سندباد على متن ميمين!
كتبت سماح بني داود
لا أعلم إن كانت تكفي صفحة هذا المقال لرسم صورة مكتملة لعز الدين ميهوبي، الذي عرفته روائيّا فاكتشفته شاعرا وإنسانا. رجل بسيرة ذاتية لا تكفيها عديد الصفحات.. لمواهبه المتعددة و عمله الدؤوب، فهو شخص مختلف له عقل لا يكفُّ عن التفكير و قلب نابض بالْحياة محبّ للجمال طامح للأفضل دوما وجسد يمكننا اختصاره في ابتسامة قاتلة لكل أوزار الحياة فهو السندباد الذي يجوب البلاد، فقد انتقل من الجزائر إلى دول قد لا تحفظها ذاكرتي لتعدّدها، فزار سور الصين العظيم المكان الذي يُرى من القمر و زار “هانوي” عاصمة الفيتنام وشيراز الإيرانية ومقام الشاعر حافظ الشيرازي، زار طهران وإسطنبول، زار موسكو ولندن وبكين وهافانا وأديس أبابا والقاهرة حيث اجتمع بالروائي الكبير نجيب محفوظ في حوار صحفي خاضه معه بسعادة في أربعين دقيقة ليكون على أول صحيفة جزائرية، كما زار بلغراد ليذكر لنا خليفة الماريشال تيتو، المتطرّف الصربي سلوبودان ميلوزيفيتش وما قرأه في عيون الصّرب من حقد كبير ورغبة في الموت وهم يجمعون حطب الحرب، زار لندن، وقرأ في فرانكفورت قصديتين ضمن أمسية شعرية بمعرض الكتاب الدولي هناك، زار فرنسا و المدينة المنورة حيث التقى ببطل الملاكمة العالمي محمد علي كلاي، زار بروكسل وبيروت حيث رافق محمود درويش في رحلة حديث يشتهيها كل كاتب شغوف بالشّعر و الأدب، زار مراكش حيث شدّه الارجواني الطاغي وهو الفنان الذي يدقق في التفاصيل و ينتبه للجمال، زار الإمارات وغيرها من الدول التي خاض فيها المغامرة فكتب تفاصيلها كاملة لنعيشها معه، هو السندباد، وهو الشاعر “هوميروس” الذي تتبعه غيمة الشِعر فيطاوعه الحرف يعجنه بماء مشاعره ليكون قابيل وهابيل في آن وهو المبدع الذي كادت تقتله السياسة ومنعرجاتها الممتلئة بعيون حاسدة وأخرى مراقبة لا ترحم، ومن منّا لا يعلم أن الأول قتل الثاني وعاش بعده بين ندم وحسرة غير أنه القوي جدا بشخصية مختلفة عصية لا تترك مجالها الابداعي وإن تعددت المسارات في حياته، فالسياسة وممارستها رحلة واحدة في حياته خلدت اسمه لينزل بمحطات أوسع و أكثر اتساعا، قلمٌ لا ينحي ولا يختفي، يواجه بصلابة، حتّى فاق حدود الجِنس بين البشر فكتب على لِسانها و لِسانهن ما يبهج كل قارئة لنصوص ترفع من مقامها كامرأة شامخة تعزف على أوتار الحياة بشغف و رِفعة وصمود، فيقول في نص له من غيمته من جلسة نساء صفحة 83:
جلسنَ
فقالت سعادٌ وفي يدها سمكهْ
_سأسألها
ربّما هي في عرشها ملكهْ
هل أحبّتْ
وصارت حديث المحارهْ
وأغنية تشتهيها العِبارهْ؟
فردت هُيامٌ وفي يدها الكأس يضحك ممّا يقالْ:
_لماذا السؤالْ
وهل نسي البحر أنّ المحبين
لا يملكون من العمر
إلاّ بقيّة تنهيدة من مُحالْ
فصبّت سليمى وقالت :
_دعوا البحر والعاشقاتِ
وغنين لي : قُمْ ترى
فلا شيء يبقى
سوى فرحة
هي لا تُشترى
عز الدين ميهوبي نهر لا يعود للوراء إبداعيًا، لا يصمت، قلمه لا ينتهي حبره ولا يكف عن تجميل عالم الفن والأدب بزخات من شعر ناعم و روايات منها ما كتبها فيه ومنها ما كتبها في أنثى فنجده ساردا متمكنا من لعب دور امرأة من جلد أفعى لا تموت ولا تُرهص، يتحدث على لسانها، يمرر لنا مشاعرها، يصوّر لنا عالمها الخاص الذي لم تلوثه الحرب ولم تنل منه يد المستعمر فكِبر حجم كتابه” سيرة الأفعى” الذي جاء في 751 صفحة، وحده دليل على كِبر حلمه و طموحاته التي يشترك فيها معنا جميعا في نيل الحرية وتحقيق انتصارنا العربي الكبير.
