الباحثة: ليندا حجازي الجامعة اللبنانية
دراسة:
من كسر أفق التوقع إلى الدهشة
النص الشعري :
للأستاذ. حمد حاجي تونس
الباحثة: ليندا حجازي الجامعة اللبنانية دراسة: من كسر أفق التوقع إلى الدهشة. النص الشعري : أ. حمد حاجي تونسقراءة : الدهشة وكعب أخيل (Talon d’Achille)
***الذئبة من كسر أفق التوقع إلى الدّهشة
قبل عرضنا للقراءة هناك ثلاثة مفاهيم :أ- أفق التوقّع/ ب-عقب أخيل / ج- «شمشون الجبّار»
أ-أفق التوقّع: أريد أن أعالج بهذا النص بالتحديد جماليّة التلقّي، وبتعبير ياوس ما سمّاه “تدمير المعيار القائم للتوقّعات”، وهو ما يسمّيه بـ”الجماليّة السلبيّة”، أو “الجماليّة الانتقائيّة”…
إذ حدّدت مدرسة التلقّي أفق الإنتظار كما ذكرها النّاقد والمنظّر لها:
مثلا ياوس يرى أن ” أفق الانتظار” يشمل ثلاثة عوامل تتمثل في:
1- المعايير الشائعة عند القرّاء عن خصائص الجنس (وضع النص بجنسه)
2- الصلات الضمنيّة التي تربط النص بآثار سابقة معروفة (التناص مع نصوص أخرى)
3- أخيرًا المقابلة بين المتخيّل والواقع، أو بين وظيفة اللّغة الإنشائيّة ووظيفتها العمليّة” [1]،
وهذه القراءة ستحاول أن تنظر من هذا الباب بالتلقّي للقصيدة لكل هذه المفاهيم : أفق التوقّعات – الفجوات والفراغات – المسافة الجمالیّة – المتعة الجمالیّة – القارئ الضمني.؟
ب -عقب أخيل أو كعب أخيل ذاك البطل الأسطوريّ في حرب طروادة
هو مصطلح يشير إلى الأسطورة اليونانيّة الشهيرة:
إن والدة أخيل غمّسته في نبع الخلود حين ولد، فاكتسب المناعة ضد أي احتمال للخطر، غير أنّها كانت تمسك به من كعبيه فيما هو منغمسٌ في ذلك النبع، ولذلك صار كعباه نقطة الضعف الوحيدة في فضاء قوّته الخرافيّ..
هل قصد الشاعر أن كعب أخيل ونقطة ضعفه حبّ الحبيبة ؟
ج- «شمشون الجبار» الذي نذرته أمّه للربّ وامتنعت عن حلق شعره منذ ولادته، وهكذا تجمّعت قوّته وجبروته في خصلات شعره. وحين أحبّ فتاة من أعدائه، استغلّت تلك الفتاة نومه لتحلق شعره وتفقده جبروته..
هل قصد الشاعر أنه يقول للقارئ كما قال هارون لموسى” لا تأخذ بلحيتي”.. أنا تعشّقت الحبيبة وليكن ما يكن وكفى؟
** المقدّمة
**ينصبّ مطمح هذه القراءة للقصيدة الإبداعيّة على ردّ اعتبار إلى القارئ / المتلقّي كما جاء وفق منهج : “التأويل ونظريّة التلقّي والقراءة”(ياوس وإيزر) … فنظريّة التلقّي تتحدث عن الطريقة التي يتلقّى فيها القارئ النص على اختلاف بين ياوس و إيزر، أمّا نظريّة التأويل فنلحظ انّها تتحدث عن الطريقة التي يؤوّل بها القارئ النص لذا كان علينا استثمار كل تلك المفاهيم وتبيّن أفق التوقّع والذي ندرك أنه ليس بمعزلٍ عن استعراض أطروحات نظريّة التلقي في جميع أصولها ومبادئها واجراءاتها… استئناسا بمنظّري جماليّة التلقّي سواء “هانس روبرت ياوس”(hans Robert Jauss)أو “فولفغانغ أيزر”(wolfgang Iser). لكنّني سأكتفي بالمنهج والإشارة فقط إليهما إضمارا وبعيدا عن تعقيداتهما.
•أولًا :
النص والكاتب المبدع:
نص بديع يخرق آفاق المحتمل – على مستوى البنية والتجربة الشعريّة والصورة والمشهد – لتمرير خطاب مختلف يعرّي المألوف .. نص يقوم على خلخلة القوالب الفنيّة التقليديّة للقصيد ويفتح آفاق التأويل جديدة في بناء تجربة شعريّة من داخل القديم وتعصيره عن طريق المزج بين الواقع والخيال.. أو عن طريق توظيف الأسطورة حين الإشارة إليها كوسيلة تُمكنّه من أن يضفيَ على نصّه طابعًا فكريًا فلسفيّا وأن يكسبه قوة إبداعيّة مستمدًا من تلك الأجواء الأسطورية التي تمنح المتلقي دلالات متنوعة..ويرى ياوس :أنّ “كل عمل أدبي يذكّر القارىء بأعمال سبق له أن قرأها، فيكيّف استجابته العاطفيّة له، ويخلق عنده منذ بدايته توقّعًا / توقّعات ما، يمكن كلّما تقدّمت القراءة ، أن يمتد أو يعدّل أو يوجّه وجهةً أخرى”[2].
