقبراً . كان الخوف سجنه الضيّق جداً ، و الحزن قبره الشائك و المؤلم أبداً . لكنه لم ينقطع يوماً عن زيارة يأسه في المقبرة حيث تقيم زوجته الودود هناك ..
وفـي البيت ، هنا ، ما يزال نبضها على الجدران و الزوايا يردد صدى صوتها وهي تقول :
– سيرحلون .. مهما تعاظمت قوّتهم ومهما أفرطوا في وحشيتهم ، سيكون نصرنا أزهى وأقوى لأننا نملك الحق و الإيمان . سننتصر لأنهم يهابون الموت ويرعبهم ، ولأنهم لا يرون فينا إلا موتهم وفناءهم . سننتصر لأننا
نشتري الموت لتحيا أجيالنا ، ونمشي في دمائنا حتى نبلغ شمس الأفق وهي تُشعّ بالنصر و بالخلاص . ومهما لَفَّنا حزن فراق الأحبّة أو حاصرتنا وحشتيهم .. ومهما قطّع الحنين في بقيتنا شوقاًلمَن رحلوا وهم يقاومون , فلا بد أن يزهر الشوق نصراً ، وأن تُنبِتَ الدماءُ وروداً وخلوداً.
كم يلوم نفسه الآن لأنه لم يفهم كلماتها ولم يصّدق ما كانت تقول ، وحتى أنه لميحاول مرة أن يفهم ماكانت تقول . وكان لا يجرؤ أن يُظهِرَ لها سخريته مما تهذر عن الحق وعن القوة الكامنة .. أو وَهمِ الانتصار . لكن قلبه ما تزال خفقاته تتشبث بحبها حتى بعد رحيلها .. ربما لأنها كانت تملك من الإرادة و الجرأة و القوة ما يجبن عن التفكير بامتلاكه ، أو لإصرارها على مهاجمة الموت وكأنها هي التي باغتت موتها !!..
عادت نظراته تمسح جدران البيت تائهةً وحائرةً بضجيج شو قٍ زاخر إليها . توقف بنظراته أمام باب الشرفة الزجاجي العريض يستعيد صورتها وهي تجلس كل مساء فوق كرسيها اليافاوي المقشش وتتابع نشرات الأخبار على شاشة التلفاز .. تنفعل ولا تكفُّ عن اتهام السلطات بتزوير الأحداث والتعتيم على الحقائق بكل ما يعرضونه في
نشراتهم المفبركة بإتقان . عاد إلى كرسيها المقشش ليكتشف فجأة ذلك الشبه الغريب و المتطابق بين شاهدة قبرها في المقبرة هناك ، وبين مسند كرسيها الخشبي
المنتصب أمامه بكل إصرار وشموخ . استغرب ما انتبه إليه من التشابه الكلي بين خشب مسند الكرسي اليافاوي في البيت وبين شاهدة القبر في المقبرة إلى حَّد التوأمة !!.وقرر أن يتأكد من ذلك بنفسه فوراً .
خرج من البيت يعبر الشارع الخلفي الأقرب إلى المقبرة , وانطلق في دجىً تخترق سوادَه مئذنة قريبة من برج الكنيسة وينتصبان بشموخ . لفحته نسمة واهية من بقايا شتاء يفسح مكاناً للربيع القادم ، وتابعَ ينطلق في الظلمة يسابق خوفه نحو عتمة المقبرة التي تلتهم كل ما يستجدي من
نورٍ يضيء دربه في سكونٍ يلبس الدرب و الأشجار بعد يوم صاخبٍ وطويلٍ تبادل فيه الجنود و الأهالي حوارهم اليومي بالرصاص و القذائف ، وبالحجارة وطعن
السكاكين .
فَردَ عليه الخوف أجنحة متأججة من حميم حارق وهو يَدلف إلى قلب المقبرة حيث تنتظره الشاهدة هناك ، فتراءت له زوجته وسط هالةٍ تضيء الظلمة الدكناء حولها
وهي تغادر المقبرة من بابها الواسع الكبير . هَمَّ أن يناديها لكن صوته أبى الانطلاق وكأن الخوف يجثم بثقله فوق لسانه .. يجفّفه كصحراء قاحلة ويشلُّ قدرته على التحرك للتلفظ و الصياح .
قاده خوفه نحو قبرها ليجلس مرتاعا قبالته ، فتسلل من عينيه و ميضُ الخوف الرابض يُبرِزُ له حروف اسمه على الشاهدة .انتفض و الخوف يتشبث برقبته وراح ينبش القبر بيديه العاريتين دون توقف .. ولما وصل إلى الجثة المسجاة في هاوية الحفرة , مَدَّ يدَه يُزيح الغطاء عن وجهها ، فهّبت رياحٌ تُصرصِرُ وجهه وتُجمِّدُ نظراته وهو يرى جثته الممددة في قعر القبر السحيق . رأى نفسه يهوي
ويهوي في سقوط مريع بلا لون .. ولا أمل .. ولا وفاء !!..
إنه الخوف .. نعم إنه الخوف وحده ، و لا شيء كالخوف يسطو
ويسلب الحياة ويُجَرِّدُ من الانتماء .
Discussion about this post