ممتلئ بالحضور لا يغيب أبدا نجده في واجهة القصائد و في أعماق الرواية و بين ينابيع الحكاية، وعلى خشبات المسارح بنصوص مذهلة تشدّ الصغار والكبار، وفي أناشيد كثيرة مترجمة فيها معاني تضم الإنسان أينما كان وتحتويه بلغة واحدة اسمها “محبّة” وأنا أستمع الى نشيد ” العمّال الأفارقة” Africana لم يخطر ببالي أن العمل يخص عز الدين ميهوبي حتى وصلت آخر النشيد لأجد اسمه مع
سليم دادا صاحب موسيقى فيلم
القديس أوغستين الذي أنتجته تونس والجزائر، 2016
كلمات تهزك إلى أسمى معاني الإنساية بروح فنية عذبة
هكذا يحضر عز الدين بجميع الأجناس الأدبية و الفنون وهو الذي درس الفن فكان منقذه خلال رحلته الى بلغراد لما رسم للصيدلي جسم الانسان ومكوناته بما في ذلك الكبد حين جهل لغته ولم يجد طريقة يُفهمه بها علته، رحلات كثيرة حول العالم فيها قصص ومغامرات طريفة وثقها عز الدين بحروف سلسة وأسلوب سردي ممتع يشد القارئ و يرفع لديه مستوى المعرفة بمتعة بعيد عن الملل وروتين الكتابة الثقيل، حكايا متجددة فيها تشويق لا يجعلك تفكر أبدا في ترك الكتاب حتى تنهيه. فهو شاعر يوثق جميع مشاعره خلال رحلاته ولم يكن أنانيا ولم يقم بتخبئة المعلومة حين أحسن وصف الأمكنة بذاكرة قوية تخزن أسماء الأمكنة والناس بشكل لافت ومبهر ودقيق حتى أن القارئ لا ريب سيستغرب من عقل بشري عادي كيف يمكنه الاحتفاظ بكل تلك المعلومات وتمريرها بذاك الشكل الجميل لم يكن ميهوبي سندبادا لكنه عاش ما لم يعشه وكتب ما لم يكتبه فأبدع حين ركب ميمين:
ميم المعرفة إذ زادنا كقرّاء معرفة وثقافة حيث تتنوّع المعلومات مع كل رحلة وكل نص وكل كتاب، و ميم المتعة حيث أمتعنا بأسلوبه الجميل و مغامراته الطريفة وتجاربه المختلفة التي لم تقتصر على جنس أدبي واحد. متصالح مع نفسه يردّد بحرية ما تُمليه عليه خزانة ذاكرته المكتنزة جدا بما يصعب على الكثيرين حفظه.
ولا يفوتني أن أنوّه بأنّ أركان مؤسستنا “دار الفنون” أصبحت تعجّ بحرف ميهوبي فباتت قصائده التي أهداها لتلاميذ الدار وِجهتهم و مصدر فرحهم، يرددون القصائد الغنائية التي لحنها الموسيقار التونسي هشام كتاري و يحفظون النصوص المسرحية ويتابعون كل جديد في الساحة الفنية والأدبية بتأطير منا.
رغم حدود المسافة عز الدين ميهوبي شديد الحضور في جميع الأمكنة على هذه الأرض التي تتسع للفنان مهما قست عليه الأزمنة بمتغيراتها ومفاجآتها، وليس غريبا عن شاعر وروائي يقاسم الناس مشاعره أن يقاسمهم فرح رحلاته ومتعتها.
الفنان الأديب قطرة دم لا يموت على حد تعبيره في قصيدة “قابيل