ترى أين يكمن التأويل وما حدوده بالنص؟
وكيف كسّر الشاعر من خلال تيمة الذئبية أفق انتظارات القارئ؟
•ثانيا:
-حدود التأويل
بتقديري أن حدود التأويل لا تكون إلّا من خلال زاوية النظر..
هل أن القارئ أو المتلقّي هو من يهتم بالنص أم أن النص نفسه يدعو القارئ إلى هذا الاهتمام؟ وهل المعنى وإنتاجه عمق النص، أم عمق القارئ، أم جاء به المؤلّف، أم هو بالخارج عن الكل؟ وأين؟ في الفضاء الثقافي، أم في اللغة كمؤسسة اجتماعية.. ؟
لكننا سننظر بالنص لتلك الفراغات التي نخمن سيكملها القارئ، حتى نمسك بمجموع وجهات النظر بالنص المختلفة المعبّرة عن المعاني والدلالات..
1-مفهوم (الفراغات)،/ (عمليّات النفي):
ونقصد أن عمليّة القراءة الإبداعيّة على الأثر محكومة بالنص نفسه، والقارئ الحصيف سيتمكّن من اكتشاف الفراغات فيه انظر الثلاث نقاط: “ولَوْ… لَم أَهَبْها قطيعَ شياهي وعمري،”، وما يخفيه النص(تحدّي القارئ المخاطَب بالنص) بقوله: “كما شئتَ.. اذهب بظنّكَ، فصِّلْ حديثك..”، أو انتباه الناقد الى تلك المساحات التي يقوم عندها القارئ بصنع العلاقات (ما علاقة الأنت المخاطب بالحبيبة والحبيب)… كما لا ننسى عمليّات النفي المتمثّلة في إحداث تعديلات في اتّجاهات القارئ إزاء ما هو محدّد ومألوف( اللّا مألوف: هل أنّ الحبيبة ذئبة حقا؟).
2- مفهوم (وجهة النظر الجوّالة):
بما أنّ القارئ لا يكون حاضراً فعليّا في النصّ إلّا عندما يكون المعنى الذي رشّحه متوافقا مع فهمه وإدراكه عند نقطة التقاء الذاكرة والتوقّع.. وهو ما قدّمه التخاطب ووجهات النظر بين (الحبيب والحبيبة، والمخاطب)
3- مفهوم (المركّب السلبي):
يتعلق بنشاط القارئ في إنتاج الصور ودلالاتها لأنّ مفردة لا تستطيع أن تستنفذ كل دلالاتها الكامنة.. وبالنص اللّغة السلسة والبسيطة وتفعيلة المتقارب قدّمت لغة النص ّعلى محملين قديم، ومعاصر
•ثالثا :
تيمة الذئب بالأدب:
يضعنا الشاعر حمد حاجي بموضع كسر التوقّع.. أمام جبروت الذئب..
– الأسطورة مع ريموس (Remus) و رومولوس(Romulus).[3]
يدفعني التوقّع أن نذهب معه إلى الأسطورة و بعيدًا إلى الأخوين الصبيّين التّوأمين الذين يقع التخلّي عنهما “ريموس” و ” رومولوس” فأنقذتهما الذئبة .. وقتلاها ثم يغدر ” رومولوس” بأخيه ” ريموس ” مانحًا اسمه للمدينة حول الكهف “روما” وبذلك تأسّست روما على ذئبيّة “رومولوس”..
-بل يجعلنا الشاعر حمد حاجي.. أمام ذئب يوسف عليه السلام حين تآمر عليه إخوته و رموه في البئر ثم قالوا لأبيهم قد أكله الذئب في غفلة منا “وجاءوا أباهم عشاء يبكون (16 ) قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق و تركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذيب و ما أنت بمؤمن لنا و لو كنّا صادقين (17)”
-أم ترى يذهب بنا الى القصص فنحتار أهو ذئب الأديب الفذّ “ألبرتو مورافيا ” في كتابه الرائع “قصص من روما او بقصة “سارق الكنيسة “التي يبدأها الكاتب بحياة الذئب. يقول: “ما الذي يفعله الذئب حين يرى الذئبة و جراءهما فارغي البطون يتضورون جوعا؟”.
-أم أننا سنملأ الفراغات ونسدّ ما تركه لنؤسّس معه النص ونشاركه تكوينه.. ونحن نستحضر الذئب الذي اتخذه الشنفرى أحد الخلصاء حين أعلن فراقه لقومه قائلا في لاميته الشهيرة:
“وَلِي دُونَكُمْ أَهْلُـون : سِيـدٌ عَمَلَّـسٌ وَأَرْقَطُ زُهْلُـولٌ وَعَرْفَـاءُ جَيْـأََلُ
هُـمُ الأَهْلُ لا مُسْتَودَعُ السِّـرِّ ذَائِـعٌ لَدَيْهِمْ وَلاَ الجَانِي بِمَا جَرَّ يُخْـذَلُ”
-أم ترانا سنعمد الى التوقّع مع أبي العلاء الذي يعترف أن الذئب أكثر أمانًا من الإنسان إذ قال:
“عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى … و صوّت إنسان فكدت أطير”
يمكن للقارئ أن يخمّن بالذئب من حيث هو
– حذرٌ ومنه أن حبيبة الشاعر حذرة
يقول الشاعر واصفًا الذئب وشدّة حذره ينام بعين و يحرس نفسه بالعين الأخرى:
“ينام بإحدى مقلتيّه و يتّقي بأخرى … المنايا فهو يقظان هاجع”
كما لا يخفي علينا التوقّع باللّامألوف من حيث هو رديف الغدر وهو ما يضمره الشاعر هنا عن حبيبته.. إذ أنّ صفة الغدر بالأدب العربي حين الحديث عن الذئب والتي أبكت الأعرابيّ الذي وجد جرو ذئبٍ فأخذه وسقاه من حليب شاته ورباه، و حين اشتد الجرو و صار ذئبًا فتك بالشاة التي رضع حليبها ، فأنتشد الأبيات:
“بقرت شويهتي و فجعت قلبي وأنت لشاتنا ابن ربيب
غذيت بدرّها و ربيت فينا فمن أنباك أن أباك ذيب
إذا كان الطباع طباع سوء فلا أدب يفيد و لا حليب”
– يضعنا الشاعر في توقعات منها صفة الكرم والحيطة مع الذئاب
نذكر الشاعر الفرزدق…
فعل نبيل قام به الفرزدق إذ اقتسم زاده مع الذئب الجائع، لكنّه ظل ملازما للحذر ..
تذكر كتب الأدب أنه حينما أشعل الفرزدق النار للعشاء فجذبت رائحة اللّحم الذئب وأبت عليه شيمتُه العربيّة أن يردّه جائعا، فتقاسم معه الزاد وهو متيقّظ ، يده على قائم سيفه .
ويصوّر الفرزدق ذلك في هذه القصيدة الرائعة :
“وأطلس عسال و ما كان صاحبا دعوت بناري موهنا فأتاني
فلما دنا قلت : ادن دونك إنني و إياك في زادي لمشتركان
فبت أقدّ الزاد بيني و بينه
على ضوء نارٍ مرة و دخان
فقلت له لما تكشّر ضاحكًا
وقائم سيفي من يدي بمكان .
تعشَّ ، فإن واثقتني لا تخونني نكن مثل من يا ذئب يصطحبان
و أنت امرؤ يا ذئب و الغدر كنتما أخيّين كانا أرضعا بلبان
و لو غيرنا نبّهت تلتمس القرى أتاك بسهم أو شباة سنان..**
الخاتمة
هكذا حاولنا الإلمام بنقطتين هامّتين بالقراءة حول جماليّات هذا النص من أفق التوقع، والبحث في تاريخيّة الأدب، وما ذهبت اليه بالنص من فراغات، كما أنّني تغاضيت عن مواقع اللّاتحديد، والقارئ الضمني، أو المسافة الجماليةّ، وذخيرة النصّ، وسوسيولىجيا الأدب، ومنطق السؤال والجواب لأتركه للبقيّة من القرّاء للبحث فيه…
بقي ..الآن أن أترك السؤال للقراء من الاصدقاء:
هل ستُخيّب توقعاتنا هذه الحبيبة؟
القصيد
========
الشاعر حمد حاجي تونس
ولَوْ… لَم أَهَبْها قطيعَ شياهي وعمري، تَمَلَّكَتِ القلْبَ غَصبَا
كما شئتَ.. اذهب بظنّكَ، فصِّلْ حديثك.. أنِّي تعشّقتُ ذِئْـبَه
وأنِّي اقترفتُ الشقاوَةَ.. ما تَرَكَتْ لي الصبابةُ عقلا ولُبَّا
فمتْ كمدا.. أنا بين يديها تقبلني وألاعبُها…! والفتى ازدادَ حبّا!
المصادر والمراجع:
1-عمري، سعيد(2009). الرواية من منظور نظريّة التلقّي مع نموذج تحليلي حول رواية أولاد حارتنا لنجيب محفوظ. فاي: منشورات مشروع النقديّ ونظريّة الترجمة ص31
2- ياوس، هانس روبرت(2016). جماليّة التلقّي: من أجل تأويل جديد للنّص الأدبيّ(ط١)، تر.رشيد بنحدو. تونس: كلمة للنشر والتوزيع.ص:56
2-Jauss,H.R.(1978). pour une esthétique de la reception, trad. de l’allemand par claud maillard. Préfacede Jean starobinski. Paris:Gallimard.
3-انظر :محمّد فريد، تاريخ الرومانيّين( القاهرة: كلمات عربيّة للنشر2012)ص174